أرسطو عظيم الفلاسفة الذي طرق معظم أبواب المعارف والعلوم!
موفق هاشم عبيد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
موفق هاشم عبيد

عالم حكيم وموسوعي عظيم, ألمّ بعلوم عصره وزاد عليها, وأفرد أبحاثا في علوم جديدة يُحسب له السبق فيها والإبداع, استوعب فكر من كان قبله, وفنّد ما رآه باطلا من الآراء والطروح, حتى غدا أسطورة طغت على جميع السابقين واللاحقين من مفكري اليونان, بل الى يومنا هذا نجد أن ذكره ممدوح وتراثه محمود, على الرغم من بعض النقود التي واجهته, والنقوض التي كشفت أخطاء بعض من نتاجاته, ذلك هو أرسطو مقعّد الفكر البشري الأبرز, ومؤسس منهج التفكير الإنساني الأشهر, الحكيم الذي طغى اسمه على سقراط وأفلاطون! وصار بحق يحمل لقب (المعلم الأول), واستأثر به الى يومنا هذا بعدما تمتّع به سقراط قبله.
وُلد أرسطو في المستعمرة اليونانية ستاجيرا الواقعة على ساحل تراقيا, وكان ذلك في عام 384 ق.م, فتح حكيمنا عينيه في وقت أشرقت على بلاد اليونان شمس جديدة من جهة الشمال, إنه عصر مقدونيا التي سادت على كل المناطق اليونانية, ففي عصر الملك فيليب والد الاسكندر الكبير دانت له اليونان بالسمع والطاعة, بعد أن كانت تلك المدن في حالة من الصراع والتشرذم والتناحر. كان والده طبيبا في البلاط المقدوني عند الملك أمينتاس جد الاسكندر الأكبر, وهو ما أثر في ارتباط أرسطو بالبلاد المقدونية إلى حد كبير, وقد مات أبوه وهو ما زال صبيا, وفيما بعد شدّ رحاله إلى أثينا المركز الثقافي للعالم آنذاك, وكان عمره سبعة عشر عام, ملتحقا بأكاديمية أفلاطون الذي أطراه وأعجب به, وأطلق عليه لقب (عقل المدرسة), وقد حاول المغرضون التقليل من شأنه من خلال اتهامه بالجحود تجاه استاذه أفلاطون[1].
ويقال أن أرسطو درس في الأكاديمية الأفلاطونية بما يقرب من العشرين عاما, وبعد وفاة رئيسها هجرها ولاسيما بعد أن أوصى برئاستها إلى ابن أخته (سوبيسوبوس) عام 348ق.م. واتجه أرسطو إثر ذلك إلى آسيا الصغرى (تركيا حاليا), حتى التقى بفيليب ملك مقدونيا, الذي كلفه بتربية ابنه (الاسكندر) ذي الثلاثة عشر عاما, استمر يعلمه خمس سنوات تقريبا حتى استلم الحكم, بعدها عاد أرسطو إلى أثينا ليجد المدرسة الأكاديمية قد وصلت إلى مستوى عال من الازدهار, فأسس مدرسة خاصة به هناك في لوقيون, وسميت لاحقا بالمدرسة المشائية لأنه كان يدرّس تلامذته وهو يمشي, فصارت عادة فيما بعد, بقي فيها ثلاث عشر سنة يدرّس ويدير فيها ويكتب[2].
ويذهب بعض من مؤرخي الفلسفة إلى أن العلاقة الفكرية بين التلميذ اللامع أرسطو وأستاذه العملاق أفلاطون لم تكن على ما يرام, وربما كان فارق السن هو السبب في ذلك, إذ يكبر الأستاذ تلميذه خمسين عاما! وهذا فرق كبير, ويعلل أحدهم هذا التضاد بأن التفاهم بين العباقرة صعب كتفاهم النار والديناميت! لكن رغم ذلك فقد أدرك كل منهما أهمية الآخر وعظمته, على الرغم من قدوم أرسطو من بلاد الشمال مقدونيا, التي كان ينظر إليها الأثينيون على أنها همجية متخلفة! بل فضّله علميا على غيره من التلاميذ والطلاب, واصفا إياه مرة من المرات بأنه الذكاء المجسم للأكاديمية! ووصف بيته أيضا ببيت القارئ, بعد أن جمع من الكتب ما جعل البعض ينعته بالإسراف! كل تلك الإشادات من قبل أفلاطون تجاه تلميذه أرسطو لم تشفع لذلك الخلاف الذي نشب أكثر في أواخر أيام الأستاذ! وكأن ذلك الشاب الطموح ـ كما ذهب ديورانت ـ كان يعاني من عقدة ضد والده الروحي في حب الفلسفة والحظوة بها, مشيرا إلى أن الفلسفة لن تموت بموت أفلاطون, أما الأستاذ فقد شبه جفاء التلميذ بمهر رفس أمه بعد أن استنزفها وجففها! كل هذا يدل على نشوب الخلاف بينهما[3]. ولعل ذلك كان من باب طموح التلميذ لإثبات ذاته وإثبات هويته التي طالما كان ينظر إليها الأثينيون بازدراء وفوقية!
وبعد موت الاسكندر المقدوني في بابل العراقية وبالتحديد في منطقة (الاسكندرية حاليا) عام 323 ق.م وقعت حكومة أثينا في يد المعارضين للحزب المقدوني, وهو الحزب الذي يُعتبر أرسطو من ضمن رعاياه, فخاف على نفسه الاضطهاد والمحاكمة والقتل كسقراط من قبل, ففر إلى مدينة خلسيس, وبعد سنة واحدة أصيب بمرض مات بسببه وهو لم يتجاوز (63) سنة من عمره, وكان ذلك في العام 322 ق.م[4].
أما مؤلفاته فيمكن تصنيفها الى ثلاث مجاميع, وهي على النحو الآتي[5]:
1ـ مؤلفات الشباب: وهي التي كُتبت على شكل حوارات, وقد نُشرت لكي يطلع عليها الجمهور الواسع من غير المتخصصين.
2ـ مذكرات خاصة بأرسطو نفسه, متعلقة بمعلومات وأبحاث خاصة به.
3ـ مؤلفات تعليمية درّسها لطلابه. وهي المتوافرة حاليا, ومن خلالها عُرفت فلسفة أرسطو.
ويقال أن عدد مؤلفات أرسطو وصلت إلى ما يقرب من أربعمائة كتاب, فقد ثلاثة أرباعها, وبقي منها كما يذهب ولتر ستيس الجزء الأهم, الذي وفّر لنا القدر الكامل في تصور فكر الرجل, وإن كان كل كتاب وصل إلينا مبتورا, ولا سيما كتابه الأخير والأهم (الميتافيزيقيا)[6].
ومسائل الميتافيزيقيا لم يكتشف بعضها قبل أرسطو أحد غيره, فقد ((يكون أول من طرح نظرية أنها تتمحور حول مفهوم "الموجود بما هو موجود" في جميع أعراضها وحالاتها, ولعله أول عالم توصل إلى أن "موضوع العلم" هو العامل الرابط بين مسائل كل علم وأنه المعيار الأساسي في تمييزها عن مسائل العلوم الأخرى؛ لذا يمكن عدة الرائد في وضع أسس علم ما بعد الطبيعة بصفته علما مستقلا عن سائر العلوم))[7], وكان في كتبه على خلاف أستاذه أفلاطون, إذ لم يلحظ عليها التدرج في الرقي واختلاف الآراء, بل كان فكره ناضجا ونظرياته تامة, وهذا ما دفع البعض إلى القول بأن أرسطو ألف كتبه في السنين العشرة الأخيرة من حياته, بادئا بالمنطق ثم العلوم الطبيعية, ثم الأخلاق والسياسة, منهيا إياها بما بعد الطبيعة[8]. صنف أرسطو العلوم إلى نظرية غايتها المعرفة لذاتها كالفيزياء والرياضيات والفلسفة الأولى وعملية غايتها السلوك كعلم الأخلاق والسياسة.
وقد عُرفت الكتابات المنطقية التي جاء بها أرسطو بالأورغانون, وهي تعنى بآلة الفكر الذي يدور حول البرهنة, بدأها حكيمنا بدراسة الحدود في المقولات التي ترجمها العرب عن اليونان وأسماها بالمقولات العشرة, ثم تناول تركيب الحدود ثم الاستدلال والقياس وأنواعه, أما الطبيعيات فقد عنت فيها الفيزيقيا بالعلل الأربعة للوجود؛ لأن أفلاطون والمثاليين اعتنوا بالعلة الصورية, والفلاسفة الطبيعيون اهتموا بالعلة المادية, في حين أن أرسطو اهتم بالتفسير الصحيح للطبيعة مضيفا إلى تلك العلتين (الصورية والمادية) العلة الفاعلة والغائية[9].
وكانت نظرية المُثُل لأفلاطون من أبرز ما عارض أرسطو, وهذه النظرية الأفلاطونية ذهب فيها صاحبها إلى وجود عالمين هما العالم المحسوس الذي نشهده والعالم المعقول وهو المعني بعالم المثل, والعالم الأول المعرفة فيه ظنية أما العالم الثاني فمعرفته يقينية, ورأى أن الفيلسوف الحقيقي هو من يستطيع أن يميز بين هذين العالمين, أي يميز بين الأشياء ومُثُلها, ويقدر على تجاوز المحسوس المتغير إلى النموذج الدائم (المثل).
ونظرية المثل وصل إليها أفلاطون نتيجة للتفكير في المذاهب السابقة, فربما هو أخذ عن بعض السابقين كهرقليدس مثلا من أن المحسوسات بسبب تغيرها المتصل والمستمر لا تصلح لأن تكون موضوعا للعلم, ويقينا هو تأثر بأستاذه سقراط في مسألة الكلي في الخلقيات, فاعتقد أفلاطون أن هذه الكليات لمغايرتها المحسوسات يجب أن يكون تكون متحققة في موجودات مغايرة للمحسوسات, فأطلق على تلك الموجودات (مُثُلا), وعلى الأكثر استلهم أفلاطون من الفيثاغوريين الفكرة التي مضمونها أن الأشياء تحاكي الأعداد, غير أن الفيثاغوريين لم يجعلوا الأعداد مفارقة للأشياء, بل قالوا أن الأشياء أعداد. وأخذ أفلاطون ((عن الفيثاغوريين فكرة حياة سابقة وأحال التوليد السقراطي تذكرا ومن ثم يتضح كيف تلاقت كل هذه المذاهب في مذهب أفلاطون, وتلاءمت فوفقت بين المحسوس والمعقول, والتغير والثبات))[10].
وأبرز ردود أرسطو على أستاذه أفلاطون في نظرية المُثُل هي[11]:
1ـ أن نظرية المثل لأفلاطون لا توضح لنا مشكلة كيف نشأ هذا العالم مع أن هذه أهم مسألة في نظر الفلسفة, فإذا ما سلمنا بأن هناك مثالا للبياض مثلا, فكيف نشأت عنه الأشياء البيضاء؟ لا يمكننا أن نفهم هذا من كلام أفلاطون, ولا يمكننا أن نفهم العلاقة بين المثال وأشيائه, يقول إن هذه الأشياء صورة للمثال, وإن المثال "يشاركها في الوجود" ولكن هذه العبارة ـ كما يقول أرسطو ـ عبارة شعرية: لا توضح العلاقة ولا تبين أساس الوجود.
2ـ هب أن هذه الأشياء وضحت بنظرية المثال, فأفلاطون يرى أن المثل ثابتة على حال لا يتغير, وأنها ساكنة غير متحركة, وإذا كان كذلك فيجب أن تكون صورها ـ وهي الأشياء ـ كمثالها ثابتة ساكنة, ولكننا نرى العالم متغيرا متحركا, فالأشياء ترتقي وتنحط ولا تستقر على حال, فلم تتغير هذه الصورة مع أن أصلها ـ وهو المُثل ـ ليست متغيرة؟
3ـ أن هذا الوجود مملوء بأشياء كثيرة, ومهمة الفلسفة أن تبين لنا كيف وجدت هذه الأشياء, ونظرية أفلاطون لا تبين لنا إلا أن وراء هذه الأشياء عالما آخر هو عالم المُثل, وهذا الذي فعله أفلاطون ضاعف الموجودات ولم يُعِن على حلها بل زاد الارتباك في منشئها, فقال أرسطو: إن مُثل أفلاطون في هذا كمثل شخص صعب عليه أن يعد كمية الأشياء فضاعف عددها ليسهل عليه حلها.
4ـ يرى أفلاطون أن المثل لا تدرك بالحس, والحق أنها تدرك بالحس, فهو في الحقيقة يأخذ الأشياء التي تدرك بالحس ويعممها ويسميها ثانية لا تحس, فلا فرق في الحقيقة بين الحصان ومثال الحصان والانسان ومثال الانسان إلا التخصيص والتعميم, وليست المُثل إلا الأشياء المحسوسة مجردة..
5ـ المُثل على رأى أفلاطون ماهية الأشياء, وماهية الأشياء يجب أن تكون فيها لا خارجا عنها, ولكن أفلاطون فصل المُثل عن الأشياء وجعلها عالما مستقلا, وجعل لكل مثال وجودا مستقلا..
وأرسطو بالمعنى الحديث لم يكن فيلسوفا فحسب, بل هو انسان صاحب تعاليم شاملة, ولم يكن هنالك فرع من فروع المعرفة إلا وجذبه ليكتب فيه ويؤلف, حتى احتل في وقته الصدارة في كل العلوم عدا الرياضيات, فميوله إلى الطبيعيات بيّن في كثير من أعماله, ويُحسب له تأسيس بعض العلوم التي لم يكن لها وجود قبله, كعلمي المنطق والحيوان, كما كان فذا في علم الفلك, الذي أضاف إليه وطوره, وظهر ذلك في كتابه الذي يحمل عنوان "في السماء", وله كتاب في علم الأرصاد, لكن من أهم ما أبدع فيه هو ما كان في علم البيولوجي عن الحيوان وحياته, إذ شغف به كثيرا حتى ألف في ذلك أكثر من كتاب, وهي: "حول أعضاء الحيوانات" و"حول حركات الحيوانات" و"حول أصل الحيوانات" و"أبحاث حول الحيوانات", والكتاب الأخير يتضمن قدر كبير من المعلومات التي جمعها أرسطو من مصادر عديدة, وعلى الرغم من أن كثير من معلوماته في الحيوان صارت بعد الثورة العلمية الحديثة ضمن خانة الأسطورة والخيال إلا أنها تعبّر في حينها عن واقع علمي فاقد لوسائل الكشف العلمي وأدواته التي هي كفيلة بمقاربة الحقيقة, وأرسطو بهذه الكتب والأبحاث يُعد بحق مؤسس علم الحيوان, فلم يتطرق أحد قبله بدراسة خاصة في هذا الموضوع.
وكان من أهم ما يميز الفكر الأرسطي عن الفكر الأفلاطوني هو احتقار الأخير لعالم الحس, فأرسطو كان شغفا بالواقع وملاحظاته, وكانت ملاحظاته عن الحيوانات من أبرز مظاهر اهتمامه بالواقع والحس, وهذا الشيء يقدم دفاعا جليا عن أرسطو الذي انتُقد انتقادا لاذعا من قبل مؤسس المنهج التجريبي الحديث الانكليزي فرانسس بيكون (ت 1626م), إذ احتقره في كتابه (الآلة الجديدة) لأنه ـ أي أرسطو ـ لم يعبأ بحقائق الطبيعة, وإنما كان ينظر للأمور ويقيمها معتمدا على قبلياته بدل الفحص المتأني لحقائق الطبيعة.
وعلى ما يبدو فإن التطرف البيكوني تجاه أرسطو لم يكن له أي مسوّغ ومبرر, وهو إنما كان ظالما له بسبب المعركة الشرسة التي كانت مستعرة بين أنصار الفلسفة المدرسية من جهة ومفكري الاصلاح وعلى رأسهم بيكون من جهة أخرى, والفلسفة المدرسية معروف عنها والى اليوم تزعم أنها ممثلة للفكر الأرسطي وتنقاد لتعاليمه, وفات بيكون وأضرابه أن من يدعي السير على خطى أرسطو من الفلاسفة المدرسيين لم يمتثلوا لأرسطو في احتفائه بالواقع والطبيعة, وأن مجانبتهم للحس والواقع لم تكن من تعاليم أرسطو بتاتا, فما ذُكر من دراساته للحيوانات وصبره وتأنيه في تسجيل ملاحظاته كفيل بهدم ما رُمي به الرجل[12].
لقد جاء بيكون منذ ما يقرب من أربعة قرون بالمنطق التجريبي المقابل للمنطق العقلي القياسي لأرسطو, ومقتضى ذلك ((أن كل معرفة تقتضي وجود معيار معين بداعي عدم وجود شيء اسمه معرفة ذاتية المعايير. يوعز هؤلاء معيار بعض المعارف إلى المعرفة بذاتها, ولكن في نهاية المطاف يصبح المعيار فعلا وليس معرفة؛ وهذا بمعنى أن العمل هو المعيار النهائي للمعارف))[13], لكن تفسيرهم هذه يؤدي إلى محاذير وتناقضات فضحة؛ لأن المعيار الخارجي سيكون هو الآخر محتاج إلى معيار آخر يضفي عليه المشروعية المعرفية, وهذا أيضا يحتاج إلى معيار آخر وهكذا إلى ما لا نهاية, وبالتالي فلا تتحقق لدينا أي معرفة, وستكون الشكوكية هي السائدة في كل علم, بل لا يبقى شيئا اسمه علم[14].
وبهذا نعلم مدى الغبن الذي كان بحق أرسطو من قبل حاملي لواء التجريب, ومدى غفلتهم من أن أرسطو كان سبّاقا في اهتمامه بهذا المذهب, ولا سيما ما ذكرناه من خلال تأليفاته وكتبه في مجال الفيزياء والأحياء والفلك وما إلى ذلك, إضافة إلى أبحاثه في العلل والأغراض والحركة[15].
وكان من أهم ما أبدعته عقلية أرسطو هو ما يتعلق بأبحاثه التي أثبت بها وجود خالق للكون, معتمدا في ذلك على العقل, من خلال القواعد المنطقية والفلسفية, وتحديدا فقد اعتمد ارسطو على برهان (المحرك الأول), وهنا عملية استدلالية ذات صبغة طبيعية أكثر من كونها فلسفية, وكما يقول الشيخ مطهري وكأن أرسطو قام بعملية الاستدلال بصفته عالم طبيعيات أكثر من كونه فيلسوفا[16].
واتفق أرسطو مع أستاذه أفلاطون في أن الكون لم يكن صدفة, بل هو فعل من قوة مريدة قادرة حكيمة ومدبرة, وهذه القوة منزهة من النقص والعيوب ومتصفة بالكمال, غير أن اختلف معه في الوصول إلى هذه القوة, فأفلاطون ذهب إلى أن الوصول إليها إنما يتم عبر عالم الفكر, أي من خلال المفاهيم الذهنية ومن ثم المُثُل المجردة, في حين أن أرسطو ذهب إلى أن الوصول إلى معرفة القوة الخالقة لهذا الكون يتم من خلال الكون نفسه, فهذه الطبيعة التي نعيش فيها تتألف من سلم من العلل المؤثرة في معلولاتها انتهاء بالعلة الأولى, التي هي مبدأ كل العلل والموجودات, وهذه العلة هي إله هذا الكون, وكمال هذا الإله لا يتم إلا من خلال عدم اتصاله بهذا العالم لا من جهة العلم ولا من جهة الخلق, بل ولا التدبير المباشر[17].
وذهب أرسطو إلى سلسلة الحركات لابد أن تنتهي في الأخير إلى محركين أولين: الأول: متحرك وحركته لابد أن تكون دائرية متصلة المكان كي لا يكون لها بداية ولا نهاية, وهي حركة السماء الأولى, الثاني: لا يتحرك والمعني به هنا هو الله تعالى[18]. والدليل على كونه تعالى ليس بمتحرك هو أنه لو كان متحركا لا حتاج إلى محرك يحركه, وبالتالي ننتهي إلى الدور والتسلسل لا محال, وبهذا فلابد من الوقوف عند حد يكون هو مبدأ كل الحركات وجميعها, عند محرك غير متحرك يكون مبدأ للحركة[19]. هذا بالإضافة إلى الحركة نفسها تُعتبر نقص, إذ هي انتقال من حال إلى حال لحاجة يقصدها المتحرك وهذه الحركة إما أن تكون أسوأ من الأولى أو تماثلها بالتمام, أو تكون أحسن منها, فإن كانت أسوأ منها فقد اتصف الإله ههنا بالعجز والنقص, وهذا مناف للألوهية, وإن كانت مماثلة لها كانت الحركة عبثا ولم تقدم شيء, لأنها لم تنتج شيئا, وإن كانت أحسن منها فهنا يجوز على الإله الاستكمال, وهذا مناف أيضا للألوهية[20].
ومن صفات الإله التي توصّل إليها أرسطو بعقله الثاقب أنه تعالى أزلي, لأنه علة للحركة الأزلية, ومن المحال أن يكون علة الأزلي غير أزلي. وأنه تعالى بسيط لا أجزاء له, لأن التركيب يؤدي إلى الكثرة والإمكان والتناهي[21]. وذهب إلى أنه تعالى ليس جسما لا متناهيا, فلا يمكن أن يكون المحرك الأول جسما متناهيا؛ لأنه يمتنع أن تكون قوة متناهية تحرك حركة غير متناهية منذ الأزل والى الأبد[22].
ومن صفاته تعالى التي توصّل إليها أرسطو هي الحياة, إذ يقول: ((والحياة أيضا من صفات الله, فإن فعل العقل حياة والله هو ذلك العقل وفعله الصادر عن ذاته حياة فاضلة أزلية))[23]. وأنه تعالى خير محض, حيث يقول في ذلك: ((فالمحرك الأول إذن موجود بالضرورة, وحيث إنه موجود بالضرورة فوجوده خير))[24], ونختم المقال بأهم ما توصّل إليه فيلسوف التوحيد ـ إن صح التعبير ـ وهو أن الله جلّ ذكره وعزّ اسمه واحد؛ لأنه لو كان متعددا لأكثر من واحد لكان هنالك تغايرا بين أفراده بقدر عددها[25].
[1] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية, وولتر ستيس, ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد, دار الثقافة للنشر والتوزيع, القاهرة, 1984: 209.
[2] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية, د. زكي نجيب محمود وأحمد أمين, مؤسسة هنداوي سي آي سي, مصر, 2017: 152.
[3] ـ ينظر: قصة الفلسفة, وول ديورانت, مكتبة المعارف, بيروت, ط6, 1988: 68 ـ 69.
[4] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية: 152.
[5] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها, د. أميرة حلمي مطر, دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة, 1998: 225.
[6] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية لولتر ستيس: 211 ـ 212.
[7] ـ الفلسفة الغربية برؤية الشيخ مرتضى المطهري, إعداد: علي دجاكم, ترجمة: أسعد مندي الكعبي, المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية, العتبة العباسية المقدسة, ط1, 2016: 84.
[8] ـ قصة الفلسفة اليونانية: 135.
[9] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها: 226 ـ 227.
[10] ـ تاريخ الفلسفة اليونانية, يوسف كرم: 93.
[11] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية: 139ـ 140.
[12] ـ ينظر: تاريخ فلسفة اليونان لولتر ستيس: 212 ـ 215.
[13] ـ الفلسفة الغربية وفق رؤية الشيخ مطري: 86.
[14] ـ ينظر: المصدر نفسه: 86.
[15] ـ ينظر: نحو فلسفة العلوم الطبيعية, النظريات (الذرية والكوانتم والنسبية), د. عبد الفتاح مصطفى غنيمه, كلية الآداب, جامعة المنوفية, قسم الفلسفة وعلم النفس: 22 ـ 24.
[16] ـ الفلسفة الغربية وفق رؤية الشيخ مطهري: 91 ـ 92.
[17] ـ ينظر: مشكلة الألوهية, د. محمد غلاب, دار إحياء الكتب العربية, 1947م: 43 ـ 44.
[18] ـ ينظر: أرسطو طاليس, د. ماجد فخري, دار المشرق, بيروت, ط4, 1999م: 93.
[19] ـ ينظر: مشكلة الألوهية: 44.
[20] ـ ينظر: المصدر نفسه: 44 ـ 45.
[21] ـ ينظر: قضية الألوهية بين الدين والفلسفة, د. محمد السيد الجلينيد, دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع, 2001م: 54.
[22] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية, يوسف كرم: 212.
[23] ـ مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو, ترجمة: أبو العلاء عفيفي, مجلة كلية الآداب: 117.
[24] ـ المصدر نفسه: 6.
[25] ـ ينظر: قضية الألوهية: 54.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat