صفحة الكاتب : د . سمير ايوب

لا أتْقِنُ النِّسيانَ ولا أريد
د . سمير ايوب

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 قبلَ أيام ، من شرفةٍ في مغاريبِ جبالِ البلقاء ، المُطِلَّة على فلسطين ، كنتُ وحيدا مع وخزةٍ في الصَّدر، أحلمُ عشوائيا ، وعينايَ ترقُب الشَّمْس وهيَ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا . وأنا أشعلُ أولى لُفافاتي ، وقعَ بصري المُمْتلئ بقرصِ الشمس ، على حاسوبي الشخصي أمامي ،  فرأيتُ رسالةً تحتلُّ كاملَ شاشته المضيئة تُخاطبني ، فقرأتُ : 

رغم أني أعرفُ كلَّ عيوبِكَ ، حارَبْتُ وجَعي لأجلِكَ ، حتى سكَنَ الكثيرُ مِنَ الليل ، وباتت الرِّيحُ أقلّ رعونة ، ولم أعُدْ على مفترق طُرُق. ولأنّك تعلمُ أنني لا أطيقُ النّسيان ، ولا أُجيدُه ولا أريدُه، سأخبرُكَ سرَّاً . 

تُرْهِقُني وِحْدتي وتُشتِّتُني وتُبَعثِرُني . وأنتَ تتسلَّلُ مِنْ مُخيَّلَتي وظِلِّي ، أحسُّ باختناقٍ شديد . أعجزُمعه عن ترتيب صمتي . ويستعصيَ عليَّ الانعتاقُ مِنْ أبجدياتٍ وتفاصيلَ ما ملَّت إنتظارَك، ما زالت مرسومةً في قلبيَ ، على مقاساتِ لَهفتِك وضحكتك ومَواعيد عودتك . 

أزِلِ العُصْبةَ عن عيونِ قلبِك يا هاجِر ، وأتركْ جانِبا حُزْنك ، وشُدَّ الرباط على تعرجات جرحك الظالم ، وتعالَ نَعُدْ مِنْ جديد . فلِلْحب يا والدَ وحيدَتِنا رقصةٌ ثانيةٌ بلْ وأكثَرْ ، دفاترُها مليئةٌ بأسطُرٍ لَمْ تُكتَب بعدُ ولَمْ تُقَلْ. لكَ كثيرُ هذا القلب، الذي اتسع مع كلِّ غيمةٍ أو هزيمة وادعةٍ عبرَت بِنا. بكَ العينُ مُمْتلئةٌ ، لَمْ تَنْظُر لغيركَ، وما زلتُ أشمَّ رائِحتَك في قهوتي .  

أضْنَيتني بالهجر يا ظالم , لا تدعني أنتظر طويلا . عُدْ قبلَ أنْ تذبلَ أوقاتُنا. قُمْ وتَعالَ ، وقُلْ ليَ أينَ نُنْهي فراقَنا ، لأنْتَظِرَكَ هناك ؟!!!

وأنا أنزفُ وجَعاً ، تَمْتَمَتْ روحيَ قبلَ شفتايَ . 

وبعد ساعاتٍ كُنا هناك ، فالتقينا. 

وما أنْ سكَنَت أنفاسُنا واستكانت قلوبُنا ، قالت بِشغفٍ مُتعجِّلٍ كعادتِها : لِمَ هُنا، وفي كلِّ مساماتِ هذه الأرضِ ، لنا ذكرىً مُتمرّدة  تُهامسنا ؟! 

وهي تُحيط بظهري وتحتضن كتفي ، أجيتها بمذاقِ العِتاب: تبقى لبعض الأماكن نكهةً مُشاغبةً ومذاقا يلسعُ بهدوء. هُنا قبلَ ثلاثين عاما  إلتقينا أوّل مرّة . تعاهدنا ونقشنا أسماءنا وظلالنا ، على شجرة البلوط هذه . 

قالت بدلالٍ مُطْمَئنٍّ ولكنه مستَفِزٌّ : أمَا أضناكَ الحنينُ أيُّها الجبّار الظالم ؟!  

قلتُ مُكابِرا : منذُ أنْ راقصتُكِ قبلَ عامٍ، في حفل زفاف وحيدتنا لابن عمها ، قرب سور عكا ، معَ كلِّ صمتٍ يذهبُ وآخرٍ يأتي، كانت وحِدَتي  تزدادُ سوءً. تَشابهتِ المَواسم ، جَفَّ لِساني وتَصحَّرَتْ شفتاي. 

كلَّما استدرجَني وجعٌ ، أو احتلَّني شوقٌ أو استبدَّ بيَ حنينٌ ، كنتُ أُحْسِنُ الظنَّ بما تبقى بيننا ، فأشمّ عطرَكِ رغمَ استبدادِ الجُغرافيا. ورغمَ خوفِ الذاكرة ترمِشُ عينايَ بسرعةٍ ويَزدَادُ نبضُ قلبي . وبِلا تفكيرٍ أشتري أقربَ المسافاتِ ، وأتسرَّب إلى ما نَقَشنا أوغَرَفنا مِنْ تَفاصيلٍ.

فَنَظرَتْ إليَّ ولَمْ تَقُلْ كثيرا . 

مددْتُ يَدَيَّ، أمسكتُ أصابعها النحيلة ، وأنا بشغفٍ أهمسُ : وإن ابتعَدَتْ تضاريسُنا ونأتِ الدّيارُ بِنا ، فنحنُ حُلُمٌ يَخصُّنا وحدَنا، لا نحتاجُ معه وقتما نشاءُ لاستئذانِ أحدٍ ، وأينما نشاء وبالكيفية التي بها نشاء. 

إقتربي ، فالمساحة بينَ ذِراعيَّ ما تزالُ لكِ وحدَكِ . إقتربي قبلَ أنْ يَمْتَصُّنا صمتٌ مُتَصحّرٌ لا يقوى على قولٍ ، أو صمتٌ كهلٌ لا يقوى على فِعلٍ ، أو صمتٌ مجنونٌ يقولُ غيرَ ما نُريد ، لا حَكاويَ فيهِ ولا ثَرْثرةً ولا وَميض. إقتَرِبي فربَّما لا تَتَّسِعُ أجراسُ العمرِ لابتعادٍ آخر. 

 

 

 

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سمير ايوب
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/10/12



كتابة تعليق لموضوع : لا أتْقِنُ النِّسيانَ ولا أريد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net