قراءة في سورة يوسف (عليه السلام)(1)
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صراع الشرك والايمان
منذ دعوة النبي ابراهيم (عليه السلام) الى التوحيد والى يومنا هذا لم يخب نشاط الموحدين على الارض، وعلى وجه الكرة الارضية عاش مجتمع الموحدين ومجتمع المشركين جنبا الى جنب مع ادامة الصراع الفكري بل والعسكري بين الفريقين على مدى التاريخ.
وفي تلك الحقبة الزمنية كانت ذرية النبي ابراهيم (عليه السلام) الرمز الواضح في معادلة الصراع الفكري بين التوحيد والوثنية وكانوا اعلام الدعوة الى القيم الروحية والاخلاقية وبسط العدل ونبذ الظلم.
وقد امتد نشاط ذرية النبي ابراهيم (عليه السلام) في الفترة بين عهده (عليه السلام) وحتى عهد حفيده يعقوب، ففي جزيرة العرب انتشر بنو اسماعيل (عليه السلام)، وفي العراق وبلاد الشام انتشر بنو اسحق (عليه السلام).
اما مصر فان اثر دعوة النبي ابراهيم (عليه السلام) في فترة هجرته الى مصر ولدت مجتمعا موحدا محدودا ضعيفا عرفوا بعباد الاله اتون، قبال الوثنيين الذي كانوا يعبدون امون وكانت الوثنية هي الدين الرسمي للدولة المصرية.
في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ البشرية ولد للنبي يعقوب (عليه السلام) اثنا عشر ولدا، كان احبهم اليه واقربهم الى نفسه النبي يوسف (عليه السلام) واخوه بنيامين، اثار تقريب النبي يعقوب لولده يوسف (عليهما السلام) حفيظة اخوته العشرة، الذين دبت في قلوبهم مشاعر الحسد الشديد والذي اثاره شعورهم ان مستقبل زعامة العائلة سيكون ليوسف (عليه السلام) واخيه بنيامين، تحول الحسد في نفوسهم الى حقد دفين على يوسف (عليه السلام) نزع من قلوبهم قيم الانسانية فضلا عن قيم الدين التي نشأوا عليها في بيت النبي يعقوب (عليه السلام) وقيم الاخوة التي يهتم بها كثيرا الوسط الاجتماعي البدوي الذي نشأوا فيه.
في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ ال يعقوب (عليه السلام) من الضروري ان نستقرأ الحدث لنقف على حركة الابتلاء التي رسمت تاريخ المنطقة في تلك المرحلة الزمنية الحساسة، ولنقف عند الاعداد الالهي للظروف التي ترسم مستقبل الافراد والامم والمجتمع البشري برمته كما اشار الى ذلك قوله تعالى:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾
يوسف (عليه السلام) وابتلاء الذات
اذا القينا نظرة على مجتمع التوحيد نرى ان نشاط الموحدين في تلك الفترة كان منبثا في جزيرة العرب وارض بابل وكنعان، اما مصر فكانت تعيش ضعفا شديدا في الدعوة الى الله تعالى عند المقايسة مع القدرات المتوفر في ارض مصر اقتصاديا وعسكريا وثقافيا وبشريا، اذ الحضارة المصرية آنذاك في اوج مجدها وتعد الاولى على الصعيد الثقافي والعسكري والاداري ويمتد نفوذها الى مناطق واسعة في اسيا وافريقيا، وبلاد بهذا المستوى من التطور الحضاري من الضروري ان يتصف من يرسل اليها للدعوة الى الله ان تتحقق فيه صفات وخصائص تجعله مقبولاً عند الامة التي يراد ارساله اليها كي ينجح في مهمته التي تتعاطى مع روح الانسان وفكره وعقيدته وايمانه المتجذر عبر الاجيال.
فمثل هذا الرسول لابد ان يتمتع بسمعة طيبة وان تكون الفوارق الثقافية والبيئية والانتمائية متلاشية بينه وبين المجتمع الذي يراد له العمل فيه للدعوة الى الله.
فاختيار الله تعالى ليوسف (عليه السلام) للنهوض بهذه المهمة سببا في افاضة خصال جسدية فضلا عن الملكات الروحية التي يتحلى بها الانبياء (عليهم السلام)، فوهبه الله تعالى وسامة تجعل قلب الناظر اليه متيماً به، واما على صعيد المقتضى الاجتماعي وقبول المصريين بيوسف (عليه السلام) كمصلح ونبي وداع الى الله، فكان لابد ليوسف (عليه السلام) ان يترعرع بين ابناء ذلك المجتمع الذي كان يعتبر نفسه اسمى وارقى المجتمعات البشرية، ولكي يكون لشخصية يوسف (عليه السلام) اثرا مهما كان من المهم ان يعيش حياته بين علية القوم كي يكون اسمه وخصائصه وكمالاته وصفاته معروفة مشهورة ويكون له في قلوب ابناء المجتمع المصري مكانة سامية ومنزلة عظيمة لتتحقق الغاية من بعثه الى ذلك المجتمع، أي ان المنهج الالهي في الدعوة الى التوحيد قائمة على رعاية حال المجتمع المرسل اليها المبلغ عن الله والمخبر عنه.
كان من الضروري بعد ان يبلغ يوسف (عليه السلام) العمر الذي ارادته السماء ليغادر ارض الشام الى حيث تقتضي الارادة الالهية ان يصل يوسف (عليه السلام) بطريقة ما الى مصر والي قصر وزيرها الاول.
السؤال الذي يرد هنا هل ان وصول يوسف (عليه السلام) الى مصر متوقف على حسد اخوته له؟ ام ان هناك وسائل اخرى يمكن من خلالها ان يصل يوسف (عليه السلام) الى تلك البلاد؟
للجواب على هذا التساؤل نقول انه ليس هناك توقف في وصول يوسف (عليه السلام) الى مصر على حسد اخوته له وحقدهم عليه، فانه كان يمكن ان يضيع يوسف (عليه السلام) من بين اخوته باي طريقة عندما كان معهم في الصحراء، ولكنه ابتلاء ابتلى الله تعالى به ابناء يعقوب (عليه السلام) ليثبت لهم على الصعيد الشخصي انهم فشلوا في الابتلاء وان المستقبل بيد الله تعالى يصرفه كيف يشاء.
يوسف (عليه السلام) وابتلاء الامة
واما من جانب ابناء يعقوب فان الله تعالى اراد ان يجعل من بني اسرائيل امة موحدة تحمل راية التوحيد في ارض مصر، وبعبارة اخرى يمكن القول ان الارادة الالهية اقتضت ان يكون اسماعيل (عليه السلام) وذريته الفئة التي تنهض بأعباء الدعوة الى الله في جزيرة العرب وان يكون لبني اسرائيل دور اقامة مجتمع التوحيد في مصر، بعد ان نهض بنو اسحق بالدعوة الى الله في بلاد الشام، وليمهد الله تعالى بحضور بني اسرائيل في مصر تهيئة الاسباب لان ينضج تفكير بني اسرائيل ليكونوا مؤهلين لإقامة دولة وسلطان، بعد ان كانوا في عهد النبي ابراهيم (عليه السلام) واسحق ويعقوب (عليهما السلام) يسكنون البادية، ذلك لان ادارة البلاد نحتاج الى فن الادارة وتهيئة الجيوش وادارة الاقتصاد، وهو ماحصل بعد ان خرج بهم يوشع (عليه السلام) من التيه.
فهكذا نجد ان التقدير الالهي اقتضى ان يفارق يوسف (عليه السلام) اباه، ويترعرع في ارض مصر ليحبه اهلها بما وهبه الله من صفات وملكات تجعل محبته تسري في القلوب سريان الدم في العروق، ويمكن الله له في الارض فيصبح الوزير الاعظم لملك مصر والمتحكم بالاقتصاد المصري بل باقتصاديات العالم المحيط بمصر بسبب القحط الذي اصاب المجتمع البشري سبع سنين متواصلة، ومن ثم يمهد الله له نشر دعوة التوحيد في ربوع مصر بعد ان اسر حبه فؤاد ملك مصر الذي امن بدعوة التوحيد وكفر بعبادة الاوثان وامر بتدمير تماثيل امون واعتبر الوثنية جرما يحاسب عليه القانون ودعى الى عبادة الاله الواحد (اتون) وابدل اسمه من امنحوتب الرابع الى اخناتون اذ ان الاسم الاول فيه ذكر لامون اما الاسم الذي اختاره فيعني عبد الاله اتون، واتون هو الله بلغة المصريين القديمة. وهكذا ساد التوحيد في ارض مصر بعد ان كانت احدى امبراطوريات الشرك .
وهكذا مكن الله ليوسف (عليه السلام) بسط التوحيد في ارض مصر التي حل التوحيد في ارضها عند هجرة ابراهيم (عليه السلام) اليها، ثم ادامه بعد يوسف (عليه السلام) بنو اسرائيل الذين انتقلوا من بلاد الشام الى مصر عندما كان يوسف (عليه السلام) عزيزا لمصر.
لم تلبث همينة الموحدين في مصر طويلا فبعد وفاة الملك اخناتون، اعتلى العرش زوج ابنته توت عنخ امون الذي كان يعتقد بعبادة الاوثان فأعاد عبادة الاصنام ومعابد امون واعاد للكهنة سطوتهم وللمعابد مكاسبها والاراضي التي كانوا يملكونها قبل ان يصادرها منهم اخناتون، وشن المصريون حربا شعواء على التوحيد واضطهدوا الموحدين، ولكن مشعل التوحيد في ارض مصر بقي وهاجاً في ظل وجود بني اسرائيل الذين كانت لهم مكانة عظيمة في نفوس المصريين الذين عشقوا يوسف (عليه السلام).
والخلاصة التي لابد من التأكيد عليها ان رحلة يوسف (عليه السلام) لمصر لم تضف لكمالاته شيئا فهو الانسان الكامل الذي عبر الله تعالى عنه انه من العباد المخلصين وان الله تعالى اتاه العلم، فلم تضف مصر له شيئا، ولكن جملة المصائب والمصاعب التي تعرض لها (صلوات الله عليه) كانت لإعداد المصريين لقبول دعوة التوحيد، ولإعداد الارضية المناسبة لإنتقال بني اسرائيل الى مصر تمهيدا لنقل ثقافتهم من البداوة الى ثقافة الامم المتحضرة ليتعلموا فن ادارة الدولة وكيفية بنائها وادامة وجودها.
اما على الصعيد الشخصي فان بني اسرائيل اعادوا الى الاذهان قصة هابيل وقابيل، فعلى الرغم من ان العائلة كانت عائلة نبوية تعيش في كنف يعقوب (عليه السلام) الا ان الحسد عمل عمله في قلوب اخوة يوسف (عليه السلام) حتى دفعهم الى السعي لقتله لإبعاده عن طريقهم في خلافة ابيهم، وقد خططوا لذلك وراودوا عنه يعقوب (عليه السلام) واخذوا يوسف (عليه السلام) معهم الى الصحراء وباشروا القضاء عليه الا ان التقدير الالهي منعهم من ارتكاب تلك الجريمة فقرروا القاؤه في غيابة الجب، وبعد ذلك باعوه كعبد ابق، وعادوا الى ابيهم عشاء يبكون مدعين ان الذئب اكله.
وهنا نجد ان اخوة يوسف (عليه السلام) ارتكبوا العديد من الاخطاء المنافية للقيم السماوية والارضية على الرغم من كونهم ابناء ثلاثة من الانبياء في سلسلة واحد يعقوب واسحق وابراهيم (عليهم السلام)، فهم خططوا وباشروا في قتل نفس بريئة لم ترتكب جرما ولا جريرة، وما دعاهم الى ذلك الا الحسد فهم بهذا شابهوا قابيل في فعله، وقطعوا الرحم بإساءاتهم المتعددة الى اخيهم حيث ضربوه وارعبوه واذوه ثم القوه في غيابة الجب امعاناً في اظهار حقدهم عليه وبغضهم له وزادوا على ذلك ان باعوه مدعين انه عبد رق ابق وهو ابن الانبياء العظام، وبأفعالهم تلك ادخلوا الحزن الشديد على قلب ابيهم (عليه السلام) فكان ذلك من اعظم العقوق.
اما يوسف (عليه السلام) فبعد ان مكنه الله له في الارض سعى الى نشر عبادة التوحيد بعد ان اصبح المجتمع المصري مستعدا لقبول الدعوة لتأثره بشخصية يوسف (عليه السلام) من حيث كمالاته الذاتية ونجاحه في انقاذ المصريين من مخاطر المجاعة التي تسبب بها الجفاف، وبالإلغاء الرسمي لعبادة الاوثان واعتناق ملك مصر وشعبها التوحيد اصبحت مصر اول دولة تعلن التوحيد ديناً رسمياً فأصبحت بذلك اول دولة تجمع بين احكام السماء والتطور الفني والثقافي والمادي للمجتمع البشري.
واما مع ذويه فان يوسف (عليه السلام) عفا عن اخوته وآوى اليه ابويه، واسكن ذرية يعقوب (عليه السلام) ارض مصر، فكان يوسف (عليه السلام) مطيعا لربه وصولاً لرحمه باراً بأبويه.
الخلاصة
ومما تقدم من ابتلاءات يوسف (عليه السلام) يمكن ان نستفيد الامور الاتية:
1. ان المجتمع البشري كان مبتلى على الصعيدين الفكري والمادي، فكرياً كان مبتلى بالصراع بين التوحيد والشرك، ومادياً كان مبتلى بجور الحكام وظلم الرعية لبعضها ومختلف انواع المصاعب الحياتية.
2. ان مجتمع التوحيد منذ عصر ابراهيم (عليه السلام) والحقب الزمنية اللاحقة اصبحت له منعة وقوة عجزت معها معابد الاوثان وسلطات الجور من القضاء عليه واحد الاسباب يعود الى عمق الارتباط بين الشعوب وال ابراهيم (عليهم السلام).
3. ان ساحة التوحيد كانت منتشرة في البلاد ذات الطابع الحضاري آنذاك كبابل وكنعان، ولها حضور بسيط في بلاد الفراعنة. مضافا الى جزيرة العرب التي لم تكن قد بلغت مستوى حضارياً معتدا به في تلك الحقبة الزمنية.
4. ان الله تعالى شاء ان يمهد لنشر التوحيد في بلاد مصر، فارسل اليهم يوسف (عليه السلام) ليترعرع بينهم منذ نعومة اظفاره وبدلا من ان تتمكن ثقافة الشرك والثقافة المصرية من التأثير فيه اصبح هو الشخصية المؤثرة في المجتمع وبلاط عزيز مصر بما وهبه الله تعالى من العلوم، ثم ليكون عنوانا بارزا للمجتمع المصري على مختلف طبقاته الاجتماعية لما شاع عنه من العفة والاستقامة والعلم خاصة بعد ما رافق اسباب واحداث السجن، ومن ثم تفسير رؤيا ملك مصر، وتوجها بإدارة الاقتصاد المصري ايام السنوات العجاف، فاصبح رمزا كبيرا في عالم الادارة والاقتصاد وهكذا اصبح ينظر الى يوسف (عليه السلام) بانه الاول في القيم الاخلاقية السامية والاول في العلم والاول في الادارة فاصبح الوزير الاول لملك مصر، والراعي الاول لنشر ديانة التوحيد التي اصبحت الدين الرسمي للدولة وهذا يعني ان التشريعات والقوانين المصرية في عهد يوسف (عليه السلام) كانت قوانين الشريعة الابراهيمية.
5. ان حديث يوسف (عليه السلام) واخوته يكشف عن ان الانسان لن ينال الا ما كتبه الله تعالى له، وان السير في نهج طاعة الله هو الكفيل بتحقيق سعادة الفرد والمجتمع ووصول الفرد الى امانيه وطموحاته، فان اخوة يوسف (عليه السلام) سعوا للتقرب الى ابيهم بإبعاد يوسف (عليه السلام) عنه فنتج عن ذلك انهم اصبحوا عنه مبعدين وسعوا لإذلال يوسف (عليه السلام) ببيعه كعبد رقيق فمن الله تعالى عليه بأعظم مما كانوا يتصورون، اذ حسدوه على قربه من ابيه فازداد ابوه حبا به، وسعوا لإبعاده عن رئاسة عائلة يعقوب (عليه السلام) في المستقبل، العائلة التي لا يدور في خلد ابناءها شيء اوسع من واقعهم الاجتماعي، فوهبه الله ادارة ملك مصر فاصبح الحاكم المطلق فيها، وهي من اعظم امبراطوريات ذلك الزمان، واما يوسف العفيف العالم العبد المخلَص من الله فان الله تعالى اجتباه وجمع له الملك والنبوة وهنا يظهر دور النجاح في الاختبار في بعديه المادي والمعنوي، كما تظهر الاثار السلبية في الاخفاق في الاختبار على الفرد والامة والمجتمع البشري، فلو تمكن اخوة يوسف (عليه السلام) من قتله لما تحقق لبني اسرائيل بعد عقود من الزمن ان يتحولوا من مجتمع بدوي الى مجتمع متحضر، ولم يكتب لهم ان يحملوا رسالة التوحيد في قبال امم الشرك التي حكمت حواضر الدنيا انذاك، ولم يكتب للوثنية ان يهتز عرشها على ارض مصر في تلك الحقبة الزمنية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat