الإسلام والحضارة الغربية بين التقاطع والتواصل!
موفق هاشم عبيد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
موفق هاشم عبيد

عندما وطئت إفرازات الحضارة الغربية أرضنا العربية والإسلامية بدا بعض الناس آنذاك منقسمين بين متفاعل منبهر فاتحا الباب على مصراعيه لكل شيء نبع من الغرب, وآخر رافض لها جملة وتفصيلا! أو فلنقل بين قبول مطلق ورفض مطلق, بيد أن هنالك طائفة من الناس كانت أمة وسطا, وهذه الطائفة هي الأخرى تتكون من فئتين: واحدة لم يكن لها رأي أو أدنى اهتمام في تلك الجدلية, وهؤلاء يمثلون غالبية العوام والبسطاء, والفئة الأخرى كانت على مستوى من التفاعل البناّء الحذر مع المنجزات الغربية, وعدم استلهام أي فكرة أو نظرية غربية إلا بعد تمحيصها, وأخذ ما يمكن أن يفيد منها, ويساهم في تقدم الأمة على الأصعدة كافة, وهؤلاء هم المتنورون من علماء الأمة والمجتهدون, السائرون على منهج العقل والشريعة الحقة, ذلك المنهج الذي اتسم بمرونته التفاعلية, وأساساته العلمية المتينة التي لا تخشى الجديد وترتعب منه, بل تستوعبه وتحتفي به بكل هدوء ورويّة, هذا إن كان ذلك الجديد صالحا يخدم المجتمع, ويتلاءم مع تطلعات الحياة العصرية الجديدة, وإلا فإنها تركنه جانبا بدون أي جعجعة أو ضجيج ربما يُستَغل من الذين في قلوبهم مرض.
ويعود سبب الانجذاب المطلق من البعض إلى عامل الإعجاب بتلك الحضارة المادية والانبهار بما آلت إليه من نتاجات صناعية واقتصادية وسياسية واجتماعية, جعلت المجتمع الغربي ـ وفق نظرة هؤلاء ـ يتمتع في بحبوحة من العيش والرفاهية, مرتبين على ذلك حكما بصحة جميع ما لدى الغرب من نتاج فكري وثقافي وفني, حتى وصل الحال ببعضٍ من عشاق الغرب أن يدعوا الى خلع التراث والتبرؤ منه, هذا إن لم يكن قد شمّر عن سواعده معلنا حربه على هذا التراث والقيم التي سادت لأكثر من ألف عام! رافعين شعار التغريب في وجه الماضي بكل حيثياته وأثقاله!
أما الجامدون على التراث والرافضون للجديد والتجديد, فإنهم قد نادوا بالثبات على الماضي الذي يُعد بالنسبة إليهم رمزا للعز والسمو والإباء! معتمدين على الكتابات التاريخية التي لم تكن بحال من الأحوال تحتكم الى الواقعية, بقدر ما كانت تحتكم الى الأهواء والمجاملات والقراءات المغلوطة, علاوة على الدنانير التي كانت تُبذخ على بعض المؤرخين والكتاب من قبل ذوي الشأن والسلطان؛ لغاية في نفس يعقوب لا محل لنا في أن نخوض فيها. وهنالك بعض من المتعلقين بالماضي والرافضين للحداثة والتجديد كانوا ينظرون الى هذا الماضي بأنه مصطبغ بالقداسة التي ارتُشفت من قداسة الدين, وبالتالي فالمساس به مساس بالدين نفسه! الذي لا ينفك اندكاكه وتشابكه مع الماضي في مخيال هؤلاء وأضرابهم!
وكلاً من هؤلاء وهؤلاء كانوا على خطأ, فهم بين إفراط وتفريط, بين ثقة عمياء بكل ما هو آت من الغرب, وتشاؤم يصل حد الانسياق وراء نظرية المؤامرة, حتى وجدنا كيف صار المثقفون والمتنورون ـ متدينين أو ليبراليين ـ مرمىً لسهام المتغربين من جهة والمحافظين من جهة أخرى! والموقف العقلاني يفترض التأني في اطلاق الأحكام التي لا تستند الى القواعد الصحيحة, فبداية لابد من النظر الى الفكرة الغربية الوافدة, والتمعن في نشأتها ومبادئها وعوامل بروزها, وكيف أنها أثّرت في بيئتها ومدى نجاحها هناك, ومن ثم دراسة مدى ملاءمتها بيئتنا وطبيعتنا الاجتماعية, وما تؤديه من نتائج على مستوى الفكر والقيم والمبادئ التي تتبناها مجتمعاتنا الإسلامية وتدين بها. فهنالك مثلا منجزات لبعض النظريات الغربية على أرض الواقع, تحولت تلك النظريات الى تجارب أثبتت نجاحها في موارد ومجالات ليس لها علاقة بالمبادئ والقيم التي تدخل ضمن دائرة المقدس الديني, فهذه وأمثالها لابد من الاستفادة منها بعد أن أصبحت مجربة تؤتي أكلها كل حين, وأوصلت الى نتائج تخدم الشعوب والدول, كما لو استلهمنا مثلا طرقا غربية في الإدارة الحكومية الإلكترونية, أو استثمرنا نظريات لها نتائجها في التعليم والتعلم وزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني وما الى ذلك, وهو من التفاعل الإيجابي مع الوافد الغربي, وهذا يختلف عن التفاعل السلبي مع المنجزات التي تفضي الى نتائج غير محمودة, فالمعجبون بهذه الثقافة والحضارة أرادوا استلهام كافة التجارب الغربية وتطبيقها على أرض الإسلام, مروجين أن لا خلاص من التخلف والانحطاط إلا بعد عزل الدين عن الحياة والدولة والسياسة! فكان ذلك ـ بحسب ما يروج هؤلاء ـ سببا لتطور الغرب وازدهاره!! ونسي هؤلاء ماهية الظروف التي كان يعانيها الغرب من الكنيسة والإقطاع, كما نسوا مطبّات محاكم التفتيش أمام المبدعين والعلماء والمكتشفين, فدينهم يختلف عن توجهات ديننا, وظروفهم بالتأكيد ليست كظروفنا, فتبنينا للمنجز الغربي الذي يعطي نتائج لا تلائم سياقاتنا الثقافية وأطرنا الفكرية, بالتأكيد سيودي بنا ذلك الى الانفصام وفقدان الهوية! وسينتج وليدا مشوها غير شرعي, يعيش معتلا حتى يموت ذليلا مدحورا!
كما أن وجود بعض المؤسسات أو الهيئات الدينية الجامدة أو المتخلفة التي تحكم في دولنا باسم الإسلام ـ كحركة طالبان في أفغانستان وحركة الشباب في الصومال والقاعدة وداعش ومن لف لفهم في بقية الأقاليم والمناطق الإسلامية ـ لا يعني بحال من الأحوال ضرورة استنساخ التجربة الغربية في عزل الدين عن الحياة, فالإسلام ـ بحثّه على التعليم والتعلم والأخلاق وخدمة الناس ودعوته الى العمل والتطور وما الى ذلك ـ يمثل البيئة الأسمى للرقي والازدهار, ولنا في تجارب الدولة الإسلامية أيام زهو بغداد والأندلس والقاهرة عبرة لا تُحجب! بالرغم مما كان يشوب تلك الحقب من تهميش وإبعاد لمنهج الإسلام الأصيل, المتمثل بمذهب أهل البيت عليهم السلام, الذي يمثل حركة الإسلام المحمدي الحقيقي, الذي ارتضاه الله ورسوله كضمان للسعادة في الدنيا والآخرة! ولو كانت الدول الإسلامية أو الإمارات تقاد وفق منهج أهل البيت لكان الازدهار العلمي والفكري والحضاري أضعافا مضاعفة عما كان عليه! فهذا تراثهم يشهد بإرشاداتهم وحثهم على العلم والتعلم والاجتهاد يفوق ما موجود عند الآخرين مرات عديدة, مدللا على مدى اهتمام الإسلام بالعلم والعمل والجد والابتكار, في وقت كان الغرب يرزخ تحت التخلف والظلام!
إن الجدال حول قبول استلهام الحضارة الغربية من عدمه قديم, يعود الى أيام الدولة العثمانية التي كانت قريبة جغرافيا مع تلك الحضارة, إذ حرّم شيخ الإسلام العثماني طباعة القرآن الكريم بالمطابع الأوربية؛ لأنها أداة من صنع الكفار! ونسي الشيخ المعظم أن كثير من الورق والحبر الذي يدوّن به القرآن الكريم مستورد من بلدان ربما غالبيتها من الذين لا يدينون بدين الإسلام! وهكذا حصل مع التلغراف والمذياع عندما دخلت الى البدان الإسلامية, حرمها بعض مشايخ السلفية بدعوى أنها من السحر والشعوذة وأعمال الشيطان!
ويحدثنا المثقف المصري حافظ وهبة في مذكراته ـ وهو المستشار المقرب من الملك عبد العزيز آل سعود ـ كيف واجهت المؤسسة الدينية توجهات الملك التحديثية في إدخال المدارس الحديثة والمناهج الجديدة في النصف الأول من القرن العشرين, وكيف أنهم ارتابوا من إدخال مواد في الجغرافية والفلك واللغات الأجنبية ولاسيما الغربية؛ لأنها تتعارض ـ بحسب دعواهم ـ مع التنشئة الدينية الإسلامية, بل تتعارض مع مفاهيم دينية راسخة في عقولهم الجامدة مثل سطحية الأرض ودوران الشمس حولها وما الى ذلك تفسيرات لأحداث كونية, التي اكتشف العلم الحديث حقيقتها المغايرة لما كان معهودا عند هؤلاء المنغلقين, الذين تصوّروا تلك المفاهيم بما يتلاءم وايديولوجياتهم الفكرية المتوارثة عن السلف, الذي استوعب مفاهيم الدين من خلال منظاره البيئي والقبلي البدائي, ولم يكن للدين الحقيقي دخلا في تشكيل تلك التصورات المغلوطة.
إذن من خلال ما سبق يتضح لنا أن الدين الإسلامي الأصيل متفاعل مع منجزات الحضارة الغربية التي تفيد البلاد والعباد, ويرفض كل ما له دخالة في الإفساد والتحريف وإشاعة الباطل بين الناس, ولا يوجد دين على الأرض يتفاعل مع التطور ويواكب تغيرات الواقع مثل هذا الدين وفق أصول وقواعد معروفة لدى المختصين والباحثين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat