صفحة الكاتب : عباس خلف علي

إشكالية التجنيس في الفضاء الثقافي للقصيدة القصيرة جدا
عباس خلف علي

 نحن ندرك ما تعني مهمة التجنيس في ضوء العملية الإبداعية من تحوير صناعة إلى ما يذهب إليه التعبير في صياغة أخرى ، ولذا في حالة القصيدة القصيرة نلمس في استراتجيات كتابتها بعدا هيوليا لا يقف عند حد في توطيد علاقتها بالمعنى وتخليق وجوده وانتمائه وهويته من أجل أن تبقى في دقتها ونقاوة انتقاء مفرداتها العاكسة للنظم على حد قول الجرجاني أمر يشغل كتاب هذا اللون من الشعر الذي نعتقد ولوجه لم يكن أمر هينا أو سهلا كما يظن البعض الذي يشيع من دون مسوغ أنه يكتب هذا اللون لتزجية الوقت ليس إلا ، من دون أن يدرك أن هذا الفن لا يمكن ممارسته من دون تجربة كبيرة قادرة على استفزاز ذهنية التلقي وتحريك الراسب في القاع وتفعيل الرؤى .
إن ملامح القصيدة القصيرة مركبة من عدة عوامل لا يمكن تجاهلها أو اختراقها بسهولة وخصوصا أن التقنيات الحديثة للنص بصورة عامة أصبحت متقاربة ومتجاورة ، وهذا ينسحب مثلا على تقنيات القصيدة و القصة القصيرة جدا فكلاهما يسعى إلى الإفلات من الآخر والاحتفاظ بهويته وتجنيسه ولكن الذي يحصل أبعد ما يكون للمتتبع أن يلمس في هذين الجنسين فرادة ظاهرة وعازلة ومنفصلة ..
وهنا يتجلى لنا أن نحدد في هذا الأشكال ما ذهب أليه عبد الفتاح كليطو في القراءة اللحظية والقراءة التأملية وأسماهما بنوع الاستدعاء ونوع التوظيف ومن خلالهما نحاول أن نستبين نحن قراءتنا بهذين المدلولين بعد أن نعطي لكل منهما طبيعة اشتغاله مع النص ،فالاستدعاء ليس بالضرورة أن يكتفي بالنص من دون معرفة طبيعة الواقع والظرف الاجتماعي الذي يحيط بالمنتج ويأتي نوع التوظيف كرد فعل لهذا الواقع ...ومن هنا (1) يمكن لنا أن نتداول في حيثيات المقروء طبيعة النص الذي تحتوي أنساقه على بنية دالة فنقرأ في القصيدة القصيرة جدا طاقة الإيحاء الذي تسكنه روح الشعر وإذا ما أردنا مقارنة هذا المعنى بالبوح السردي للقصة القصيرة جدا فأننا نحصل بالنتيجة على قيمة متجانسة موحدة للجنسين يصعب معهما تميز الخصائص في أبعاد الصورة المجسدة لماهية أي منهما .
وهنا تصبح ثنائية التبادل قائمة في المروي والغرضي ( المروي نقصد عمل السرد والغرضي نعني بيه الشعر )لكلا الجنسين وسعيهما إلى تشكيل الملامح والمعاني وتجسيد رؤاهما الدلالية في النسق أو كما تسميه بشرى موسى صالح ، أثر انعكاس الصورة على الذهن .
إذ ترتكز القصيدة القصيرة جدا على التكوين المدهش (2)، أي على المفردة الزئبقية المكتنزة لمعناها التي يمكن أن تمنح التلقي أو السامع فرصة الاستعارة والتشبيه التي توفرها طبيعة المجاز في النسق الفاعل دائما ما يظهر في نهاية الجملة الشعرية ، وهو ذاته ما نلمسه بوضوح في طريقة كتابة القصة القصيرة جدا ...
