حينما يُستغل العلم عنصريا لقتل الآخرين (التطورية أنموذجا)!!
موفق هاشم عبيد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
موفق هاشم عبيد

من الأسس التي قامت عليها نظرية التطور الدارونية أن الحياة صراع من أجل البقاء, فتطور الكائنات يعتمد على النزاع فيما بينها, يفوز فيها القوي ويخسر الضعيف النزال ليتقهقر ومن ثم ينقرض! ووفقا لهذه النظرية فإن الحروب والنزاعات على الأرض كانت وما زالت وستبقى على أوجها بين الكائنات جميعا, وهي سنّة الطبيعة التي تجري على الجميع منذ أن وجدت الحياة, وهذا نزاع أبدي محكوم بالبقاء والثبات, وليس له أن يتطور يوما ما ويتحول الى تعاون وسلام!
وهذا الصراع الذي أتى به الدراونة الى ساحة الإنسان, من خلال تطبيقه على الأجناس البشرية المتنوعة, ما أتوا به إلا ليبرروا النزاع والصراع الوهمي العنصري الذي روّج له دعاة الجنس الأوربي الأبيض قبل أكثر من قرن, ذلك الجنس المتعالي على غيره من الأجناس البشرية, فهو العنصر الإنساني الموهوب, أما بقية الأجناس الأخرى كالأفريقية والآسيوية والأمريكية الأصلية وغيرها فهي قد تأخرت عن التطور لصالح الجنس الأبيض, حتى ألمح بعض من أنصار هذه النظرية العنصريين بإمكانية انقراض هذه الأجناس في المستقبل القريب! بعد أن يتطور النزاع معهم في البقاء للأصلح الأوربي! وهم يذهبون أن لابد من استئصال تلك الجماعات المتخلفة من البشر لصالح العنصر الراقي الذي يستحق الحياة والبقاء!
ويبدو أن نظرية دارون قد أضافت الشيء الكثير لما أتى به المفكر البريطاني الشهير روبرت مالثوس (المتوفى عام 1835) حول القسوة والسكان, إذ كتب مالثوس مقالا عن تزايد السكان والبشرية وما يمكن أن يحدث بعد أن تصل أعداد الناس الى نسب كبيرة جدا من نقص في الغذاء والماء والسكن وغير ذلك, حيث أكد مالثوس أن الناس إذا تركوا وشأنهم فإن الأرض ستزدحم بهم لا محال, لكن لحسن الحظ ـ كما يذهب ـ أن هنالك حروبا وصراعات وكوارث طبيعية وما شاكلها, كلها تساهم بشكل أو بآخر في تحديد أعداد البشر ضمن نطاق معين! وقد اجتمع كثير من الشخصيات التي تنتمي الى الطبقات العليا في أوربا, وناقشوا مشكلة السكان المتزايد التي اكتشفت مؤخرا, وقد خرج المجتمعون بتوصيات عديدة, منها يجب العمل على إشاعة العوامل التي من شأنها أن تساهم في كثرة الوفيات بين الناس لا سيما الضعفاء منهم, فيجب افشاء النصائح المغلوطة ليتفشى المرض بينهم ومن ثم يموت عدد كبير منهم بالطاعون وغيره من الأمراض! فهل يا ترى كان دارون ملهَما بمالثوس ونظريته المرعبة؟!
واستُثمرت الدارونية من قبل كل من ماركس وأنجلز داعيتي الشيوعية ومنظرَيها! فكلاهما على ما يبدو قد قرأ كتاب دارون "أصل الأنواع" وانبهر بأسلوبه الذي انتهج فيه المنهج المادي الجدلي, وقد بينت المراسلات التي كانت بين ماركس وأنجلز الى اتفاقهما على اعتماد نظرية التطور الدارونية كأساس للشيوعية في التاريخ الطبيعي! وقد امتدح أنجلز في كتابه (المنطق الجدلي للطبيعة) دارون كثيرا, وقد يتوهم البعض أنه ربما كان ثملا عندما عنون فصلا فيه بعنوان (الدور الذي لعبه العمال في التحول من القرد الى الانسان)! وكان بليخانوف مؤسس الشيوعية في روسيا يعتبر أن الماركسية تطبيقا للدارونية في العلوم الاجتماعية. وقال تروتسكي وهو من أقطاب الشيوعية في روسيا "يجسد اكتشاف دارون أعلى نصر للمنطق الجدلي في مجال المادة العضوية بأكمله". وقد لعب التعليم الداروني دورا رئيسا في تشكيل كوادر الشيوعية, فعلى سبيل المثال لاحظ المؤرخون حقيقة أن ستالين كان متدينا في شبابه, ولكنه أصبح ملحدا بسبب كتب دارون.
ومن أبشع من استثمر الدارونية وتأثر بها الحركة النازية, التي تُعد من أكثر الحركات والايديولوجيات تطرفا واستعمالا للقوة من أجل تحقيق أهدافها, حتى لو كان ذلك على حساب نصف سكان الأرض! والنازية حركة عنصرية نشأت في أوربا وبالتحديد في ألمانيا, وقد قامت بحروب عديدة سفكت فيها الدماء الكثيرة, متخذة من فكرة الصراع الدارونية والبقاء للأصلح مبررا لها في ذلك! فمن يقرأ في كتاب (كفاحي) للزعيم الألماني أدولف هتلر يجد أفكار الدارونية واضحة جلية! إذ راح هتلر يطبّق ما استلهمه من النظرية على الواقع! مفتتحا بيديه الحرب العالمية الثانية, التي راح ضحيتها (55) مليون قتيل!! عدا الجرحى والخسائر المادية, وأفواج اليتامى والأرامل والأمراض النفسية وما الى ذلك من دمار لا زالت البشرية تعاني من تبعاته الى اليوم. فمن المصطلحات التي كان يحتويها كتاب هتلر (كفاحي) مصطلحا (الانتقاء الطبيعي) و(الصراع من أجل البقاء بين الأجناس), وهي مصطلحات وأفكار مستوحاة من النظرية الدارونية, وقد تكرر ذكرها كثيرا في هذا الكتاب الذي يعد الملهم الأول بالنسبة للنازيين وأمثالهم من العنصريين البيض! وقد وصف المؤرخ هيكمان في كتابه (الخلق الحيوي) الصفحة 51 ـ 52 تأثر هتلر بالدارونية بقوله: "كان هتلر مؤمنا راسخا بالتطور ومبشرا به, وأيا كانت عقده النفسية الأعمق والأعوص, فإن من المؤكد أن فكرة الصراع كانت مهمة بالنسبة له لأن كتابه كفاحي يبين بوضوح عددا من الأفكار التطورية, وخاصة تلك التي تؤكد على الصراع, والبقاء للأصلح, وإبادة الضعفاء لإنتاج مجتمع أفضل".
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat