صفحة الكاتب : د . رحيم الغرباوي

( قصيدة النثر بين سطحية الرؤية ودهشة الجمال ) شعر نيران التميمي أنموذجا .
د . رحيم الغرباوي

    قصيدة النثر فن جمالي مؤثر بدأ ظهوره بعد عصر ما بعد الحداثة ؛ ليعبِّر عن تطلعات وأحلام وآراء ومواقف ومشاعر بألوان شتى من الرؤى التي تفتح مغاليق الكون عبر استشراف عوالم الجمال في دنيا الشعور ، وقصيدة النثر تمتلك جاذبية معينة من خلال المعنى أو ربما ما يحققه أسلوبها جمالياً أو أنَّها تكتنز بصور مدهشة  , أم بإيقاعها المؤثِّر .

   فالجمال عند الإغريق ارتبط بكل مايثير الإعجاب والتقدير سواء فيما يخص ميدان الحواس أو الخصائص الروحية  , فمن تعريفات الجمال التي لاحصر لها , ولعلنا نؤسس لمقالنا التعريف المادي الحسي المجرد للجمال بأنَّه وحدة العلاقات الشكلية بين الأشياء التي تدركها حواسنا , ومنهم من يرى أن تتوافر في الجمال صفات أساسية في الشيء الجمالي وهذه الصفات تنحصر في مفاهيم : الكمال ، والانسجام ، والتوافق ، ثم الوحدة , والتوازن الإيقاعي ، والتباين ، والتنوع , والنظام ، والتناظر , والرشاقة .(1)

   ولكون الجمال يرتبط بالفن الإنساني لإنتاجه وإبداعه , فقد ارتبط مفهوم الجمال الفني أيضاً بالبعد الميتافيزيقي كون الفن " محاولة إنسانية ذات طابع وجداني لتفسير الطبيعة والسيطرة عليها , إذ أصبح أسلوب الفنان أشبه باكتشاف أو محاولة غزو الطبيعة وفتح مغاليقها أمام عقله ومشاعره , بل ولإمتاع حاسته الجمالية "(2) ويبدو أنَّ لشعرائنا جمالاً روحياً ينتظمه على شكل إبداع تلقائي يجسد فيه الخصوصية التي تبذخ بها رؤاهم وإن كانت هواجس وأحاسيس تعبر عن مشاعر جياشة فيها الحلم والتفاؤل أو تباريح هوى يؤججها القلب الجموح , ومن بين هؤلاء الشعراء شاعرتنا المبدعة نيران التميمي التي تعزف سمفونية الجمال في فضاء مخيالها , فقد استطاعت أن تبث مفاتن الجمال بصوره المتنوعة , مازجة بين ملامحه الحسية والمعنوية , فهي تقول :  

تعال , أميري

امسحْ السنينَ العجاف من مملكتي

فبعدَك قفلتُ أبوابي ونوافذي

فذبلتْ زهوري

وتغيرتْ ألواني

...

تعلَّمتُ عشقَ الليل

أدمنتُ أحلامي ؛

لأرسم عينيك بنورِ اللقاء

فهل من لقاء ؟

    نجدها ترسم بمشاعرها المتوهجة مملكةً وإيَّ مملكة تحتويها ! فهي ترسم صورة الحبيب أميراً , تخاطب الغائب كأنَّه حاضرٌ عندها ؛ ليمسح السنين العجاف  فبعده قفلت أبواب قلبها , لتفتح طريقاً إلى قصرها الذي يمكن أن يدخله السفراء والمريدون وابناء شعبها وخدَمُها , وهي التي كانت تعيش الازدهار حيث كانت مزهرة الروح وهاجة الوضاءة من خلال تعبيرها الآني قبل أن تفقد كل ماهو جميل فيها ؛ لتبني لنا من خلال ذلك جمالية الرسالة المنسجمة من حيث ترابط الفكرة ورسم الصورة ونقل وقائع الشعور حسب ما يضفيه عليها إحساسها , وهي تنتظر الغائب الحبيب ؛ ليحيي فيها ذلك الموات .

  ثم تنتقل لتخبرنا أنَّها تعلَّمت عشق الليل , فأدمنت الأحلام , وهي ترسم عين الحبيب بنور اللقاء ؛ لتتساءل عن لقاء أيقنته مفقوداً .

   ولعلَّ الشاعرة تتحدث عن أمرٍ أكبر من ذلك , وهو فقدان الأمل الذي يفتقده اليوم جلّ الشباب وهم يبحثون عنه عساه أن يشفع لهم ظلام أيامهم , ويحررهم من الذبول والقنوط والاغتراب في عصر يلج بالضغوطات التي جعلتهم يبحثون عن ملاذات آمنة فيها بصيص من الشعور بالسعادة المُفتقدَة .

وفي نصها الآخر تقول :

بين شرفات الليل تُولد قصص وتنتهي قصص

يعزف لحن حزين

ولحن عشق جديد

تنهمر دموع الوداع

وتُخلق ابتسامةٌ بريئةٌ !

تلك هي الحياة

بين عطاءٍ وسلب .

   وهكذا ترى حياة الناس وهم ينازعون وجودهم بين قصص الليل التي تتنوع حكاياتها بين لحنٍ حزين , ولحن عشقٍ جديد حيث تنهمر دموع الوداع ، فالتقابلات ( لحن حزين وعشق جديد , دموع الوداع وابتسامة بريئة ) تشكل لنا عقداً من التباينات والتناظرات , والانسجامات الإيقاعية فيما بينها , لتحدث لنا دهشة الجمال التي طرزتها لنا مشاعر الشاعرة نيران التميمي .

 أما في نصها الثالث الذي تقول فيه :

كانت تنتظر فارسها

وقت السحر ؛

لتعزف لحن الفراق

المحتَضِر ,

بيد أنَّ عطرها يهفو , يفوح

 بين نسمات السهر

كالليل ,

يعانق غفوات السمر !

  بحسِّها الرومانسي الخميل تعلن انتظارها وقت السحر إشارة منها إنها مازالت طول الليل ترقب ذلك الفارس إلا أنَّ وقت السحر كان محطتها الأخيرة من ذلك الليل وهو وقت الطمأنينة لهدوئه لكنه مصدر قلقٍ  ؛ لأنَّ في أطرافه إذا ما انقضى انقضى معه الانتظار ودبَّ اليأس , لذلك جعلته وقت عزفٍ للفراق الذي بات يحتضر؛ ليبلغ مرحلة التلاشي , لكن بمفارقةٍ جميلة نرى أنَّ عطرها بات ينسلُّ ولادةً وهو يفوح بين نسمات السهر , فنجده يعانق المتخيَّل مثلما هو الليل الذي يعانق غفوات السهر , إذ نجد الألفاظ : ( ينتظر ، الفراق , المحتضر , غفوات ) جميعها تدلُّ على غياب الأمل الذي ينتظره الانسان ويبقى ممعناً له أزماناً إلا إنه ليس من كوَّةٍ سوى الاستلاب والنجوى لما هو مجهول المصير .

   يتضح أنَّ القصيدة وإن نطقت رؤيةً بسيطةً إلا أنَّها تحمل مع صبواتها أكاليل من الجمال الذي يحكي ريادة الانسجام والتنوع والنظام , ثم الكمال , فالفن حسب الناقد ( كروتشه ) يمثل انعكاس خيال الفنان وبصيرته على الواقع . وشاعرتنا نيران التميمي أجادت بمخيلتها لأن ترقى إلى روح الجمال من خلال القصيدة , وهي تحاكي واقعها إلا أنَّها تعلو بمخيلتها على شكليته ؛ لتضفي عليه تشكيلات شعرية رسمتها لنا قدراتها الفنية الطامحة .

 

  1. ينظر : معنى الفن , هربرت ريد : 37
  2. المصدر نفسه  : 300

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . رحيم الغرباوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/10/31


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • رومانسية الخطاب الشعري في مجموعة ( على قيد حب ) للشاعرة لمياء الطائي  (قراءة في كتاب )

    • استشراف لمجموعة [نوبات شعرية] للدكتور صالح الطائي  (ثقافات)

    • فوضى العالم وأثرها في رؤيا الشاعر , قراءة في مجموعة ( إننا معاً ) للشاعر زهير البدري  (ثقافات)

    • المُضمر المتجلي في قصيدة ( سيد أوراقي ) للشاعرة الجزائرية سيليا بن مالك  (ثقافات)

    • بين النزعة الوجودية والحس الرومانسي , وقفة مع الشاعرة نيران التميمي  (ثقافات)



كتابة تعليق لموضوع : ( قصيدة النثر بين سطحية الرؤية ودهشة الجمال ) شعر نيران التميمي أنموذجا .
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net