فالمشتركات الأساسية لهذين الجنسين في التقطيع والتجريد والتكثيف والاختزال تضع بالفعل التلقي أمام لحظتي كليطو أثناء القراءة اللحظية والتأملية في استدراج المعنى الذي يلوح في الأفق بغية تصورها ومدى قوتها في ضرب جذور الأحاسيس .
ومن ذلك نفهم أن القصيدة القصيرة جدا تجعل النص الشعري إيحائيا سحريا كما يقول الكاتب السوداني محمد جميل من خلال التعمد إلى شعرية التفاصيل وتجريد اليومي من ضغط التاريخ وتكثيف المعنى عبر أنزياحات تتجاوز الواقع , وهو مايحصل في القص القصير جدا تماما حيث يكون السرد متقاربا ومتجانسا مع طبيعته التعبيرية في التكثيف والاختزال وبذلك تنعم طاقة الجنسين القصصي والشعري بذات المزايا الموصوفة للآخر ، وهو غالبا ما يطلق على هذا النوع من التمازج في الأداء والآلية –بالقناع الجانوس – الذي فيه تحتشد الطاقة الإيحائية والإيمائية على خلق نوع من الدهشة أو ما يسمى بالومضة في تركيب الصورة بحيث لا يمكن تميز الهامش الفارق إلا أن تستعيد القراءة أو السماع عدة مرات ..
من ذلك يتضح أن المبررات التي تنساق هنا أو هناك من أن الواقع فضاء للسرد والخيال فضاء للشعر غير دقيقة في راهنية المنتج اللغوي لكلا الجنسين في صنع المجاز، إذ أنهما مشتركان في خلق هذا التصور أصلا ناهيك عن المراهنة على هوامش طفيفة ممكن أن تحدث بسبب أن واقع أي نص لا ينفصل عن محيطه المرتبط بتراثه وأساطيره وهويته وعاداته وتقاليده وبيئته وحتى هذا الهامش هو يعود إلى طبيعة المثاقفة بين المنتج والمحيط الاجتماعي ليس إلا .
صحيح إن خلق التصورات يأتي من تجسيد الرؤى المعرفية في أنتاج السؤال الذي يتضمنه النص ولكن من يتورع من النصوص في الإغراق في فلسفة التكثيف الإيحائي من دون أن يترك لنا فلسفة السؤال في بنية المخاطبة .
وبهذا التوقع الذي تحمله النصوص القصيرة في تداخلها البنائي والسياقي شرعنه أغلب الدارسين تحت مسمى بالشعر السردي الذي يخترق المأزق ألتجنيسي والخروج من التباس بما يعرف بشعرنة السرد أو السرد المشعرن وفي هذه الحالة ، تختفي أهمية الأفعال الفاصلة في حضورها كدوال درامية للنص السردي مقابل طاقة الإيحاء في النص الشعري لتمنحنا فضاء تجريبي لصورة تفاعل المجاز ومدى تأثير ذلك في صنع الخيال .
نماذج مرشحة لهذا التقارب ألأجناسي :
في قصيدة سيح للشاعر جبار الكواز :
اين هي ؟(باب حطة أم شجرة زقوم )أين هي الآن ؟(ترانيم فاخته أم نعيب غراب)
أين هي الآن ؟(لهاث جياد أم صلاة نشور)
وبنفس التصور يذهب الشاعر رياض الغريب في سيرة ولد ...
ركض الولد ..أركض ركض ..
ماذا يفعل غير الركض ...
في البلد ...
وفي تلويح لكثافة المعنى يندرج الشاعر رعد زامل في تسوس الضمير..
في كل الحروب التي هدأت ....
وظلت رحاها تدور ....
رأيت الجنود ...
يخلعون أعمارهم ....
وفي قصيدة أزقة للشاعرة سمرقند الجابري ، نرى مدى تجاور الحسي والمادي في لحظة البوح الإيحائي لصورة التساؤل المكتنز للبعد المجازي المكثف في ثنايا الشعر / السرد .
الوجد تركني نصفين
الأول سمر ...
والثاني قند
أيهما الآن أنا ؟
وترد في قصيدة طفل للشاعر عبدالسادة البصري وهو يمارس التقنع في لغة الإيحاء المبطن :
أيها القديس ...
هل أكلت من جراثيم ....
الكوليرا ..ما يكفي ..II
لنرفع نخبك في وجه العالم ..
ويتكرر هذا المشهد في قصيدة القطار للشاعر علي الأمارة :
حينما يمر القطار بقربك ...
تهتز بيوتك ...
فنضحك نحن ...
نحن اللذين / ليس لنا بيوت الرمل ..
وفي قصيدة - حدوة الحصار - للشاعر علي الخباز يستدرجنا لمكان مكثف بالرموز المستوحية من طبيعة الماء دلالته ، ذاكرة المدينة ، راويا لمأساة البراءة وهي تنوء تحت ضغط الحرمان والجوع كما لوأنها حدوة تهرس باطن الرمل ، إذ أننا نلمس في فعل السرد حضورا طاغيا في التشبيه والتشكيل :
شاهد كان هو الماء .
عندما صاح واحد قايضوه ..
فما حدوة كانت فجيعتها في الرمل ..
إلا في يديه أعنتها ...
وفي قصيدة أقبل بقامتك للشاعرة حياة الشمري ،نرى نبرة المسكوت عنه تنبع من حيرة :
أصلي للطريق ..
والطريق جنون ....
أستصرخ قدمي ...
المسكون فيه ..
وفي قصيدة المياه من مجموعة الشاعر صادق الطريحي – مياه النص الأول – يختزل الشاعر لوحته الشعرية بألتماعات ومضية لاتغادر نمط السرد في التعبير عن المضمون الشعري .
نهرك ضيق ، مراكب الناجين تنتظر الإشارة للظهور ..
ما شكلك الشعري أيتها النصوص ؟..
وبنفس الطريقة كتبت قصيدة – هيروغليف- للشاعر عادل مردان وهو يقول :
في فضاء الصبح ..
تلعب / وعول / الرؤيا ..
وفي تهكم لاذع في (أكثر من صاحب) للشاعر عمار المسعودي نلمس وجه معادلة الكلمات :
ففي التاريخ ...
مزيد من الزجاج ...
يضمر للعمر طارئات كثيرة ..
أما فراس طه الصكر في لوحة (مرة تبتسمين ) مزيج من كوميديا سوداء ، فيها مرارة الذات تنعطف على آلية التفكير وهي ترشح لنا مجرد الكلمات ، أي كلمات ؟:
غابة من الوجد ...
تزرعها الكلمات ...
فأقول قفي ..
فتبتسمين ...
وفي قصيدة (نحن قعر) لشاكر مجيد سيفو تتوحد قيمة ألنص في المعنى الذي يجده التلقي :
لأننا مكثنا طويلا في كراسينا ...
هكذا أذا ننحني على بعضنا ...
في الليل ...
وننكسر ...
وهذا الانعطاف في المعنى ممكن أن نلمسه أيضا في قصيدة نصب الحرية لزهير بردى :
أفتح الباب له خشية ...
وأضيء له بالفانوس ...
ظلام الممشى ..
أما في قربان الأزمنة لكفاح وتوت لم تكن المفردة البسيطة في السياق خافته بل ينضوي لمعانها بالسؤال:
العصافير تثير الضجة ..
شوقا بعد ليل ...
وفي لعبة الألفاظ نقرأ قص لا يتجاوز بضع كلمات بعنوان صورتي للقاصة فاطمة السنوسي
سألني صورتي ..
فأعطيته المرآة ..
و في(3) جدلية الأفعال الدلالية وطاقة الخيال ترسم لوحة التماهي للقاص هيثم بهنام بردى في بضع كلمات المخبوء / المكبوت / النازف من رسغها .
يداعب بأصابعه الحبلية دمية صغيرة ..
ويستعير القاص جمال نوري نبرة الأيحاء من أفعال الدلالة كما في قصة ثوب أبيض للزفاف :
لمح الزوج وسط جلبة الصغار دمعتين صغيرتين تهيمان بلا قرار .
وتندرج في هذا السياق قصتا عمار أحمد المعنونة حكاية شرقية :
وبعد لحظات صار يلوح تلويح الغريق في هواء انكساره ..
وقصة أسماء محمد مصطفى ( خدعة ) تعيد لعبة الوهم والظل لكي يتناغم الحسي مع الإدراكي :
أدركت سر ابتساماتهم المتكررة فقد كانت الكأس غارقة في كل مرة .
بينما سعدون البيضاني في قصة ضريبة ، يلجأ إلى رمزية الظرف في تشخيص حالة البطل :
عندما تذكر أن منزله ظل وراءه بعيدا وظل يمشي ويمشي حافي لا يفكر بالتوقف ..
في حين نرى التكثيف والاختزال واضحان في عبارة قصي الخفاجي في قصته القصيرة جدا حوار الكركرة :
هرعت أمي إلى الجهاز ممتعضة حيث انغرست عينا بورخس في عيني حين ضغطت أمي على الزر فشع هائلا ضوء الوجود ...
نلاحظ إن كل الأشكال المختارة ، تستعير في نهاية البوح النصي الفعل الإيحائي المموه والمخبوء تحت قناع دلالي يتوارى فيه المعنى أحيانا ويؤجل للقراءة التأملية ، وأحيانا يتفاعل مع القراءة اللحظية وفي كلا الحاليتين نلمس أن حركة الومضات المنفلتة من سياق النص تميل إلى التساؤل كي لا تفقد الصور سحرها في تصوراتنا المنحازة لتشكيل الملامح , وفي هذا الصدد يقول سعيد يقطين (4)، أن من الصعب أن تنفرد هوية الجنس الأدبي وتنحصر في عدة كلمات مختزلة ومكثفة ومركزة في لوحة قصيرة جدا , ولكن يبقى اللون يسعى للتعبير في سياق التجريب إلى رصد المتغيرات على مختلف أشكالها الواقعية والسياسية والاجتماعية ولا بالضرورة أن يعكسه كمرآة ستندال وباعتقادي المتواضع أن هذا الفن يحاول أن يكسر هذه المرآة لحساب تضمين آخر هو المقصود في النهاية .
الهوامش :
1- محمد رمصيص ، قتل الأب والنص المغامر قراءة في تشكيل قصة الومضة في المغرب ، موقع منتديات بوابة العرب / شبكة الانترنيت .
2- لغة الشعر العراقي المعاصر عمران الكبيسي ط2 وكالة المطبوعات الكويت
3- بنية اللغة الشعرية جان كوهين ت محمد العربي دار توبقال المغرب1986
4- سعيد يقطين محاضرة متلفزة ألقاها في الملحقية الثقافية السعودية في المغرب 2010
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عباس خلف علي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/30



كتابة تعليق لموضوع : إشكالية التجنيس في الفضاء الثقافي للقصيدة القصيرة جدا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : حلمي سيف... القاهرة ، في 2013/02/17 .

هناك من يسمي القصيدة القصيرة جدا---الومضة والشذرة ... لكن أشهر أسمائها هو --قصيدة التوقيعة وهو مصطلح للشاعر عزالدين المناصرة من فلسطين عام 1964 حيث قدمه في قصيدة بعنوان .. توقيعات... ثم تلاه نزار قباني في قصيدته: هوامش على دفتر النكسة. وحاليا يكتبها الشاعر احمد مطر وغيرهم

• (2) - كتب : علي حسين الخباز ، في 2012/11/01 .

دراسة متميزة وحضور رائع ، فشعرية الومضة تجاوزت حدود التجنيس ، تقبل المودة والدعاء





حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net