صفحة الكاتب : ميسون زيادة

رحلة الزمان والمكان
ميسون زيادة

 لحظةٌ دنيويةٌ أبدع الشيطان رسمها وأتقن لعبها حين شعرتُ بأنه ينبغي عليَّ أن أشارك تلك الأرواح تلوِّياتها وحركاتها المنتظمة الموجّهة، ورأيتُ ناراً تُطلّ من وسط الظلام، لفّتني تلك الأرواح بعاداتها وطقوسها الغريبة، وانجذبت لتلك العادات والطقوس، أصبحت جزءاً منها، روحاً كتلك الأرواح، روحاً شريرة؟ روحاً ملائكية؟ روحاً شيطانية؟ لم أكن حينها أدري، كنت كمن جلس وسط المعركة وتربّع، لا يهمني التفكير بصحّة أو خطأ ما أفعل لأنني مأسورٌ بحركاتها الغريبة وهي تدور وسط الظلام، تعلو ثم تنخفض، وتُحرِّك يديها للأعلى ثمّ للأسفل، تحمل ثنايا عباءاتها السوداء وترفعها نحو الأعلى رافعةً رأسها معها، ثمّ تُخفضها حتّى تلامس الأرض مخفضةً رأسها معها، جسدي اندمج معها تماماً وبدأ الرقص، لكنّ روحي بقيت بعيداً تراقبني.

 تلك الرقصة لم أفهم لها مبدأً محدداً، ودون أن أدري بدأت بحركاتً مشابهة لحركات تلك الأرواح، ورحت أرقص .... أين؟......... ولماذا؟..... لا أدري....
وكانت لحظة ضعف وقبّلتُ الأرض التي أرقص عليها، وشعرت بأضلاعي وهي تتحطّم، وتلك الأرواح تحيط بي من كل جانب وتطبق عليَّ بقوّةٍ غريبة خلتها لذيذةً للحظة، ولكنها كانت مخيفةً مدمِّرة، وأدركت أنها كانت أرواحاً شيطانية، وأنّ اللحظة التي بدأت فيها الرقص معها كانت لحظةً من نار.
صوت روحي يضجُّ في أذنيّ رغماً عن الصخب:
-العرض كبير، والاختيار السليم صعب ليس كلّما حولك يستحق التقليد.
*  *  *  *  *
البحر هائجٌ، والربان قلق، السفينة تذهب يميناً ويساراً، بحارةٌ يركبون مراكب النجاة الصغيرة، ينزل المركب الأول لتلتقفه سمكة قرشٍ بضربة ذيلٍ وتحطمه لأشلاء، طفلٌ رضيعٌ تبتلعه أمام عيون الجميع، والجميع لا يملكون سوى البكاء والصلاة، ولكنّ أحداً لم ينتبه أن السفينة لا تغرق فيعطي الأمر بعدم إنزال المراكب الباقية، المركب الثاني يلقى نصيب أخيه، أحاول أن أصرخ فلا أستطيع، أغمض عيني لا أريد أن أرى بقيّة المهزلة، وجه امرأةٍ مُسنّةٍ يهاجمني بشدة، تؤلمني ملامحه الكسيرة الحزينة، أذكر هذا الوجه، أعتصر ذاكرتي، وأصرخ:
- تذكّرتها...
امرأةٌ فلسطينيةٌ كانت تبكي أولادها، رأيتها يوماً على التلفاز، وبقيت بعدها يومين بلا طعام، ثمّ نسيتها، وكأنني أنتظر رؤية أمٍّ ثكلى أخرى تنعش ذاكرتي ودمعاتي وصلواتي، ثمّ أعود لحالة اللامبالاة التي تتملّكني.
*  *  *  *  *
جوادٌ جامحٌ أسودُ اللون كان مربوطاً بجبلٍ إلى شجرة، قطع بهمجيته حبله وراح يدوس الأزهار الملونة التي تملأ المرج حولي، عطر الأزهار ملأ أنفي وتجاوزه إلى روحي فحرّكها بشدة حتى كدت أقف بوجه الجواد الشرس الجامح، تلك الزهرة البيضاء الطويلة كانت تمدّني بقوة غريبة، حاولت أن أركض لأمسك الجواد قبل أن يدوسها، شيءٌ ما يثقل حركتي، تلفّتُ حولي فوجدت نفسي مربوطاً مكان الحصان الأسود.
الزهرة البيضاء النقية تكسّرت تحت حوافره، وفارسٌ يمتطي حصاناً أبيض كنت أحسده على تحكّمه بحصانه وهدوئه ورصانته كم تمنيت لو أنه أنا، اقترب من زهرتي بهدوء وحملها بعناية، كنت أعلم أن زهرتي بخير ولكنني أعلم أيضاً أنها لم تعد زهرتي.
رغبةٌ بالبكاء هاجمتني ونفّذتها بسرعةً غريبة، بكيتُ بصوتٍ عالٍ ولم أخجل كعادتي، ذكرى (أمل) كانت تسيطر على داخلي، أحببتها بصدق ولكنَّ ذكورتي المتعجرفة جعلتني أخسرها.
انتهى الموضوع وأعلم أنّها لن تكون لي يوماً بعد أن تزوجت.
*  *  *  *  *
النسر يزعق وهو يحوم حولي في السماء، وأنا أقف على حافة ذلك الوادي العميق، النسر يزعق محاولاً أن يُنبِّهني لشيءٍ لا أراه، ولكنني مشغولٌ عن كلَّ شيءٍ حولي بوهم قوس الألوان.
رغبةٌ ملحةٌ بمحاولة تسلّقه، أطردها من ذهني، ولكنّ الرغبة المجنونة وإن لم تكن المستحيلة تعود لتهزمني، يزعق النسر أكثر، أرفع نظري نحوه تلتقي عينيّ بعينيه فأرى بعينيِّ النسر مصيري.
أرى نفسي واقفاً على حافة وادٍ مليءٍ بالأشجار والأنهار، يُتوِّجه قوس الألوان، أتسلّقُ قوس الألوان لأسقط في قاع الوادي المجدب الخالي من كلِّ شيء إلا أنا وجهاً لوجهٍ مع تمثال أبي الهول بجناحي النسر الذين يحملهما على كتفيه، أرفع نظري للأعلى متأمِّلاً الأشجار والأنهار التي خسرتها، النّدم يفترسني فاندفاعي نحو وهمٍ جعلني أخسر ما أملك.
أهزُّ رأسي بعنف وكأنني أطرد ما رأيته بعيني النسر، أعود لأنظر إلى قوس الألوان ولكنَّ بريقه يتلاشى ورغبتي بتسلّقه تختفي.
راحةٌ وطمأنينةٌ وسلام، مشاعرُ جديدةٌ عليَّ  تجعلني أجلس مكاني قانعاً بكنزي الكبير.
*  *  *  *  *
لم أكن يوماً أحبُّ السراديب المظلمة، لكنه كان ينبغي عليَّ أن أسير بهدوءٍ في هذا السرداب المنعطف دوماً نحو اليسار، متأمِّلاً أن أصل إلى نهايته، ورحت أشغل نفسي بتأمِّل تلك اللوحة الممت تفاصيل الوجوه كانت تتغيّر ولكنّ نظرة البراءة وإشعاع الأمومة كانا دوماً يُطلّان من العيون.
توقّفت فجأةً أمام سيدة مختلفةٍ غريبة، شعرها الأشقر الأجعد، أحمر الشفاه، طلاء الأظافر، النظرة المتعالية، القسوة، غادرتها ونظري معلّقٌ بها لا حبّاً وشغفاً بل حقداً وكرهاً.
تابعت سيري وذهني مشغولٌ تماماً بتلك السيدة الشقراء القاسية، لم أرَ معها طفلاً كغيرها من السيدات، وعندما عدت لأقف أمام صورتها مرةً أخرى أيقنت أن سردابي هذا لن ينتهي أبداً لأنه بالتأكيد دائري.
تلفتُّ حولي باحثاً عن مخرج ولأول مرة لاحظتُ أن الجهة اليسرى من سردابي لم تكن جداراً بل كانت ساعةً رملية ضخمة تتوسط مركز السرداب الدائري، لقد مرّت نصف ساعة وأنا أدور وإلّا فإنني سأبقى محبوساً فيه للأبد.
التفكير أنهك وقتي حتى كاد ينتهي، والحدس يساعدني مرةً أخرى، ويدفعني للبحث عن طفل المرأة الشقراء، طاف نظري أجزاء اللوحة مرات، وأخيراً رأيت رأسه من خلف يدها العارية التي تسندها إلى جانبها.
وجهه المألوف ذكّرني بصورةٍ لي عندما كنت رضيعاً، رفعت رأسي نحو السيدة الشقراء، وقد أدركت أنّها أمي، فرأيت وجهها يمتلئ طيبة، وأحسست أنّ الروح دبّت في أطرافها، وفتحت لي باباً إلى الفردوس.
دخلتُ جنّتي الغنّاء، التفتُّ نحو السرداب محاولاً أن أودِّع أمّي التي أشارت لي بيدها كي أبتعد، وبصوتٍ يؤكّد أنها تبكي نصحتني لأول مرةٍ نصيحة أمٍّ حقيقية، ذات خبرةٍ في الحياة لم أعهدها بها:
-لا تدع ماضيك يبتلع عمرك بسواده، لتكن أخطاء الماضي دافعاً لبناء مستقبلك ومستقبل أبنائك.
فردوسي جميلٌ جداً، بنتٌ صغيرةٌ وصبيٌ يلاحقانني، ألعب معهما أنا ابن الأربعين عاماً من التمرّد والاستهتار والقسوة بمرحٍ طفولي لم أختبره حتى في طفولتي.
أوقفني حشدٌ من الناس يرتدون السواد، سيدةٌ متوسّطة الجمال رزينة تقف قرب حفرة النهاية السرمدية، الكل يقدِّم لها التعازي ولشابٍ وفتاةٍ يقفان على جانبيها، لا بدّ وأنّ الميت والدهما وزوجها، أتأمّل وجهها على الرغم من أنّه أكبر بخمسةٍ وعشرين عاماً عمّا أعرفها عليه ولكنّها بالتأكيد صديقتي (سوسن)،لم تكن يوماً جميلة ولكنني كنت دوماً أحسد ذلك الشخص الذي ستكون زوجته، والآن أحسده أكثر فكلُّ الواقفين يبكون عليه بصدقٍ واضح.
اقتربت من الحفرة، الكفن الأبيض يغطّي كلّ شيء، ولكنّ فضولي اخترقه حتّى رأيت وجه الميت........... إنّه أنا.
*  *  *  *  *
نهايةٌ سعيدةٌ لرحلةٍ متعبة ليتني لم أستيقظ فالنهاية أعجبتني، أعلم أنّه ينبغي عليّ أن أتعب كثيراً حتى أصل لنهايةٍ مثلها، تبدأ عندها روحي رحلةً تتجاوز الزمان والمكان إلى عالمٍ غريبٍ جميل بابه الموصد لا يُفتح إلّا لمن استطاع أن يضبط نفسه فيتجاوز أخطاءها بإرادته.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ميسون زيادة
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/12



كتابة تعليق لموضوع : رحلة الزمان والمكان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net