صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

المعرفة الحسية إشكالية وحلول (4)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
3) المذهب الذاتي:
مضت قرون والمعرفة البشرية يقتسمها مذهبان؛ أولهما المذهب العقلي الذي مثّلته المدرسة الأرسطية, والآخر المذهب التجريبي الذي مثله أغلب فلاسفة الغرب. فكان الفيلسوف إمّا أن يجنح جنوحاً عقلياً في مصادر المعرفة التصديقيّة ويراها مسلّمات عقلية قبليّة كما هو حال المنطق الأرسطي, وإمّا أن يجنح جنوحاً تجريبياً رافضاً أي مصدر عقلي قبلي لتصديقات الإنسان, ويرى أن قضايا المعرفة بعديّة يتوفّر عليها الإنسان بعد التجريب.
ولكن كانت هناك قصّة أخرى للمعرفة البشريّة, فقد شهدت أكاديميّة النجف العلمية زرعَ بذور جديدة في درس علم أصول الفقه لاحت علائمه عند وصول السيّد محمّد باقر الصّدر إلى بحث حجيّة الدليل العقلي... فاستعرض غُثاء الأخباريّين, وتطرّق لنمط تفكير الأرسطيّين, ونقدهما نقداً مستحكماً. وقد تزامن بحثه هذا مع اطّلاعه على كتاب (المنطق الوضعي) للدكتور زكي نجيب محمود (1905- 1993م), فكان محفّزاً له للدخول في رحلة معرفيّة دارت رحاها حول الاستقراء ونظرية الاحتمال دامت سنوات. فتمخّض عن هذه الجهود الجادّة مذهب جديد في المعرفة أطلق عليه الشهيد الصّدر اسم (المذهب الذاتي), وقد بين اُسُسَه المنطقيّة في كتابه البكر (الأسس المنطقية للاستقراء), الذي يمثل نقد الأنا لثقافة الآخر(1).
وقد كانت احدى النتائج التي تمخض عنها المذهب الذاتي, هي اعتقاد الشهيد الصّدر أن مبادئ المعرفة يمكن إقامة الدليل عليها, ولذا حاول في كتابه البكر الآنف الذكر اعطاء تفسير شامل لقضايا المعرفة. فلقد أقام المنطق الأرسطي مبادئ المعرفة (التجريبيات والمتواترات والحسيات...) على أساس قياس تؤلّف كبراه القاعدة المعروفة (الإتفاق- الصدفة النسبية- لا يكون أكثرياً ولا دائمياً), التي ادعى كونها قاعدة عقليّة أوليّة قبليّة, أمّا الشهيد الصّدر فقد رأى أن هذه القاعدة ليست معرفة عقليّة منفصلة عن التجربة وقبلها, وإنّما هي نفسها نتاج التجربة والاستقراء في الطبيعة, الذي يكشف لنا عن عدم تكرار الصدفة والإتفاق, وقد أقام على ذلك سبعة أدلة محكمة(2).
وإذا كانت هذه القاعدة بعديّة أي نتاج التجربة والاستقراء, فمن العبث القول أن مبادئ المعرفة قضايا عقليّة أوليّة في الوقت الذي ترتكز فيه على قاعدة تجريبيّة استقرائيّة, إنْ هذا إلا تهافت مبين.
حظيت المعرفة الحسيّة بالقسط الأوفر من معالجة الشهيد الصّدر لقضايا المعرفة, فرأى الصّدر أن القضايا الحسيّة مستدلة استدلالاً علميّاً يعتمد على التجربة وينهج منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات, ومن ثمَّ فهي قضايا بعدية, وهذا ما نحاول تسليط الضوء عليه:
التفرقة بين الحس الباطن والظاهر
ميّز الشهيد الصّدر بين القضايا المحسوسة بالحس الباطن التي تسمّى بالوجدانيات في علم النفس, وبين تلك المحسوسة بالحس الظاهر. فالوجدانيات اعتبرها من القضايا الأولية غير المستنتجة, فتوافق في ذلك مع المنطق الأرسطي في المعرفة, وذلك باعتبار أن الانسان في القضايا الوجدانية يتصل اتصالاً مباشراً بمدلول القضيّة من دون توسط صورة حتّى يرد السؤال عن منشأ الصورة وهل هي ذاتية (سايكولوجية) أم لها منشأ موضوعي, وإنما القضايا المحسوسة بالحس الباطن كاللذة والجوع والألم, حاضرة بنفسها في صقع النفس بلا توسّط شيء. وهذا هو ما يعبّر عنه في علم الميزان بالعلم الحضوري كعلم الإنسان بأفراحه وأتراحه, وفي ذلك توافق المذهب الذاتي مع المذهب العقلي الأرسطي. يقول السيّد الشهيد: «.. وهذا [الإحساس بالجوع والألم] لا إشكال في أوّليته ولا يقوم على أساس حساب الاحتمالات والطريقة الاستقرائيّة, لأن الإدراك في هذا النوع يتصّل بالمدرَك بصورة مباشرة حيث يكون المدرَك بنفسه ثابتاً في النفس, لا أنه أمر موضوعي خارجي له إنعكاس على النفس ليراد الكشف عن مدى مطابقة ذلك الانعكاس مع واقعه»(3).
أمّا القضايا المحسوسة بالحس الظاهر, فقد اعتبرها الصّدر كأخواتها من مبادئ المعرفة قضايا مستدلة استقرائياً, وهذا هو الشيء الجديد في منطق هذا الفيلسوف وهو ما نحاول دراسته. ويبدوا أن بذور هذه الأفكار قد طرحها الشهيد الصّدر في كتاب (فلسفتنا) المتقدّم تأليفه على (الأسس المنطقية للاستقراء) بـ(12) عاماً ثمَّ نمت وترعرعت. فقد جاء في ذلك الكتاب: «وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها. ونقول (في كثيرٍ من مجالاتها)؛ لأنّ استنتاج النظريّة الفلسفيّة أو الميتافيزيقيّة من المبادئ الضروريّة في بعض الأحايين يتوقّف على التجربة أيضاً، فيكون للنظريّة الفلسفيّة- حينئذٍ- نفس ما للنظريات العلميّة من قيمة ودرجة»(4).
أمّا الفرق بين القضية المحسوسة بالحس الباطن (الوجدانيات) وتلك المحسوسة بالحس الظاهر (الحسيّات), فيرى السيّد الصّدر أن الفرق بينهما: هو أن الأخيرة نريد أن نتخذ من الإحساس بها جسراً لإثبات الواقع الموضوعي. فنحن حينما نرى البرق ونرتبط بهذه الصورة الذهنية عنه, نريد القول أنه يوجد واقع موضوعي خلف الذهن هو واقع البرق وهو المنشأ لإنعكاس تلك الصورة في صفحة النفس, وأن تلك الصورة الذهنيّة إنما هي واسطة للارتباط به. ولكن هذا غير متيسّر لنا وذلك لأنّ الإحساس الظاهري ليس مبرّراً منطقيّاً للاعتقاد بوجود واقع موضوعي, فإثبات الواقع الموضوعي خلف الإدراك والتيقن منه لا يكفي فيه القول أني أحس به وأرتبط به من خلال الحواس(5).
صورة الإشكاليّة من وجهة نظر الصّدر
ومن حقّ الذين يؤمنون بالقضايا الحسيّة على الطريقة الأرسطيّة, أن يسألوا من السيّد الصّدر عن السرّ في عدم كفاية الإتصال المباشر بالمحسوس الظاهري في إثبات الواقع الموضوعي خلف الإدراك؟. ويجيب السيّد الصّدر عن ذلك من خلال إبراز صيغتين لتصوير إشكالية المعرفة الحسيّة فيقرر: إن عدم كفاية الإتصال المباشر بالمحسوس في إثبات الواقع الموضوعي يمكن أن يبين من خلال إحدى صيغتين:
الصيغة الأولى:
رأى السيد الشهيد الصّدر في هذه الصيغة عدم كفاية النزعة السايكولوجيّة في تبرير المعرفة الحسيّة, فقرر أن الإحساس بحادثة معينة كالحرارة مثلاً, هذا الإحساس متساوي النسبة لموضوعية وذاتية النار. فنفس الإحساس لا يمكنه أن يدلّل على وجود موضوعي للنار خارج اطار النفس والإدراك, وأن إدراكنا مرتبط به, كما أن نفس هذا الإحساس لا يمكنه أن يدلّل على أن هذا الإحساس مرتبط بإدراكي, وأن الإدراك هو الخالق له.
إذن اثبات كون الحادثة موضوعية أمر خارج عن قدرة الحس الظاهر, ولا يمكن لهذا الحس أن يثبت أن هذه الصورة الحسيّة نشأت من أمر خارجي موضوعي وأن إدراكي مرتبط بذلك الأمر الموضوعي, كما لا يمكنه إثبات وقول أن الصورة الحسية مرتبة بذهني وهو المنشئ لها. فالمتحصل أن الحس الظاهر لا يمكنه إثبات ذاتية أو موضوعية حادثة ما, وبالتالي فكون حادثة ما موضوعية ليست معطى مباشراً للحس, فكيف يمكننا مع ذلك إثبات الواقع الموضوعي(6).
الصيغة الثانية:
إن المحسوس على قسمين:
1. المحسوس أولاً وبالذات.
2. المحسوس ثانياً وبالعرض.
والمحسوس أوّلاً وبالذات أو قل الجانب الذاتي هو تلك الصورة الموجودة في الجهاز الإدراكي للآدمي, فهي التي تتصل وترتبط بها نفس الإنسان. أمّا المحسوس ثانياً وبالعرض أو الجانب الموضوعي للإحساس فلا يتصل به الإنسان مباشرة, وبالتالي فالذي نتصل به مباشرة هو الجانب الذاتي سواء كان له جانباً موضوعياً أو لم يكن, غاية الأمر أننا يحصل لدينا احتمال أن يكون لهذه الصورة المحسوسة أولاً وبالذات جانب موضوعي كان هو السبب في إدراكنا لها, ولكن مع ذلك فنحن لا نتصل بهذا الجانب الموضوعي مباشرة فيما لو كان. وهكذا فليس بمقدور الحس اثبات الموضوعية للقضايا المحسوسة, فكيف يتمّ لنا إثبات الواقع خارج إطار الذهن والذاتيّة؟.
ويرى الشهيد الصّدر أن المذهب المثالي إنما أنكر الواقع الموضوعي بسبب من هذا التمييز بين الجانب الذاتي للحوادث والجانب الموضوعي, أو قل بين الصورة الذهنية وبين الواقع الموضوعي خلف إدراك هذه الصورة. وقد رأى هذا المذهب أن المعرفة الحسية لا تبرّر الإعتقاد بوجود واقع موضوعي خلف الذهن, لأن المعرفة الحسية عبارة عن اتصال بصورة ذهنية ذاتية, وبالتالي فهي موجودة, وما لا تتّصل به فلا وجود له, لأننا لا يمكننا التأكّد من وجوده ما لم نتصل به(7).
 
الهوامش:
( ) مقدمة في علم الاستغراب, د. حسن حنفي: 751, الدار الفنية للنشر والتوزيع- القاهرة 1991م.
(2) الأسس المنطقية للاستقراء: 72- 90. وفي محاضراته المطبوعة حديثاً بإسم (التأسيس للمنطق الذاتي) والتي ألقاها في رمضان 1384هـ (1964م), أورد الشهيد الصدر تسعة أدلّة لبيان كون القاعدة المدعاة قاعدة بعديّة ناتجة من التجربة. انظر: محاضرات تأسيسيّة, الشهيد الصّدر: 96- 146, المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصّدر- قم, الطبعة الأولى 1431هـ .
(3) بحوث في علم الأصول.. مباحث الحجج والأصول العملية, تقريرات بحث الشهيد الصّدر, السيّد محمود الهاشمي 4: 131, مركز الغدير للدراسات الإسلامية- قم, الطبعة الثانية 1417هـ .
(4) فلسفتنا, السيّد محمد باقر الصّدر: 186. 
(5) الأسس المنطقية للاستقراء: 515.
(6) الأسس المنطقية للاستقراء: 516.
(7) الأسس المنطقية للاستقراء: 516.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/09



كتابة تعليق لموضوع : المعرفة الحسية إشكالية وحلول (4)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net