مفردات الشهادة في القرآن الكريم (في سبيل الله) (ح 4)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تكملة للحلقات السابقة جاء في تفسير الميسر: قال الله تعلى عن القتل والجهاد في سبيل الله "لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" ﴿النساء 95﴾ سبيل اسم، الله اسم علم، لا يتساوى المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله غير أصحاب الأعذار منهم والمجاهدون في سبيل الله، بأموالهم وأنفسهم، فضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين، ورفع منزلتهم درجة عالية في الجنة، وقد وعد الله كلا من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم والقاعدين من أهل الأعذار الجنة لِما بذلوا وضحَّوا في سبيل الحق، وفضَّل الله تعالى المجاهدين على القاعدين ثوابًا جزيلا. قال الله سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" ﴿المائدة 54﴾ يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه من يرجع منكم عن دينه، ويستبدل به اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك، فلن يضرُّوا الله شيئًا، وسوف يأتي الله بقوم خير منهم يُحِبُّهم ويحبونه، رحماء بالمؤمنين أشدَّاء على الكافرين، يجاهدون أعداء الله، ولا يخافون في ذات الله أحدًا. ذلك الإنعام مِن فضل الله يؤتيه من أراد، والله واسع الفضل، عليم بمن يستحقه من عباده. قال الله عز اسمه "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (الانفال 72) إن الذين صدَّقوا الله، ورسوله وعملوا بشرعه، وهاجروا إلى دار الإسلام، أو بلد يتمكنون فيه من عبادة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله بالمال والنفس، والذين أنزلوا المهاجرين في دورهم، وواسوهم بأموالهم، ونصروا دين الله، أولئك بعضهم نصراء بعض. أما الذين آمنوا ولم يهاجروا من دار الكفر فلستم مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا، وإن وقع عليهم ظلم من الكفار فطلبوا نصرتكم فاستجيبوا لهم، إلا على قوم بينكم وبينهم عهد مؤكد لم ينقضوه. والله بصير بأعمالكم، بجزي كلا على قدر نيته وعمله. قال الله تبارك وتعالى "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" ﴿الأنفال 74﴾ والذين آمنوا بالله ورسوله، وتركوا ديارهم قاصدين دار الإسلام أو بلدًا يتمكنون فيه من عبادة ربهم، وجاهدوا لإعلاء كلمة الله، والذين نصروا إخوانهم المهاجرين وآووهم وواسوهم بالمال والتأييد، أولئك هم المؤمنون الصادقون حقًا، لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم واسع في جنات النعيم.
عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قال الله تعلى عن القتل والجهاد في سبيل الله "وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ" ﴿البقرة 154﴾ فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا "بل أحياء" أي بل هم أحياء وقيل فيه أقوال (أحدها) وهو الصحيح أنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وإليه ذهب الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء واختاره الجبائي والرماني وجميع المفسرين (والثاني) أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون فيذهبون فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه وأنهم سيحيون يوم القيامة ويثابون عن البلخي ولم يذكر ذلك غيره و(الثالث) معناه لا تقولوا هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة والهدى ومثله قوله سبحانه "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ " (الانعام 122) فجعل الضلال موتا والهداية حياة عن الأصم و(الرابع) أن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر والثناء كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة والمعتمد هو القول الأول لأن عليه إجماع المفسرين ولأن الخطاب للمؤمنين وكانوا يعلمون أن الشهداء على الحق والهدى وأنهم ينشرون ويحيون يوم القيامة فلا يجوز أن يقال لهم "ولكن لا تشعرون" من حيث أنهم كانوا يشعرون ذلك ويقرون به ولأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر ولو كانوا أيضا أحياء بما حصل لهم من جميل الثناء لما قيل أيضا ولكن لا تشعرون لأنهم كانوا يشعرون ذلك ووجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء وإن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ أنه على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم ثم البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون كما في الآية الأخرى يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله. فإن قيل نحن نرى جثث الشهداء مطروحة على الأرض لا تنصرف ولا يرى فيها شيء من علامات الأحياء فالجواب أن على مذهب من يقول بالإنسان من أصحابنا أن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعمون فيها دون أجسامهم التي في القبور فإن النعيم والعذاب إنما يحصل عنده إلى النفس التي هي الإنسان المكلف عنده دون الجثة. ويؤيد ذلك ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى علي بن مهزيار عن القاسم بن محمد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان قال كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالسا فقال ما يقول الناس في أرواح المؤمنين قلت يقولون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش فقال أبوعبد الله سبحان الله المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. وعنه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين فقال في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان فأما على مذهب من قال من أصحابنا إن الإنسان هذه الجملة المشاهدة وإن الروح هو النفس المتردد في مخارق الحيوان وهو أجزاء الجو فالقول إنه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحي حيا بأقل منها يوصل إليها النعيم وإن لم تكن تلك الجملة بكمالها لأنه لا معتبر بالأطراف وأجزاء السمن في كون الحي حيا فإن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا وربما قيل بأن الجثة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة ولا تكون ميتة فتصل إليها اللذات كما أن النائم حي وتصل إليه اللذات مع أنه لا يحس ولا يشعر بشيء من ذلك فيرى في النوم ما يجد به السرور والالتذاذ حتى أنه يود أن يطول نومه فلا ينتبه وقد جاء في الحديث أنه يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس. وقوله "ولكن لا تشعرون" أي لا تعلمون أنهم أحياء وفي هذه الآية دلالة على صحة مذهبنا في سؤال القبر وإثابة المؤمن فيه وعقاب العصاة على ما تظاهرت به الأخبار وإنما حمل البلخي الآية على حياة الحشر لإنكاره عذاب القبر.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قال تعالى: "لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء 95) واضح من هذه الآية أنّ المقصود بالقاعدين فيها هم أولئك المؤمنون بالإسلام الذين لم يشاركوا في الجهاد في سبيله بسبب افتقارهم إلى العزم الكافي لذلك، وتبيّن هنا ـ أيضا ـ أنّ الجهاد المقصود لم يكن واجبا عينيا، فلو كان واجبا عينيا لما تحدث القرآن عن هؤلاء التاركين للجهاد بمثل هذه اللهجة المرنة ولم يكن ليوعدهم بالثواب. وعلى هذا الأساس فإنّ فضل المجاهدين على القاعدين لا يمكن إنكاره حتى لو كان الجهاد ليس واجبا عينيا، ولا تشمل الآية بأي حال من الأحوال أولئك الذين أحجموا عن المشاركة في الجهاد نفاقا، وعدوانا ويجب الانتباه ـ أيضا ـ إلى أنّ عبارة "غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ" لها مفهوم واسع يشمل كل أولئك الذين يعانون من نقص العضو أو المرض أو الضعف الشديد، مما يحرمهم من المشاركة في الجهاد، فهؤلاء مستثنون من ذلك. وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكد في نهاية المقارنة، أنّ الله وهب المجاهدين أجرا عظيما، "فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً". ولكن كما أسلفنا لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف أولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجبا عينيا أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة أخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمانه وأعمال صالحة أخرى فقد وعدوا خيرا حيث تقول الآية الكريمة: "وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى" إلّا أنّه من البديهي أن هناك فرقا شاسعا بين الخير الذي وعد به المجاهدون، وبين ذلك الذي يصيب القاعدين من العاجزين عن المشاركة في الجهاد. وتبيّن الآية القرآنية في هذا المجال: أنّ لكل عمل صالح نصيب محفوظ من الثواب لا يغفل ولا ينسى، خاصّة وهي تتحدث عن قاعدين أحبّوا المشاركة في الجهاد وكانوا يرونه ساميا مقدسا، وبما أن عدم كون هذا الجهاد واجبا عينيا قد حال دون تحقق هذا الهدف السامي المقدس فإن أولئك الذين قعدوا عن المشاركة فيه سينالون من الثواب على قدر رغبتهم في المشاركة، أمّا أولئك الذين عجزوا عن المشاركة بسبب عاهة أو مرض إلّا أنّهم كانوا يرغبون في الاشتراك في الجهاد برغبة جامحة، بل كانوا يعشقون الجهاد، لذلك فإنّ لهم أيضا سهم ونصيب لا ينكر من ثواب المجاهدين، كما جاء في حديث مروي عن الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب فيه جند الإسلام فيقول: (لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم، وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وهوت أفئدتهم للجهاد وقد منعهم عن المسير ضرر أو غيره). وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جدا، لذلك تتطرق الآية مرّة أخرى للمجاهدين وتؤكد بأن لهم أجرا عظيما يفوق كثيرا أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، "وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً" (النساء 95).
تكملة للحلقات السابقة جاء في شبكة المعارف الاسلامية الثقافية عن الشهيد في الإسلام: سادساً: مسؤولية الشهيد في القرآن والروايات: العمليّة التي تؤدّي إلى الشهادة أي إلى الموت الواعي على طريق الهدف المقدس، قد اتّخذت في الإطار الإسلامي شكل مبدأ هو "الجهاد". ولو أردنا أن نوضح هذا المبدأ، فثمة أسئلة متعددة تطرح نفسها على بساط البحث منها: هل أنّ ماهية هذا المبدأ دفاعيّة أو هجوميّة؟ وإنْ كانت دفاعيّة، فهل ينحصر في إطار الدّفاع عن الحقوق الشّخصية والقوميّة، أم يتَّسِعُ نطاقه ليشمل الحقوق الإنسانيَّة، كالحرية والعدالة؟ وهل التوحيد جزء من الحقوق البشرية والإنسانية أم لا؟ وهل مبدأ الجهاد يتنافى أساساً مع حقّ الحرية أم لا؟ الإجابةُ عن هذه الأسئلة تتطلَّبُ الخوض في بحوثٍ وتفصيلاتٍ شيِّقَةٍ مفيدةٍ لا مجال لها في حديثنا هذا.. فنكتفي بالقول: إنّ الإسلام ليس بالدين الذي يدعو الفرد إلى إدارة خدّه الأيسر إنْ صُفع على خده الأيمن، وليس بالدين الذي يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. وليس الإسلام بدين يفتقد الهدف ويعدم خط الدفاع والدعوة. آيات عديدة في القرآن الكريم تذكر ثلاثة مصطلحات مقرونة مع بعضها بعضاً (الإيمان) و(الهجرة) و(الشهادة). إنسان القرآن موجود مرتبط بالإيمان ومتحرّر من كلّ شيء آخر، وهو الموجود الذي يهاجر لينقذ إيمانه، ويجاهد لإنقاذ إيمان المجتمع، أو بعبارة أخرى، لإنقاذ المجتمع من براثن الكفر والشرك. يطول بنا الحديث لو استعرضنا الآيات والروايات الواردة في هذه الحقل. لذلك نكتفي بإلقاء الضوء على جمل معدودات من إحدى خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْداد وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ وَمُنِعَ النَّصَفَ). فالجهاد، باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه. نعم لخاصّة أوليائه، وهي كلمة لها مدلولها العميق. بابُ الجهاد غير مفتوح بوجه الجميع، لأنّ وسام المجاهد لا يتقلّده إلّا من كان لائقاً لذلك، وأولياء الله غير لائقين بأجمعهم لتقلّد هذا الوسام، بل خاصّة أولياء الله. ورد في القرآن الكريم: إنّ للجنّة ثمانية أبواب. فلم هذه الأبواب الثمانية؟ أللتخفيف من شدّة الازدحام؟ غير معقول لأنّ العالم الآخر ليس بعالم تزاحم. والله قادر على أن يدخل جميع عباده الجنة دونما تأخير أو انتظار كقدرته على محاسبتهم السريعة "وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (البقرة 202). هل الهدف من تعدّد الأبواب تقسيم الناس إلى طبقات بحسب مكانتهم أو مشاغلهم الدنيوية؟ كلا هذا غير ممكن أيضاً، فليس ثمة معيار سوى التقوى. تعدّد الأبواب ليس له مفهوم سوى تعدّد الدرجات، لا الطبقات. للإيمان والعمل والتقوى مراتب ودرجات، ولكلّ درجته ومنزلته في مدارج الإيمان والعمل والتقوى، بمقدار ما طوى من المراحل التكاملية لهذه المدارج في الحياة الدنيا. ولكلّ فئة طوت مرحلةً معينةً من مراحل تكاملها بابٌ تدخلُ منه الجنَّةُ في الحياة الأخرى حسب درجتها ومنزلتها، أي حسب ما طوته من أشواطٍ على طريق إيمانها وعملها وتقواها في هذه الحياة، فذاك العالم تجسُّدٌ ملكوتيٌّ لهذا العالم. الباب الذي يدخل منه المجاهدون إذن هو الباب المفتوح لخاصّة أولياء الله، يلجون منه لينالوا فوز القرب الإلهي. والإمام يصفُ الجهادَ بعد ذلك بأنّه لباس التقوى. والتقوى تعني "الطهر الحقيقي"، الطهر الحقيقي من كلّ الآثام. من المعلوم أنّ جذور الآثام الروحية والخلقية هي الكبر والغرور والأنانية. ومن هنا فإنّ المجاهد الواقعي أتقى الأتقياء. فربّ متّق طهر من الحسد، وآخر من الكبر، وآخر من الحرص، وآخر من البخل. لكنّ المجاهد أطهر الطاهرين، لأنّه ضحى بكلّ وجوده، ولذلك اختص بباب من أبواب الجنّة لا يناله سائر الطاهرين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat