صفحة الكاتب : صالح الطائي

تعليل المساوئ التاريخية القديمة بعقليات جديدة
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مع أن المفروض بنا أن نوظف المعطيات العلمية الرائعة التي وفرها التقدم العلمي المعاصر لتصحيح المواقف القديمة والبدء بإعادة بناء العلاقات الإسلامية المتصدعة التي تزداد عمقا بسبب الحث الطائفي المقيت، إلا إن ذلك لم يحدث أبدا دلالة على أننا لا زلنا عالقين في مشاكلنا التاريخية، ونحن بدل أن نقيم الأمور بمنظار علمي حولنا المناظير العلمية لدعم معتقداتنا قبالة معتقد الآخر الذي نضمر له الكراهية والعداء.

واحد من الأمثلة على ما تقدم كان موضوع حرق الكعبة المشرفة على يد يزيد بن معاوية الذي يسمونه (أمير المؤمنين) وهو الخليفة الأموي الذي حكم ثلاث سنوات (كانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا أيامًا) قَتلَ في الأولى الإمام الحسين بن علي وأباح في الثانية المدينة المنورة فانتهكت أعراض بنات الصحابة من المهاجرين والأنصار وأحرق في الثالثة الكعبة المشرفة بيت الله الحرام.

مجمل هذه الأعمال الخسيسة إذا أخذت بميزان الحق والعدل تسقط الخليفة من العلياء التي يريدون وضعه فيها إلى الحضيض وتعريه أمام الناس وتظهر فسقه وفجوره للعلن، لكن بما أن فضح المثالب بإثبات صحتها من خلال البحث العلمي يدعم عادة الاتجاه الآخر المطالب بإدانة (يزيد) بسبب قتله للحسين بن علي بن أبي طالب حفيد رسول الله وابنه ترى الباحثين والمؤرخين الطائفيين يعملون المستحيل لكي لا يعترفوا بتلك الجرائم التي وقعت في صدر الإسلام الأول، ويستخدمون المنطق والعقل وما وهبه العلم المعاصر لإثبات بطلانها وعدم صحتها، مما تسبب في بقاء المشاكل عالقة وغير قابلة للحل.

وأنا هنا لن أتحدث عن سوءة قتل الحسين ومخالفتها لروح العقيدة لكي لا أتهم بالطائفية أو التحيز إلى طرف ما؛ ولكني سأتحدث عن جريمة حرق الكعبة باعتبارها المكان المقدس المشترك بين جميع فرق المسلمين. فالمتفق عليه والمجمع على صحته أن جيش (أمير المؤمنين) يزيد أحرق الكعبة، وأخذت جنوده العزة بالإثم بعد أن وجدوا عملهم المنكر موافقا لهواه؛ فاستباحوها وسفكوا الدماء في رحابها دون النظر إلى قدسيتها وحرمتها. وهذا لا خلاف فيه، ولكنك وسط زحام الروايات تجد من يبغي تبرئة يزيد من هذه الجريمة النكراء كما حاولوا تبرئته من دم الحسين؛ وبنفس الأساليب الدنيئة التي يتبعها التكفيريون والسلفيون اليوم في تعليل أعمالهم الدنيئة ضد المسلمين والبشر الآخرين ومنها قاعدة (الترس) الفقهية التي يبيحون بموجبها قتل أي عدد من البشر لمجرد أن أحد المطلوبين لهم سواء كان مجرما أم بريئا تترس ليحمي نفسه بتلك الجموع، أي اتخذهم ترسا ليحتمي بهم باعتبار أن المقتولين بزعمهم سوف يحاسبون بموجب أعمالهم، فالمؤمن منهم يدخل الجنة والكافر يدخل النار، أما القاتل فلا إثم عليه ولا حساب، وأما المقتولين فلا دية لهم ولا يعني موتهم بالجملة أكثر من مسألة تصفية حساب نصرة لله الذي يظنون أنه يحتاج نصرتهم ولو جاءت بأخس الأساليب وأحقرها. ومن هؤلاء المؤرخين المدلسين المؤرخ الليبي علي محمد الصلابي الذي قال محاولا تبرئة يزيد من حرق الكعبة المشرفة: "ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق، والدليل على ذلك ما أحدثه حريق الكعبة من ذهول وخوف من الله في كلتا الطائفتين (1): جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير، فقد نادى رجل من أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة وقال: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده (2)، وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفًا من أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجدًا ويقول: اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك (3). 

وأهل الشام بالرغم من جهل بعضهم بابن الزبير ومكانته (4)، إلا أنه من المستحيل أن يجهل أحد منهم مكانة الكعبة وأهميتها، كيف وهم يتجهون إليها في صلاتهم عندما كانوا يحاصرون ابن الزبير، فمن المستحيل أن يعمد أحدهم إلى حرق الكعبة، أو كان ذلك يدور في تفكير الحصين بن نمير"(5)

ولترسيخ هذه القناعة الفارغة وتمرير هذا الرأي التافه نرى الصلابي يعود ليقول في الصفحة نفسها: "وقد وردت تصريحات لبعض أقارب ابن الزبير وبعض السلف والعلماء المحققين بأنهم لم ينسبوا إلى أحد من الطائفتين قصد حريق الكعبة، فهذا هشام بن عروة يقول: فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار (6)، وقال ابن عبد البر: وفي هذا الحصار احترقت الكعبة (7)، وقال ابن حجر: ثم سارت الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فحاصروه بمكة وأحرقت الكعبة" (8). وكأنه يريد أن يحل لغز قول الشاعر: "ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك .. إياك أن تبتل بالماء" 

ثم لكي يرسخ هذا المعتقد الساذج في عقول الناس ويبرئ الأمويين وخليفتهم يزيد من هذه الجريمة النكراء يعود ويقول: "ولا شك أن أحدًا من أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمون لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين (9) وكأنه يريد القول: فما ذنبهم إن كانت النار التي ألقوها على الكعبة قد أحرقتها؟

هكذا نجد من يريد معالجة مشاكلنا القديمة بتطويع المعطيات الجديدة لتدعم القديم لا لكي تفككه وتعيد ترتيبه، ناسيا أن تلك المشاكل هي السبب المباشر فيما يحدث اليوم بيننا من مشاكل ومصائب تفاقمت فأدت إلى تفرقنا شيعا وأحزابا يفضل بعضنا الكلاب والخنازير والقردة على البعض الآخر، ويشمت احدنا إذا ما أصابت الآخر مصيبة ما، بل يعلن الفرح والسرور إذا ما كانت المصيبة قاصمة قاتلة ويعتبر ذلك بشرى زفها الله إليه (10) مما أوصلنا إلى حافة القطيعة الكلية التي لا لقاء أو تقارب بعدها. 

فما الضير إذا ما هدمت مراقد الإمامين العسكريين؟ وما الضير إذا ما هدم ونبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي؟ وما الضير في تفجير ونبش قبر الصحابي الجليل عمار بن ياسر؟ فإذا كانت عقيدتهم تقدس الكعبة أكثر من هذه الأماكن ومع ذلك أباح لهم فكرهم وعقيدتهم حرقها وتدميرها، فالأولى بفكرهم أن يدعوهم إلى حرق وتفجير وتدمير كل المقدسات  الأخرى دونما خوف أو وجل. وأنا أرى أن تلك التعليلات السقيمة هي التي أعطت الإرهابيين الجرأة ليرتكبوا جرائمهم النكراء هذه، ولو كان الباحث قد شخص حقيقة جريمة حرق الكعبة ما كان للإرهابيين أن يتجرؤوا على الله ورسوله فيفجروا قبور الأئمة والصحابة.

إن ما نحتاجه اليوم بعد أن وضعتنا الأيام بين فكي كماشة قاتلة ليس التعليل والتأويل وتطبيق النظريات الاحتمالية والجدل البيزنطي الفارغ والإسقاط والذرائعية المقيتة؛ فذلك لا يحل مشاكلنا ولا يقرب بعضنا إلى البعض الآخر، بقدر ما يثيره من تقزز ونفور في نفوسنا، نحن نحتاج إلى الشجاعة والجرأة والشعور بالمسؤولية والصدق واليقين والإيمان والكثير من احترام الإنسان الآخر الذي نختلف معه لكي نبحث ونتقصى ونركض خلف الحقائق؛ فإذا اكتشفنا أمرا غير مشكوك فيه يزيل العتمة عن واحدة من تلك المشاكل ويكشف أسرارها الدفينة التي خفيت علينا لا بأس من إعلانه أمام الملأ بلا خوف ولا تردد وتوظيفه لنصرة الحق والحقيقة؛ حتى لو كان فيه توهينا وتضعيفا لواحد من معتقداتنا الفئوية، فذلك وحده يرفعنا في أعين الآخرين ويثبت لهم صدق نوايانا، وبالتالي يحاولون هم أيضا تجربة البحث وإعلان النتائج، فإذا اتبعنا هذه المنهجية العقلائية الناضجة سنجد أنفسنا بعد حين من الزمان قد أحرقنا الكثير من الأوراق الصفراء المتعفنة التي نحتفظ بها تراثا مذهبيا غير قابل للنقاش وتحررنا من ربقتها وأصبحنا نشم هواء عذبا نقيا لم تلوثه أدران التاريخ العتيقة.

إن العالم يتجدد سريعا ونحن لا يمكن أن نبقى عالقين في مشاكلنا التاريخية وقناعاتنا الموروثة البالية؛ فالمفروض بنا أن نتجدد أيضا لكي نساير البشرية في تقدمها ونلحق بركبها، ولا يمكن أن نتجدد إلا إذا ما أبدلنا آلياتنا وعدة عملنا بآليات وعدد جديدة غير تلك الآليات القديمة البالية، ومع كل الصعوبة التي تترتب على هذا التجديد إلا أنه لا يحتاج أكثر من رجل شجاع وعقل متحرر ونية خالصة لله وقليل من التحدي، فهل من رجل رشيد.

 

 

 

 

الهوامش

 (1) أخبار مكة (1/203).

(2) تاريخ خليفة بن خياط، ص252 بإسناد صحيح.

(3) الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني (3/227).

(4) حلية الأولياء لأبي نعيم، (1/336).

(5) أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير،علي محمد الصلابي، ص 47

(6) الإصابة، ابن حجر (4/94) عن الزبير بن بكار بسند صحيح.

(7) الاستيعاب لابن عبد البر (3/243).

(8) تعجيل المنفعة ص453

(9) أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير،علي محمد الصلابي، ص 47، نقلا عن منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (4/447)

 (10) الرابط http://www.youtube.com/watch?v=itOt7f5_9OU

7/5/2013


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/05/07



كتابة تعليق لموضوع : تعليل المساوئ التاريخية القديمة بعقليات جديدة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net