صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 4)
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 
الاخلاق والامن الاجتماعي
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾   ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾  ﴿فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ 
في قصة يوسف (عليه السلام) نجد القران الكريم يفصل في بعض مجرياتها، اذ من الممكن ان يكتفي بالحديث عن المراودة وعصمة يوسف (عليه السلام)، الا اننا نجده في هذه الحادثة يتوسع في سرد بعض التفاصيل، ومن الضروري ان نقف عند هذه الحالة لان هذا النحو من التأكيد لم يأت اعتباطا، فليس في القران الكريم شيء من فضول الكلام، فكل ما فيه له اسبابه وآثاره.
الاستباق الى الباب
عند التأمل في الآيات الشريفة نلحظ عدة في قوله تعالى:
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ 
تأكيد القران الكريم على استباقهما الباب، واستباق الباب اثر طبيعي لقضيتين متصارعتين، الاولى رعاية الانسان للمبادئ والقيم والثانية انهيار تلك المبادئ امام سيطرة النزوة الحيوانية على الانسان، سارع يوسف (عليه السلام) الى الباب لأنه كان يريد ان يوقف زليخة عن الاستمرار في عدوانها وتجاوزها لحرمة زوجها واهانتها لمجدها وما تقتضيه اخلاقيات مجتمعها من رعاية حرمة بيتها وصون عرضها وسمعة زوجها ووفائها لرابطة الزوجية المقدسة، وكذلك رعايته (عليه السلام)  لحرمتها حيث ترعرع في بيتها ومن الطبيعي جدا انها كانت تحنو عليه وتنظر اليه بعين الرعاية والاهتمام فلها حق لا بد من ان يرعى، ورعايته لحقها ان يردعها عما اقدمت عليه ولم يكن لديه سبيل سوى ان يتركها ويخرج فان اجابتها لطلبها خيانة في حق ربه وحق نفسه وحق عزيز مصر وحق زليخة نفسها، فردعها بالضرب او السب او غيرها من الطرق لن يثنيها عما قصدت اليه اذ كانت مستعدة للتضحية بكل شيء في سبيل تحقيق غايتها تلك، وفي نفس الوقت رعاية لحق عزيز مصر الذي وصفه يوسف (عليه السلام) بقوله:
﴿ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾
والذي يعني ان هذا الرجل قد تعامل معه بالاحترام والاكرام وهذا حق لا يمكن تناسيه وتجاوزه والاغضاء عنه، والانسان الذي كرمت اخلاقه لا يكون ناكرا للجميل وخائنا ومرتكبا للقبيح في حق من احسن اليه، خاصة ان ما كنت تبغيه زليخة طعنة نجلاء لعزيز مصر في اعز شيء معنوي لدى الانسان وهو كرامته وعرضه وشرفه، وكذلك كان في هروب يوسف (عليه السلام) ومحاولته الخروج وترك زليخة احترامه لذاته وقيمه ومبادئه واخلاقه وعفته وطهره وقدسه وكرامته، والاهم من ذلك كله رعايته لربه في موضع تزل فيه الاقدام وتنهار فيه النفوس.
واما محاولة سبق زليخة يوسف (عليه السلام) الى الباب فالغاية منها كانت منعه من الخروج وارغامه على تحقيق نزواتها، رامية تحت اقدامها كل ما يقتضيه مقامها وموقعها وحرمة زوجها وقيم مجتمعها، لقد كانت زليخة تحت تأثير نفسها الامارة بالسوء بمستوى انها تناست كل شيء ولم ينفع تذكير يوسف (عليه السلام) لها بحق زوجها وحرمته.
فالآية الشريفة هنا تشير الى واقع الصراع بين رعاية القيم وبين الخضوع لنزوات النفس الشريرة، لتعطي درسا اجتماعيا مهما لبني الانسان في ان ما بين الانهيار والفوز لحظات من الصبر والصمود والورع واستذكار ما ينبغي ان يرعى من الحقوق، ففي التأكيد على هذا الحدث في قصة يوسف (عليه السلام) اشارة قرآنية الى ضرورة ان ينتبه الانسان الى رعاية قيمه ومبادئه في السر والعلن وان لا يكون مظهر الانسان شيء وجوهره شيء اخر، وان لا يتحول الانسان الى مجرد اداة اعلامية جوفاء في الدعوة الى الخير واداء الحقوق ورعايتها، بل لابد ان ينطلق من نفسه من ذاته من واقعه وان يكون المعلم والمطبق في آن واحد،  وان عليه ان يتحمل ضريبة الدفاع عن قيمه مهما كانت.
يد الغيب وبراءة يوسف (عليه السلام) 
كما تنص الآيات الكريمة على وقوع ثلاث احداث متقارنة عند استباق يوسف (عليه السلام) وزليخة الباب، الاول قد زليخة لقميص يوسف (عليه السلام) من الخلف، والثاني مقارنة فتح الباب مع وجود رب المنزل عنده، والثالث دعوى زليخة امام سيدها ان يوسف (عليه السلام) اراد بها سوءا ورد يوسف (عليه السلام) دعواها وشهادة الشاهد من اهلها.
وقوع هذه الاحداث تارة يمكن ان يقال انه من باب الصدفة، واخرى يمكن ان يقال انه كان هناك تقدير غيبي لوقوع هذه الاحداث، ويبتني القول على أي من الاحتمالين على عقيدة الانسان في تصرف الغيب في الامور والتقدير الالهي لها، فمن يؤمن بان كل ما يجري في الكون في كل تفاصيل الحوادث بيد الله تعالى وتحت سلطانه وان اختيار الانسان في مجال تحديد الموقف الذي يختاره ـ بناءا على الاعتقاد بان لا جبر ولا تفويض ولكن امر بين امرين ـ فان هذه الاحداث كانت تجري بتخطيط الهي مرسوم منذ البداية، نعم ان زليخة لم تكن مجبرة على مراودة يوسف (عليه السلام) لكنها اختارت ذلك، ويوسف (عليه السلام) لم يكن مجبرا على عدم الاستجابة لزليخة ولكنه اختار ذلك، ولم تكن زليخة مجبرة على مسابقة يوسف (عليه السلام) الى الباب ولكنها سعت لتحقيق ذلك بكل طاقتها ومن الطبيعي ان يكون يوسف (عليه السلام) اسرع منها وصولا الى الباب لكونه في ريعان شبابه، الا انها بذلت جهدا كبيرا لمساواته في سرعة الوصول الى الباب ولما خشيت ان لا تدركه حاولت ان تمسك بثيابه لايقافه لتحقيق مآربها ولشدة سحبها لثوبه وشدة سرعته في محاولة الهرب من كيدها تمزق قميص يوسف (عليه السلام)، ان تمزق قميصه ليس حدثا بسيطا فيوسف (عليه السلام) كان يلبس لبس الامراء وهذا يعني ان قميصه كان من القماش الراقي الذي لا يسهل تمزيقه، وهذا يكشف عن القدرة الجسدية التي كانت تتمتع بها زليخة وكيف انها سخرت كل طاقتها البدنية لمنع يوسف من الهروب، انه حدث لابد من فهمه لمعرفة واقع الاندفاع اللامحدود الذي كان لزليخة استجابة لنزوة درت عليها ندماً وحسرة، وكل هذه الاحداث كانت بإرادة زليخة واختيارها ولم تكن مجبرة عليها، الا ان الاحاطة العلمية لله تبارك وتعالى كانت قد حددت مسار الاحداث فكان يمكن لزليخة ان تسقط ارضا قبل الوصول الى قميص يوسف (عليه السلام) وكان يمكن ان يكون عزيز مصر في غير هذا الموضع، من بلاد مصر الطويلة العريضة وكان يمكن ان الا يكون الشاهد بين الحاضرين، الا ان اجتماع هذه العناصر الثلاث يدل على ان يد الغيب كانت قد رسمت للأحداث هذا المسار مع بقاء ابطال القصة مختارين في جميع افعالهم والا لقبح تحميل أي منهم مسؤولية ما صدر منه.
الاحتمال الاخر ان يكون اجتماع هذه الامور الثلاث صدفة وهذا ما لا يسعني القبول به، لان رؤيا يوسف (عليه السلام) تنبئ عن سير الاحداث، ومن يذهب الى دور الصدفة في وقوعها عليه ان يجيب عن هذا التساؤل، هذا فيما يتعلق بدور الغيب في تحديد مسارات هذه الحادثة .
العبرة الاجتماعية
واما العبرة الاجتماعية في فهم الطبيعة البشرية وتغير المواقف واتخاذ الموقف الصحيح في مواجهة مثل هذه الاحداث، فالذي نجده في الآية الشريفة ان زليخة عندما رأت حراجة الموقف الذي هي فيه عندما وجدت سيدها لدى الباب ادعت ظلما وزورا ان يوسف (عليه السلام) هو من راودها عن نفسها، وهنا لابد من الوقوف عند قضية وهي طبيعة الدافع الذي كان لدى زليخة تجاه يوسف (عليه السلام) فمن الواضح ان الدافع كان نزوة خالية عن العواطف الحقيقية ولم تكن سوى رغبة جسدية جامحة بعيدة عن أي مستوى من التعلق بذات يوسف (عليه السلام) اذ بمجرد شعورها بالخطر اتهمت يوسف (عليه السلام) بما لم يقع منه في محاولة منها لإنقاذ موقفها المشين، وفي المقابل نجد ان يوسف (عليه السلام) على الرغم كان يدافع عن نفسه بعد ان اتهم في عفته وطهره ووفائه واخلاصه وموقفه (عليه السلام) نابع من دفع الظلامة التي تعرض لها من قبل زليخة الظالمة، ومن هنا يحذر القران الكريم بني الانسان من الانسياق وراء الشهوات ووراء من يزين لهم الظلم والقبيح لان هؤلاء سرعان ما سيتخلون عمن زينوا له ارتكاب القبيح من الافعال.
الغيب والشاهد من اهلها
في خضم الحدث الضخم الذي مس شرف سيد البلاط من الطبيعي ان تكون اصابع الاتهام موجه الى يوسف الصديق (عليه السلام) اذ لا يتصور ان تميل سيدة القصر التي تنظر باستعلاء الملوك الى عبد مملوك مهما بلغ قدره ومنزلته، وحتى مع ورود الاحتمال فإن سيرة عموم البشر التضحية بالأضعف تملقا للقوي، فمن الطبيعي ان تكون الاذهان والقرارات موجهة بصور مباشرة ليوسف (عليه السلام) الا ان الارادة الالهية شاءت ان يكون بين من حضر المشهد المخزي من اجرى الله الحق على لسانه، ليقول للحضور انظروا الى قميصه ان كان قد من قُبل فهي صادقة لأنه لو كان هو الذي اراد بها السوء فسيكون وجهه نحوها فاذا كانت تدافعه عن نفسها فان دفعها له سيكون من الجهة المقابلة لها ويكون وجهه نحوها، واما اذا كانت هي من قصدت السوء وكان يوسف (عليه السلام) رافضاً لما طلبته وهارباً منها فإن الجهة التي تواجهها هي ظهر يوسف (عليه السلام)، بهذا التحليل المنطقي لواقع الحدث اصبح واضحا ان زليخة هي التي راودت يوسف (عليه السلام) عن نفسه وان ساحة يوسف (عليه السلام) بريئة مما وجهت زليخة من التهم.
رجاحة عقل عزيز مصر
خُصصت بعض الآيات من سورة يوسف (عليه السلام) للحديث عن معالجة عزيز مصر للموقف المرير الذي واجهه عند الباب، ومن المناسب الوقوف عند ما كشفته الآيات عن رجاحة عقله فالرجل كانت له نظرة ثاقبة عندما امر زوجته ان تكرم مثوى يوسف (عليه السلام) لما توسمه فيه من ملكات لا تتوفر الا عند الأوحدي من البشر، وعلى مر السنوات التي عاشها يوسف (عليه السلام) في بيته لم يلحظ عليه الا كل مكرمة والخلق العظيم والامانة ورجاحة العقل، فليوسف (عليه السلام) مقام عظيم في قلب عزيز مصر، وفي المقابل كان الطرف الاخر زوجه وما جرى كان جريمة بحقه، ان عزيز مصر لو اتخذ موقفاً ضد يوسف (عليه السلام) لكان ذلك جرحا غائرا في وجدانه فهو يعلم ان يوسف (عليه السلام) اطهر موجود على الارض، ولو اتخذ موقفاً ضد زليخة فان ذلك سيؤدي الى انهيار سمعته في اوساط المجتمع المصري، فكان رجحان عقله يقتضي معالجة الموضوع بالشكل المناسب فبعد ان شهد الشاهد طلب العزيز من يوسف (عليه السلام) ان يترك الموضوع ولا يتابعه ولا يهتم له، وامر زليخة ان تتوب عن ذنبها لانها كانت من الخاطئين.          
                                                                                                                                                                                                                             
                     لمتابعة المقالات على التلكرام اضغط الرابط                                                                                                                                                                                                                                            https://t.me/joinchat/gbIRhmKwQXhhMWUy


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/08



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 4)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net