جدليةُ الغايةِ والوسيلةِ ....المسيرُ إلى كربلاء إنموذجٌ
رضي فاهم الكندي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رضي فاهم الكندي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تنشأ الجدلية من تنازع المفاهيم في ساحة الذهن ، وينتهي النزاع بالغلبة والظهور لأحدِها بعد أن يصبحَ أمرًا مفروغًا منه في الواقع الخارجي ، وجدليتنا هنا ليست من نمط الجدل بين اللفظ و المعنى أو الشكل والمضمون ، وإنما هي جدليةٌ من نمطٍ آخر ، هي جدلية بين الوجود والعدم ، أو بمعنى أكثر دقةً جدلية البدايةِ والنهاية .
ولعلَّ منشأ الصراع والتنازع في هذه الجدلية متأتٍّ من ارتباطها بالإمام الحسين ( عليه السلام ) متفرع ٌ من الاختلاف في بنية الذهنية المعرفية العقدية وتشكيلها ، تنازعٌ بين مفهومين متقابلين الأول بالضد من الثاني ، بيدَ أن هذا التنازع لا يخرج عن دائرة ( العقيدة الإنتماء ) .
في المسير إلى كربلاء الإمام الحسين يتوجه الملايين لزيارته ، بعد أن يعقدُ كلُّ واحدٍ منهم العزمَ ويقدمُ حوائجَه متوسلاً به إلى الله جلّ وعزّ في إنجازها ، ومها تكن أهميةُ هذه الحوائج وتنوُّعِها من شفاءِ مريضٍ أو توسيعِ رزقٍ وغيرها من الحوائج الدنيوية ، فإنّ السائر ما إن يصلَ إلى مرقده الشريف حتى يشعر بالراحةِ والاطمئنانِ في بلوغِ هدفه بقضاء هذه الحاجة قبل أن تُقضى ، وسرعان ما تخبوا تلك الشعلة الايمانية المتقدة التي كانت مستعرةً طيلةَ أيامِ المسير، وهنا تلفظُ مسيرةُ التكامل والعطاءِ أنفاسِها الأخيرة .
وهذا الانطباع الذهني المقرون بالسلوك العملي هو السمة السائدة في ظاهرة المسير إلى كربلاء، و هو الطرف الأول لهذه الجدلية ، ويقف في الجهة الأخرى من حلبة هذا النزاع من يرسم صورةً أخرى في التعاطي مع هذه الظاهرة ؛ إذ ينطلقُ في رفضِه لكلِّ المتبنيات التي يُختَم بها ذلك الحماس المتأججُ في نفوس الثائرين ، فالزيارة هنا لاتنتهي بل هسي مستمرةٌ ، ولا من حاجةٍ تُلتمس سوى البقاء مع الحسين وما أعظمها من حاجة ، وأنى لنا البقاء معه ، إلاّ إذا منحنا هذا المسير بطاقةَ السفر وجواز الركوب في سفينة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) التي اشتراها الإمام الحسين للجميع ودفع ثمنها يوم عاشوراء ، هي سفينة الإصلاح التي سنجوب بها بحار العالم ناشدين إقامة العدل والمساواة .
فنحن بالخيار في استهداف أحد سلوكين ؛ إما أن يكون الحسينُ وسيلةً لنا في إنجاز ما قصُر به وسعُنا عن إنجازه من حوائج الدنيا وملذاتها، وبعدها تُقطع علاقتُنا به ، وهنا لا يكون المسيرُ وسيلةً وإنما يكون غايةً في نفسه ، أو أننا نختار الثاني الذي به تستمر علاقتنا معه عليه السلام فيكون المسير إلى كربلاء لنا نورًا ينير بصيرةَ قلوبنا ويشحذُ همتَنا إلى تطبيقِ الإصلاحِ وتحقيق أهداف الإمام الحسين ، وهنا يكون المسيرُ وسيلةً إلى غاية أسمى هي مرضاةِ الله تبارك وتعالى فتكون مسيرةً باقيةً لا تنتهي وعطاءاً لاينفذ.
إنّ هذه الرؤية في كيفية التعاطي مع هذين البعدين ( الغاية والوسيلة ) على مستوى الاختيار بينهما لم تكن غائبةً عن القرآن الكريم ؛ إذ أشار إليها في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) وهي تمثل الجانب الأول من هذه الجدلية لأنها أمور زائلة ؛ إذ هي غاية ما يصبوا إليه الإنسان وتبلغ الذروةَ في الاهتمام لدى أغلب الناس ، أما الجانب الآخر فجاء تباعًا (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) [آل عمران: 14-15] فالمسير إلى كربلاء ينبغي أن يكون وسيلةً لتحصيل رضوان الله لا غايتهُ الدنيا فحسب ،وينبغي أن يُعلم بأنَّ تحصيلَ الجانب الثاني في المسير ( رضوان الله ) يمكن أن يُحققَ لنا كلَّ ما أغفلناه من ملازمات الجانب الأول ( ملذات الدنيا ) ؛ وقد أشار رسولنا الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى هذا المعنى بقوله : ((ومن جعل الاخرةَ أكبرَ همِّه جمع اللهُ عليه همَّه وأتته الدنيا وهي راغمةٌ )) بحار الأنوار.
نحن لانريد شيئًا من الحسين من ملذاتِ هذه الدنيا المتفانية ؛ لأنها تنهي ارتباطَنا به وينقطعُ بنا الطريقُ وهنا يحصل الافتراق عنه ، إنمانريد البقاء معه لأننا عشقناه بكل ما للعشق من معنى ، ولديمومةِ هذا العشقِ الحسيني ينبغي أن لاتغيب عنا في مسيرتنا الإنسانية أهدافُه التي سعى إلى تحقيقها وقد اختزلها في دائرة الإصلاح ( الذات – الأسرة – المجتمع ) ، وبهذا المعنى ننتمي إلى ساحة الخلود ، شكرًا لك ياحسين لأنك ألهمتنا معنى الخلود وأخذت بأيدينا إلى مطاف الإنسانية وعلمتنا كيف نحيا ونعيش أما كيف نموت فنحن نعرف .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat