التفاؤل المفرط وخيبات الامل
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ان التفاؤل المفرط والثقة الزائدة بالآخرين قد تفضي الى خيبات الامل والاحباط , وكان الفيلسوف الرواقي سينيكا يؤمن بأن ما يدفعنا إلى الغضب والتألم والإحباط من عدم استجابة القدر لما فكرنا فيه ورغبنا بتحقيقه على ارض الواقع ، هو التفاؤل المبالغ فيه، تجاه الحياة والأشياء ؛ اذ قال : (( إن ما يدفعنا إلى الغضب هي أفكارٌ تفاؤلية على نحو خطير بشأن ماهية العالم والناس )) والنصيحة الخطيرة اللي يسديها إلينا الفيلسوف الروماني سينيكا ؛ مفادها : "يجب ان نبقي في ذهننا احتمالية وقوع كارثة في أي لحظة ! ؛ حتى إنه وصف تفاؤلنا وحسن ظننا بالواقع، بأنه "براءة خطيرة" ... ؛ واكمل سينيكا رؤيته الفلسفية , قائلا : (( الطبيعة لم تخلق مكانا يتسم بالثبات… لا شيء مستقر , مصائر البشر، ومصائر المدن، في دوامة )) ويؤمن سينيكا بقوة؛ بأن الإيمان بهذا اللاثبات في الحياة ، يقلل إحباطنا أمام الأشياء إذا لم تحصل مثل ما نتوقع ... , فكلما كان الشخص أكثر تفاؤلا وحدث ما لم يتوقعه، كلما كان أكثر انهيارا وتأثرا والعكس صحيح ... , ولا يفهم من مقولة سينيكا الفلسفية الدعوة الى التشاؤم واليأس او العبثية , بقدر ما تدعو الانسان الى الاتزان والواقعية وعدم الانسياق وراء احلام اليقظة ومشاعر التفاؤل المبالغ فيه والزائد عن الحد الطبيعي , والدليل على صحة ما ذهبنا اليه , مقولته الشهيرة : ((لا تسمح لمجرد يوم سيئ أن يشعرك أن حيــــاتك سيئة )) بخلاف دوستويفسكي القائل : (( لا تسمحوا لمجرد يوم جميل أن يشعركم بأن لديكم حياة سعيدة، حياتكم جحيم وستبقى كذلك!! )) فالرجل ليس ظلاميا او تشاؤميا ؛ اذ كان يحارب الانفعالات ويدعو إلى لغة العقل المتزن، فالرجل الحكيم في نظره هو الذي يسمو على الغضب متجاوزاً تجارب الحياة القاسية ؛ وبما ان التفاؤل المفرط احد اسباب الغضب , فالأجدر بالمرء تجنبه ايضا , فمن كان يؤمن بكلام سينيكا لن يخاف من أي مرض أو كارثة أخرى لأنه يتوقف حدوثها اولا , ويعلم بطبيعة وحتمية هذه الامور والاحداث في الحياة ثانيا ؛،أما المتفائلون - المفرطون بالتفاؤل – والحالمون فلا عزاء لهم، لأنهم سوف يصدمون بحقائق الامور وقسوة الواقع ؛ وقد يتحول العالم بنظرهم الى غابة او كتلة من التناقضات... ؛ فهو عندما يدعونا الى عدم الافراط بالتفاؤل وتوقع الاحداث السيئة , لا يقصد من ذلك , ترك المرء للتفاؤل بصورة قطعية , وملازمة الشعور بالتعاسة بسبب توقع المصائب والبلايا , بقدر ما يدعو الى الواقعية والاستعداد النفسي والعقلي الكامل لكل التحديات والتحولات والازمات التي قد تطرأ على حياة المرء , فهو يطلب منا عدم المبالغة بالتفاؤل وكذلك بالاسى والحزن والقلق , لذلك اشار سينيكا على صديقه , قائلا : (( ما أنصحك به هو ألا تكون تعيسا قبل حلول الأزمة؛ لأنه يمكن للأخطار التي يشحب لونك قبلها كما لو كان تهديدها واقعا ألا تصيبك؛ فهي بالتأكيد لم تأت بعد ؛ وبالتالي ، فإن بعض الأشياء تعذبنا أكثر مما ينبغي لها أن تعذبنا، وبعضها يعذبنا قبل أن يجب وبعضها يعذبنا في حين لا يجب أن يعذبنا على الإطلاق ؛ إننا واقعون تحت وطأة عادة المبالغة في الأسى أو تخيله وتوقعه )) .
نعم انه يطلب منا عدم تبديد طاقاتنا العقلية ومشاعرنا العاطفية ؛ فالتفاؤل المفرط قد يؤدي الى الالم والندم , وكذلك المقلقات غير المعقولة , بل حتى الامور المتوقعة التي نخاف منها احيانا قد لا تقع , فكم مرة حدث ما هو غير متوقع ! وكم مر المتوقع دون حدوث ! ورغم كونه مقرر الحدوث، فقد يهيء العقل لنفسه في بعض الأحيان أشكالا غير حقيقية من الشر بينما لا علامات تشير إلى أي شر ؛ ويحول بعض الكلمات ذات المعاني المبهمة إلى أسوأ الأشكال أو يعتبر بعض الضغينة الشخصية أكثر خطورة مما هي عليه حقا ... ، فالمهلكة الأكبر من القلق في غير محله -كما يحذر سينيكا- تكمن في أنه عبر إبقائنا متوترين دائما في انتظار كارثة متخيلة، يمنعنا القلق من عيش الحياة لأقصاها... ؛ وينهي رسالته لصديقه ؛ بنص مقتبس لأبيقور: "الأحمق هو من يتأهب للحياة دائما"... ؛ اي الذي يبالغ بحدوث الشر او الخير , ولا يعيش الواقعية والاتزان .
البعض يملئ رأسه بمئات الأحلام الطوباوية ويغذي خياله بمئات مماثلة من الصور السعيدة و التي تخبر أصحابها كم ستكون الحياة سعيدة عندما تحقق هذه الأحلام , والبعض الاخر يعيش احلام اليقظة بصورة مرضية , وعندها يفقد القدرة على التمييز بين ما هو واقعي وما هو خيالي وما بين الحقيقة المرة والمفروض حصوله , ورُبّما يُعلِّق البعض آمالاً عريضة على الغير , ويثقون ثقة عمياء بالآخرين , واذا بهم يصدمون كما صدم من قبلهم الشاعر ابو العلاء المعري , الذي انشد قائلا :
وَهَّمتُ خَيراً في الزَمانِ وَأَهلِهِ *** وَكانَ خَيالاً لا يَصِحُّ التَوَهُّمُ
فَما النورُ نَوّارٌ وَلا الفَجرُ جَدوَلٌ *** وَلا الشَمسُ دينارٌ وَلا البَدرُ دِرهِمُ
فالإنسان الذي يرفع كثيرا من سقف تطلعاته واهدافه واحلامه بحيث لا تتناسب مع امكاناته التي يقف عليها او واقعه وبيئته ؛ سيصاب دائما بالإحباط والغضب وعدم القناعة ولن يتمتع بالتوازن النفسي او بما هو موجود بين يديه ؛ وعندها ينطبق عليه المثل الشعبي القائل : (( ال تمنه ما تهنه ... ؛ او الذي ينظر الى قصر الغير يخرب كوخه )) .
نعم ان الذي يحقق الاحلام والاهداف , ويخفف من وقع الاحداث والمصائب ؛ التخطيط العلمي والرؤية الواقعية وتقدير الامور تقديرا حكيما ؛ والاستعداد للطوارئ والتكيف مع التقلبات والتحديات والازمات , والتفكير الاستراتيجي في كيفية الخلاص منها , وتنمية الطاقات واكتساب المهارات ؛ فلابد من الربط بين سقف الطموحات وحقيقة الامكانيات ؛ اذ ان ارتفاع سقف الطموحات الذي يصاحبه قصور بالإمكانيات لتحقيقها ؛ يبعدنا عن السعادة ويقربنا من التعاسة ؛ وعندما نكون على يقين اننا نعيش بتوازن تام و واقعية عقلانية ؛ عندها ينتج الاستقرار العاطفي و الرضا على الحياة والتكيف مع احوالها وتقلباتها المفاجئة .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat