عَجَائِبُ الحُسَين.. يَدٌ تُقَبَّل! وإصبَعٌ يُقطَع!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ تقبيلَ اليَد عادةٌ عند بعض الشُّعوب.. يُريدون بها التعظيم والتفخيم.
فبعضهم يقبِّلُ يَدَ أبويه، وبعضهم يد قادته وسادته وأشرافه.
أمّا عندنا.. فقد روي عن الصادق عليه السلام: لَا يُقَبَّلُ رَأْسُ أَحَدٍ وَلَا يَدُهُ إِلَّا يَدُ رَسُولِ الله (ص) أَوْ مَنْ أُرِيدَ بِهِ رَسُولُ الله (ص) (الكافي ج2 ص185).
وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز أو استحباب تقبيل يد الهاشمي أو العالِم إذا أريد بها رسول الله صلى الله عليه وآله، وأضاف بعضهم يد الوالدين..
لكنَّ أبرزَ مِصداقٍ ممَّن يُراد به رسولُ الله صلى الله عليه وآله هم أوصياء النبيِّ صلى الله عليه وآله.
فعن صاحب السابريّ قال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (ع) فَتَنَاوَلْتُ يَدَهُ فَقَبَّلْتُهَا، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ (الكافي ج2 ص185).
وفي يوم عاشوراء.. كان الحسين عليه السلام هو وصيُّ النبيِّ، وقد قال صلى الله عليه وآله: حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ.
في يوم عاشوراء.. لو أراد أحدٌ تعظيم الرَّسول بتقبيل يده، لما عدا الحسينَ عليه السلام، ولسارَعَ إلى تقبيل يده الشريفة الطاهرة.
لقد أدرَكَ الكُمَّلُ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله هذا المعنى، حينما كان جمعٌ من الصحابة عند النبيِّ صلى الله عليه وآله، فدَخَلَ الحسن والحسين عليهما السلام، فقبَّلَهما رسول الله صلى الله عليه وآله.
إنَّ لتقبيل الأولاد حسنة عند الله تعالى، فعن النبيِّ صلى الله عليه وآله: مَنْ قَبَّلَ وَلَدَهُ كَتَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَسَنَةً (الكافي ج6 ص49).
وقد حثَّت الشريعة على تقبيل الأطفال، بل عَدَّت مَن لا يقبِّلُ الأطفال قطّ من أهل النار! فالقبلة تكشف عن لين القلب، وعن الرحمة التي فيه، ومن كان مؤمناً كان ليِّنَ القلب، وكان عطوفاً رؤوفاً.
لكنَّ في تقبيل النبيِّ صلى الله عليه وآله للحسنين ما هو أبعدُ من ذلك.. وهو ما كشفه فعلُ أبي ذرٍّ بعد تقبيل النبيّ صلى الله عليه وآله لهما.
ذاك حين: قَامَ أَبُو ذَرٍّ فَانْكَبَّ عَلَيْهِمَا وَقَبَّلَ أَيْدِيَهُمَا! (كفاية الأثر ص70).
أبو ذر شخصيةٌ عظيمة الشأن في تاريخ الإسلام، فهو من الصحابة العظماء الذين مدحهم الصادق الأمين بما لم يمدح به غيرهم.. يقوم ويُقَبِّلُ أيدي الحسن والحسين!
أيُّ موقفٍ هو هذا؟!
ومَن ذا الذي يفهمه؟! ويعرف أبعداه؟!
لقد استنكر سائر الصحابة الحاضرين على أبي ذرٍّ فعله! لكنَّهم أسرُّوا له ذلك ولم يجهروا بقولهم أمام النبي صلى الله عليه وآله.
قالوا لأبي ذرّ سِرَّاً: أَنْتَ رَجُلٌ شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله، تَقُومُ إِلَى صَبِيَّيْنِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَتَنْكَبُّ عَلَيْهِمَا وَتُقَبِّلُ أَيْدِيَهُمَا؟! (إرشاد القلوب ج2 ص415).
كان جوابُه غريباً، قال لهم: لَوْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ فِيهِمَا مِنْ رَسُولِ الله (ص) لَفَعَلْتُمْ بِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلْتُ!
هذا شيخٌ يُقبِّلُ يَدَ صبيَّين تعظيماً لهما! ثمَّ يقول أنَّهما يستحقّان أكثر من ذلك!
فما الذي قاله فيهما النبيُّ صلى الله عليه وآله؟!
سألوه عن ذلك.. فأجابهم قائلاً:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَلِيٍّ وَلَهُمَا:
- يَا عَلِيُّ، وَالله لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى وَصَامَ حَتَّى يَصِيرَ كَالشِّنِ الْبَالِي إِذًا مَا نَفَعَ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ إِلَّا بِحُبِّكُمْ!
- يَا عَلِيُّ مَنْ تَوَسَّلَ إِلَى الله بِحُبِّكُمْ فَحَقٌّ عَلَى الله أَنْ لَا يَرُدَّهُ!
- يَا عَلِيُّ مَنْ أَحَبَّكُمْ وَتَمَسَّكَ بِكُمْ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى!
قال أبو ذر هذا ثمَّ خَرَج..
فقام القومُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله، وسألوه عمَّا سمعوه من أبي ذر، فقال صلى الله عليه وآله:
صَدَقَ أَبُو ذَرٍّ، صَدَقَ!
وَالله مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ!
ثمَّ بدأ النبيُّ يُحدِّثُهم بالمزيد من فضائل أهل بيته.. والحسين منهم.. فهم الذين خلقهم الله نوراً قبل خلق آدم بآلاف السنين..
ظَلَّ النبيُّ يُحَدِّثُهم عن فضائلهم، حتَّى تَعَجَّبَ الحاضرون، وقالوا: يَا رَسُولَ الله لَقَدْ قُلْتَ عَجَباً!
فقال صلى الله عليه وآله: وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْماً يَسْمَعُونَ مِنِّي هَذَا ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمُ الله! وَيُؤْذُونَنِي فِيهِمْ! لَا أَنَالهمُ الله شَفَاعَتِي (كفاية الأثر ص73).
ههنا يتوقَّفُ المؤمن ليقارن بين فئتين من الناس..
الفئة الأولى.. أعداء الحسين عليه السلام
هم قومٌ سمعوا النبيَّ يحثُّ على تعظيم الحسين عليه السلام، ويُحَذِّرُ من أذيته، ويدعو على من آذاه بالحرمان من الشفاعة..
سمعوه من لسانه صلى الله عليه وآله.. لكنَّهم ما فَعَلوا كما فعل أبو ذرّ..
ما قبَّلوا يَدّ الحُسين وما عَظَّموه!
بل غدوا عليه فقاتلوه!
ثمَّ امتدَّت أيديهم الخبيثة إلى يد سيد الشهداء..
لا لتُمسِكَهَا وتُقَبِّلَها!
بل لِتَقطَعَ إصبعاً شريفاً منها!
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد روي أنَّه: أَخَذَ خَاتَمَهُ بَجْدَلُ بْنُ سُلَيْمٍ الْكَلْبِيُّ، وَقَطَعَ إِصْبَعَهُ (ع) مَعَ الخَاتَم!! (اللهوف ص130).
فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.
هي فئةٌ تقطع إصبع الحسين من يده بدلاً من تعظيم اليد المباركة وتقبيلها وتجليلها..
هي فئةٌ تذبح الحسين كما يُذبَحُ الكبش مظلوماً! بدلاً من الذَّبِّ والدِّفاع عنه!
هي فئةٌ تطأ صدر الحسين الطاهر بخيولها! وهو الصدر الذي لطالما ضمَّه الرَّسول صلى الله عليه وآله..
هي فئةٌ تستحقُّ أن يدعو عليها النبيّ صلى الله عليه وآله.. وأن ينتقم منها الإمام المنتظر.. والإمام الحسين في كَرَّته.. وفي يوم القيامة.. قبل أن تصلى ناراً سَجَّرها الجبَّار لغضبه..
الفئة الثانية: أحباب الحسين عليه السلام
هُم قومٌ فَقِهوا قولَ أبي ذرٍّ في الحسنين عليهما السلام:
لَوْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ فِيهِمَا مِنْ رَسُولِ الله (ص) لَفَعَلْتُمْ بِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلْتُ!
وفقهوا ما قال النبيُّ صلى الله عليه وآله فيهما عليهما السلام.
فقَبَّلوا كلَّ شِبرٍ في ضَريح الحسين عليه السلام.. لمّا عجزوا عن تقبيل يده المباركة..
وقَبَّلوا كلَّ بابٍ وجِدارٍ وأرضٍ وفِراشٍ جاوَرَ ضريحه المبارك.
هُم قومٌ تَبَرَّكوا بكلِّ طَعامٍ يُبذَلُ في مجالسه.. لِمَا اعتقدوا من عظيم فضله عند الله..
هُم قومٌ توجَّهوا إلى الله بالحسين عليه السلام، لأنَّهم صَدَّقوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله له ولأبيه وأخيه: يَا عَلِيُّ مَنْ تَوَسَّلَ إِلَى الله بِحُبِّكُمْ فَحَقٌّ عَلَى الله أَنْ لَا يَرُدَّهُ!
هم القوم الذين سالَت الدِّماءُ من رؤوسهم في عاشورائه.. مواساةً له.. وتعظيماً لشأنه.. وتأكيداً على الوقوف إلى جانبه.. لو وفَّقَهم الله ليكرّوا معه في رجعته..
اللهم اجعلنا من هؤلاء.. وثبِّتنا على ولايته ما أحييتنا..
اللهم إنك تعلم أنَّنا نُحبُ تعظيم وليِّك.. وتجليله.. والذَّب عنه.. بأنفسنا وأرواحنا.. وكلّ ما نملك..
اللهم اجعلنا ممَّن توفِّقُه لذلك..
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ليلة الأحد، الحادي عشر من شهر محرم الحرام 1445 هـ، الموافق 29-7-2023م.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat