في ذكرى وفاته الوائلي الإرث الثقافي والمنبر الحسيني
صادق غانم الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رحل من الدنيا بإرادة الله , وظل اسمه محفوراً في القلوب والعقول , عرف بخطاباته الشامخة وصوته ذو النبرة الحنونة يمتزج فيه صدأ واقعة ألطف وترتيل آيات الرحمن , في كل مكان وزمان شئت أم أبيت تسمعه في البيت وفي المركبة وفي جميع المناسبات الدينية, حاضرا"مع وجودنا لما تركه من ارث فكري شامل لم يصبه صدا مهما مرت عليه الدهور, وأراء صائبة نورت سبل المعرفة وقربتنا زلفا من اليقين , من على المنبر يرسل العلم كالسحاب بمختلف إشكاله وأنت تصغي إليه يغنيك عن مطالعة جمعا" من الكتب, وصف انه المكتبة المتنقلة , تفاعلت له أجيال وتسابقت له مختلف الطوائف, ملئ الأرض وعمرها بنصائحه تعالى كلامه لوحدة المسلمين دون كلل وملل , شرح الفكر والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وأبحر بالشعر ووصف النفس وغرائزها مالم يصفها المختصون , نصب راية للحسين في كل قرية ومدينة وطاف بالعالم ليعلن أن الحسين منارا" للمؤمنين وشعلة يهتدي بها المجاهدون وينتصر بها المظلومين تساقطت دموع الحاضرين في مجالسه من القلوب , واكتحلت عيونهم بنور إل محمد, ودق باسم الحسين ومن على منابر الدين مسامير الحق في صروح الطواغيت , ولد الوائلي في النجف 17ربيع الاول 1347ه 1 ايلول 1928م , وهو الشيخ احمد ابن الشيخ حسون الليثي الوائلي , وقد اشتهرت عائلة الوائلي بال حرج نسبة الى جدهم الاكبر ( حرج) وهو اول من نزح من الغراف بلدهم الاصلي وهبط بالتجف الاشرف هعلى اثر معركة بينه وبين بعض العشائر , وأطال الله بعمره ليدخل العراق بعدما رحل منها قسرا" ليرى الطاغية مهزوما" مكسورا" وتوفي يوم 14 تموز 2003 تزاحمت عليه الملايين لترفع نعشا" لمثواه الأخير , تاركا المنبر حزين وهل يمكن لكفن أن يضم عملاقا"يحمل جميع العلوم , ودفن إلى جوار كميل ابن زياد في البقعة الطاهرة على مقربة من كان يقول عنه علي الدر والذهب المصفى , انه الشيخ والدكتور احمد الوائلي,أيها الشيخ طاب مثواك وقدمت إلى ربك ليجزيك بعملك وحبك لاءل بيت الرسول ليكون معك أنيسا"في القبر ونورا" ساطعا" على صراط المستقيم , , يقول الدكتور علي جواد الطاهر ( النجف مدينة العلم الديني المنقطع النظير ثم الأدب والشعر , يعتني أهلها بقول الشعر وسماعه والحديث عنه ويستمر بالقول أنهم أدباء كما يتنفس المرء الهواء ولأتسل بعد ذلك عن الكتب والمكتبات والأسر العريقة في العلم والأدب والشعر ), , كان أول أستاذ يتعلم على يديه الدكتور الوائلي هو الشيخ عبد الكريم قفطان الذي اشرف على تعليمه في مسجد الشيخ ( علي نواية) وبعدها تتلمذ على يد ثلة من العلماء اشهرهم المصلح الإسلامي الكبير الشيخ محمد رضا المظفر , ثم ولج المدارس الرسمية وانتسب إلى مدرسة الملك غازي الابتدائية , انهي تعليمه النظامي في سنة 1962 ليحصل على البكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية , والتحق بكلية الفقه التي تخرج منها سنة 1969 ثم حصل على شهادة الماجستير من جامعة بغداد عن رسالته( إحكام السجون في الشريعة والقانون ) وبعدها حصل على شهادة الدكتوراه من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عن أطروحته( استغلال الأجير وموقف الإسلام منه) سنة 1972 ,الوائلي كان خطيبا" وشاعرا" ارتقى منبر الخطابة في سن الرابع عشر وتتدرج ووصل بكفاءته العلمية والثقافية مالم يصله شهرة ,كما لم يقلد الوائلي من سبقوه في الخطابة بل ابتكر مدرسة بدأت به واستمر بها طول النصف الثاني من القرن العشرين , وبرز ايضا" خلال فترة صعبة وحرجة شهدت سيطرت الاتجاهات المادية على الساحة والحركات القومية وكانوا لهم تأثير على عقول الناس واستقطابهم مما يعني أن مهنة الخطيب صعبة جدا" والخطيب في مؤسسة المنبر الحسيني ليس موظفا" في دولة حتى تكفله , واستطاع الوائلي من فرض مهمته بفضل كفائتة الشاملة وعن طريق المنبر من إدخال منهج وسط المجتمع واستقطاب الأضواء بدرجة ملفته للنظر ومتحديا" كل التيارات في الشارع ورغم ماتملكه من أجهزة إعلامية تسيطر بها , والمنبر مثل كل عملية تربوية تستهدف تربية الإنسان , فيها ايجابيات وفيها ثغرات يمكن التغلب عليها إذا صح العزم وصدقت النية وبذل الجهد , أن مساحة المنبر بدأت تتسع لتشمل كل إنحاء العالم الذي يوجد فيه مسلمون , وبالذات المسلمون الشيعة , كما أن الوائلي أنقذ المنبر الحسيني من الخرافات والأساطير والأخطاء في سرد الحقيقة التاريخية وتحرج كثيرا" إثناء دراسته في القاهرة بالخروج في إي مكان حفاظا" على ثقة المنبر, فالح عليه المرحوم الدكتور عبد الرزاق محي الدين على أن يقضي مع الدكتور الوائلي سويعات في متنزه على نهر النيل يقدم الشاي لرواده وفيه جو منعش ومنظر لأبأس , فقال الدكتور الوائلي للراحل إنا اعرف ذلك وأتذوقه ولكن لو جاءت أسرة وجلست بالقرب منا وجاء بعض الخليجيين أو العراقيين وقال : بالله لقد رأيت هذا الذي يعظ الناس جالسا" بين النساء الحاسرات فماذا ستكون النتيجة ستكون حتما" مؤدية إلى اهتزاز ثقة المنبر , كما قام بتهذيب الحزن والبكاء وحوله إلى أسلوب حديث في الوعي السياسي والفكري , وقد وجه الشيخ الوائلي نداء لإخوانه وأبنائه من أهل المنبر فقد قال ( أرجو لكم أن تكونوا في ظل أبي الشهداء وفي ساحته الكريمة العزيزة أهنئكم بهذا الانتماء الذي لاشك في كونه شرفا" في الدنيا وأجرا" وثوابا" عند الله تعالى يوم لأظل إلا ظله , لأننا نعمل في خدمة بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر اسمه ونتلوى ونستلهم سير أهل بيت اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" ) سأل الوائلي كيف تألف المحاضرة : قال لابد من تصور نوع الموضوع وهدفه مثلا" هل الموضوع خاص أم عام لارتبط بمناسبة خاصة ويصلح لآن يقرأ دائما" , ثم يتعين تحديد الهدف من الموضوع , حتى يتم على ضوئه البحث ثم نشرع بالمراحل التالية:1ـ اختيار نص يكون صدر للموضوع وعنوانا" له تدور أجزاء الموضوع حوله كان يكون أية وحديث 2ـ نجزء النص الى مفرداته المكونه له لترى ماترتبط به هذه المفردات من معنى يتضمن حكما" شرعيا" او قاعدة علمية او نكته ادبية او توجيها" اخلاقيا" , ثم ندعم به المفردة من باب التأييد 3ـ تستدعي هذه المضامين المشابهة لضمها الى المفردات ودمجها في صلب الموضوع 4ـ ملاحظة وجود الربط بين مفردات هذا النص وعدم الغفلة عنه 5ـ نختم هذا الموضوع بصورة عضوية منسجمة مع جانب من جوانب الطف ولعل هذه العملية الاخيرة أصعب مافي تأليف الموضوع عند البعض لتباعد مضامين معظم البحوث عن الارتباط بمعنى او جانب من جوانب واقعة الطف وهذه المسألة مما لم يعد لها مكان في اهتمام المنبر الفارسي او الهندي , فأن تلك المنابر لاتحرص على ربط واقعة الطف ربطا" عضويا" بالموضوع بل تورد شيئا" من فصول مأساة الطف , لقد رافق بداية المنبر الهيكل التراثي الموروث بالشكل والمضمون والذي تحرص اشد الحرص على الاحتفاظ بكثير من جوانبه كأليات متوارثة لها مكانها في عمق الوجدان وضرورتها لكونها جذوة لانريد لها ان تخبو فمثلا" مادرج عليه هيكل المجلس الحسيني الاساسي في العشرة الاولى من شهر المحرم من تسلسل مصطنع حيث يكون الخطيب في اليوم الاول يتحدث عن هلال محرم ومايصاحبه من ذلك من تداعي المعاني ومايصاحب ذلك من حكايات , وفي اليوم الثاني يتناول الخطيب فضل البكاء على ماجرى من فواجع واقعة الطف ومشروعية هذا البكاء والتماس الادلة على ذلك ومايترتب من الاجر والثواب , واليوم الثالث يتناول خروج الحسين من المدينة ومااحاط به من اجزاء تصور المشهد ولوداع قبر جده ( رسول الله صلى الله عليه واله ) , اليوم الرابع مسير الحسين ومروره بالمنازل والتقائه ببعض من اهلها ولقاء الحر معه ومادار بينهما , اليوم الخامس مسيرة مسلم بن عقيل عليه السلام ومكانته وسر اختيار الحسين له ليكون رسوله الى الكوفه , اليوم السادس تتلى سير شهداء الطف من انصار الحسين مثل حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجه وزهير بن القين , اليوم السابع يخصص الى العباس بن علي واخوانه ابناء ام البنين , اليوم الثامن للقاسم بن الحسن الشهيد الصبي الذي تمتزج ذكراه بما رافقه من افاق عاطفية زوجته وصنعت له عرسا" , ويمتزج عرسه بدم المعركة , اما اليوم التاسع فهي الى علي الاكبر بن الحسين اول قتيل من الهاشمين وحالات الحسين عند مصرعه ومايرتبط بذلك من شؤون الاباء مع الابناء , اما الليلة العاشرة فهي مخصصة للاعداد المعركة وذكر ماجرى فيها من عبادة ووداع واستعداد للشهادة والحالة النفسية وهي تتوقع المجزرة صباحا" وفراق اهليها واحبها , هذا وصف الهيكل التقليدي للمجلس الحسيني عند الكثير من القراء , اطلاعات الوائلي : كان للدكتور الوائلي اطلاعات واسعة على مؤلفات كبار علماء السنة في السير والتاريخ والحديث , وكذلك اطلاعه على الكثير من تفاسيرهم المشهورة للقرأن الكريم مثل تفسير القرطبي والرازي اللذين كان يستشهد بهما كثيرا" في محاظراته , وكان الوائلي نفسه شاعرا" مفوها"مقتدرا" , وكثيرا" ماينشد من اشعاره في محاظراته وله دوواين شعر ومطارحات شعرية وهو شاعر ذو لسانين فصيح ودارج واجاد وابدع بكليهما , فقد تحرك من خلال الشعر على الكثير من القضايا والشؤون السياسية والاجتماعية , ومن اشعاره الشعبية قصيدة ( حمد) و ( سيارة السهلاني) وقصيدة ( شباك العباس ) و ( سوق ساروجه) و ( داخل لندن) وقصيدة وفد النجف , ويجري الشعر على لسانه مجرى السهل الممتنع بل ويرتجله ارتجالا" , وقد تصدى الشيخ الوائلي الى حكم عبد السلام عارف , الذي يتميز حكمه بالطائفية المقيته فقد قال قصيدته بمهرجان الادباء عام 1965
