صفحة الكاتب : د . صادق السامرائي

جلجامشُ الخالدُ فينا!!
د . صادق السامرائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جلجامش رجل من بلادنا حظي بالقوة والسلطة والجمال, ودانت له مملكته وتفرد بالسلطان والقرار والمنعة والتقديس. 
 
فصارت عرائس مدينته تتبارك بمواقعته وحمل رايات جيناته وتوريثها للأجيال. 
وإن صدقت الروايات أم كذبت فإن في ذلك تعبير عن نزعات البقاء للأقوى , والرغبة في تحقيق نسل جلجامشي لا ينقطع. 
 
جلجامش الذي رضخت له الحياة , وبسطت جسدها وكشفت عن مفاتنها ودعته للتمتع بها , إلى أقصى ما يمكن للمتعة أن تكون وتتفجر في أعماق البشر.
 
جلجامش الذي عاش في أعالي الجبروت , واكتسب قدرات الآلهة , وخرج من دائرة الوجود البشري , إلى عالم الحياة التي لا ينالها غيره , فتصاعدت قوته وزأرت في عروقه , فاهتز لها جسده القوي بعضلاته المفتولة وبطشه المتفوق. 
 
فأدرك بروحه وفكره ومنطلقات رشده , أنه وجود محبوس في جسد ستذهب عنه العافية والقوة وسينتهي إلى تراب. 
 
أدرك هذه الحقيقة المريرة بعد أن فعل ما فعل وصارع مَن صارع , وإذا به أمام حقيقة رهيبة كشفها له غريمه وصديقه أنكيدو القوي , الذي إستلقى أمامه بجسمه الحديد,  جثة هامدة متعفنة تنهشها ديدان النهاية والتلاشي والإضمحلال , حتى زكمت أنفه الرائحة المنبعثة من الجسد , الذي إحتفظ به أمامه من شدة الصدمة والدهشة , وعدم تصديقه بأن أنكيدو قد مات.
 
وبقوة يقظته من سبات الحياة , برغباتها الملتهبة وطيشها المستقيد , أدرك جلجامش أن الموت قادم , وأنه سيتحول إلى جثة عفنة مثل أنكيدو , فأصابه الحزن الشديد على نفسه وعلى الحياة. 
 
ودخل في مرحلة اليأس والإكتآب , والألم النفسي والفكري والروحي العسير. 
 
ووجد أنه على وهم , وعليه أن يكتشف سر الموت والحياة ويحقق الخلود. 
فمضى في رحلته للبحث عن السرمد , وعانى ما عاناه وكابد ما كابده , وقتل خنبابا , وإجتاز المصاعب تلو المصاعب , والأحابيل تلو الأحابيل. 
 
ووصل إلى ما وصل , وتحدث مع مَن عاش أكثر من ألف عام , ووقف أمام أتونابشتم , يسأله عن معنى الحياة بعد ألف عام ويزيد. 
وأدرك منه أن الحياة ليست بالسنين , وإنما بشيئ آخر لم يكشفه له. 
 
وأمسك جلجامش بسر الخلود! 
ومن شدة تعبه وفرحه الخدّاع , نزل إلى بئر ليغتسل ويتخلص من أوضار المسير ليمضي حاملا راية الحلم المنشود. 
 
لكن الثعبان سرقت السر وإبتلعه , وتركته يتخبط في بحر الألم. 
 
تكوّم جلجامش عاريا من ثيابه يندب حظه , وينظر إلى الغابة من حوله والسماء من فوقه , ويتأمل كلمات أتونابشتم. 
 
وغاص في رحلة فكرية عميقة وطويلة أرهقته , فما استطاع أن ينهض ويرتدي ملابسه , واستسلم للتعب والنوم , وحلم أن يلبس الأشجار كسوة والنجوم تاجا. 
 
وبعد أن إستجمع قواه , وألقى عليه ملابسه الثقيلة المعفرة بعرق وغبار المغامرة والمخاطرة البائسة , إحتضن شجرة الأرز وأصاخ السمع لدبيب الحياة في عروقها , وكأنها خاطبت روحه وأرضعت أعماقه بحليب الوجود. 
 
نظر جلجامش إلى الشجرة العملاقة الوارفة الظلال , واكتشف معنى واحد للخلود الأرضي. 
 
وصرخ بأعلى صوته , حتى تجاوبت أركان الغابة وإهتزت أشجارها , لدوي الصوت الواعد , الذي إنطلق من أعماق روحه.
 
صرخ منفجر النفس والروح والفكر:
لا خلود إلا بالبنناء!
لا خلود إلا بالعمل!
لا يمكن الإنتصار على الموت إلا بالعمل!
العمل...العمل!
العمل الطيب الصالح الذي يبقى منارة منيرة للأجيال.
العمل الذي يحطم قيود الزمن , ويكسر سجن الحياة , ويمنح الوجود طعما.
 
صرخ جلجامش
إنه العمل...!
فأسرع مهرولا إلى مملكته وأخذ ينادي:
حي على العمل...!
حي على البناء...!
 
يا أبناء مملكتي تفاعلوا وتكاتفوا وشمروا عن سواعدكم , وأظهروا ذخائر عقولكم , وهيا إلى بناء مدينة أريدو. 
هيا لكي نبني مدينة نضع فيها ما عندنا من قدرات الإبتكار والإبداع. 
هيا لبناء مدينة تحمل أرواحنا ووجودنا , رغم أهوال الإندثار وعوامل التعرية الزمنية.
 
هيا إلى العمل...!
صرخ جلجامش وظلت صرخته مدوية أبدا في أرض العراق.
 
العراق الذي إخترق حواجز الزمن وموانع الخلود بالإبداع والبناء الحضاري. 
ومضت رسالة جلجامش , وإنبعثت على هداها حضارات تفوقت على واقع زمانها, وبقيت نواة لكل منطلق إنساني مجيد.
 
دوت الصرخة , ولا يزال صداها يعتمل في أعماق الإنسان المشحون بالطاقات الخلاقة , التي عليه أن يسخّرها في الإعمار والبناء , وإلا أخذته إلى غير ما ينفع , وحققت في أرضه الويلات.
 
فهيا إلى تجسيد رسالة جلجامش وبناء الوطن القوي المنيع.
هيا إلى بناء المدن...!
ولتكن كل مدينة  "أريدو" 
وليكن أبناؤها كأبناء مدينة "أريدو"
وبهذا تتحقق القوة ويتعزز الوجود , وتسقط جدران الزمان أمام الإبداع الوطني الفريد.
 
فهيا إلى العمل..!
وهيا إلى البناء..!
وليحيا الوطن بالجد والإجتهاد , يا عُشّاق العراق.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صادق السامرائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/02/17



كتابة تعليق لموضوع : جلجامشُ الخالدُ فينا!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net