بغداد يومـك لا يزال كأمسه صورٌ علـى طرفي نقيض تجمع
يطغى النعيـم بجانب وبجانب يطغـى الشقا فمرفّه ومضيع
في القصراغنية على شفةِ الهوى والكوخ دمعٌ في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرّع وبجنب زق ابـي نؤاس صرّع
ويد تكبّل وهـي مما يُفتدى ويدٌ تقبّل وهي مما يُقطـع
كتب عن ثورة العشرين قصيدة رائعة جاء فيها:
ففي (الرميثة) من هاماتنا سـمة وفي (الشعيبة) من أسلافنا نصـب
و(العارضيات) أمجاد مخـلدة أضحى يحدّث عنها الدهروالكتب
فالجـو طائرة والأرض قنبلة وبالجهات البواقي مدفع حـرب
وخضت بحراً دماء الصيد ترقـده وما السفائن إلاّ الضمـدُّ العرب
وكان الوائلي مطلعا" على الافكار والفلسفات الغربية والعلمانية والاشتراكية والشيوعية الامر الذي جعل منه ان يعقد مقارنات موفقه ويبين الفكر والفلسفة الاسلامية , اما كتب الوائلي فهي رد للخرافات والادعاءات التي دبرت واحيكة ضد الفكر الشيعي واتهامه بالارتباط الى ايران وقد كتب هذا الرد في كتاب ( هوية التشيع ) الكتاب الذي فند ادعاءات بعض المستشرقين والباحثين السنة بأن التشيع فارسي فرد عليهم بالادلة التاريخية والاسلوب المنهجي وثبت عروبة التشيع , اما كتابه فقه الجنس في قنواته المذهبية وهو كتاب صريح رد فيه ايضا" على بعض قضايا الزواج وتعدد الزوجات وزواج المتعة وشرعيته والزواج بالرقيق وزواج المسلم من الكتابية واستشهد بنصوص كتب اهل السنة مثل صحيح ابخاري وطبقات بن سعد , وبسبب الظروف السياسية في العراق هاجر الوائلي الى المنفى سنة 1979 ,وبقى خارج البلد 24 سنة , حيث قراْ الوائلي المجالس الحسينية قبل سفره في اكثر المدن والاقضية في جنوب العراق ومنذ 1951 ومابعدها دعى الوائلي للمجالس خارج العراق مثل الكويت الذي استمر يقرأ فيها حتى عام 1960 ثم انتقل بعدها الى البحرين , وفي عام 1996 اصيب الوائلي بمرض السرطان في فكه وتشافا من المرض ونظم قصيدة من على فراش المرض ندبه فيها الامام الحسين قال( تقبل منا مواسم قامت لتواسي الائمة الاصفياء, وعهدنا لصاحباتي وعيهن بان نحمل الحسين لواءا ) تم تكريمه مرة واحدة عام 1999 في لندن , له الالاف من المحاظرات المسموعة والمرئية بالاضافة الى العديد من الكتب اهمها هوية التشيع , ونحو تفسير علمي للقرأن , ودفاع عن الحقيقة , وتجاربي مع المنبر, ومن فقه الجنس في قنواته المذهبية , واحكام السجون , واستغلال الاجير , بالاضافة الى دوواوينه الشعرية , رحمه الله الوائلي وطيب الله ثراه وحشره مع الامام الحسين واصحابه .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
صادق غانم الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat