العزاء الحسيني في بدايات القرن العشرين
د . حميد مجيد هدّو
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . حميد مجيد هدّو

مراسيم عاشوراء في كربلاء المقدسة لها خصوصيتها التي تنفرد بها عن بقية محافظات العراق وبلدان العالم الإسلامي التي تقام فيها، فالناس تتهيأ قبل حلول محرم الحرام باسبوع او أكثر، بشراء الملابس السوداء، ورفع الأعلام السوداء على سطوح المنازل والمحلات والأماكن العامة، وهذه الظاهرة لم تكن مألوفة في بقية المدن العراقية سابقاً، فأكثر البيوت والمواكب في كربلاء تبدأ بتهيئة الطعام ومستلزماته من الوقود والأواني وغيرها لغاية اليوم الثالث عشر من الشهر، كما تنصب الخيام في العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية؛ ففي العتبة العباسية كانت تنصب ثلاث خيام تجتمع تحتها المواكب لحضور المجالس الحسينية، وباقي الطقوس من البكاء واللطم وغير ذلك، كما انها تحمي الزائرين من حر الصيف وبرد الشتاء.. فتجد العتبتين مجللتين بالسواد واللافتات التي تنعى الإمام الحسين(عليه السلام) وآل بيته وأصحابه، إضافة إلى (التكيات) التي تستبدل قناديلها وأنوارها في ليلة العاشر من المحرم باللون الأحمر.
أما المواكب كمواكب الأصناف؛ ومنها صنف القندرچية وصنف الخياطين وصنف العطارين وصنف البقالين فتبدأ عصر ذلك اليوم بالخروج لأداء طقوس العزاء، أما مواكب المحلات كمحلة باب بغداد ومحلة باب السلالمة وباب الخان.. فكان وقت خروجها بعد صلاة العشاءين، أما الزوار ومن مختلف البلدان الاسلامية فكانوا في بعض الاحيان ينزلون صباحاً، ولكن خروج المواكب الكبيرة والشهيرة كان في الليل حاملة (اللوكسات) التي تعمل على النفط الابيض للإنارة، وامام كل موكب مشعل، أو كما يسمى سابقا (هودج) وهو عبارة عن شكل يشبه السفينة يصل طوله الى ثلاثة امتار، توضع فيه اللوكسات، يحمله أحد أفراد الموكب، ويساعده اثنان في حالة إنزاله للراحة او التوقف.
تسلك المواكب عموما طريقها من المحلة التي انطلقت منها ثم إلى الإمام الحسين ع، لتنفض في صحن ابي الفضل العباس(عليهما السلام).. كما ان الهنود كانوا ينزلون بمواكب متميزة، حيث كانوا يضربون ظهورهم بسلاسل من السكاكين، ويستمرون على ذلك طيلة العشرة الأوائل من المحرم، اما بقية المحافظات فلم تشارك بمواكب سوى اهالي النجف، حيث كانوا ينزلون بموكب كبير يسمى(موكب جمهور النجف)، ليلة العاشر وعصر اليوم العاشر ايضا، وهذه المراسيم أخذت بالانحسار بعد مجيء البعث في عام 1969الى الحكم حيث بدأ البعثيون يضيّقون الخناق على المواكب الحسينية، فأخذت تنكمش تدريجيا، ولكنها كانت تعقد في البيوت، اما عزاء طويريج(ركضة طويريج) التي تنطلق بعد صلاة الظهرين يوم العشر من المحرم، فقد كان الناس فيها يتحدون السلطات البعثية والأمنية والمخابراتية..
اضف الى ذلك تمثيل واقعة الطف(التشابيه) حيث ان الكربلائيين كانوا يجيدون تجسيد الواقعة، وما زالوا بكل أمانة وصدق وتاريخية، حيث كانت تستثير عواطف المشاهدين وتستدر دموعهم، كما ان كل انوار المدينة تستبدل باللون الأحمر فتجد طابع الحزن والخشوع هو المخيم على الأجواء، وهناك موضوع أود الإشارة إليه هو موضوع(السبع) حيث كان هناك شخص يلبس جلد أسد حقيقي عصر اليوم العاشر حيث كان يمر بصحن ابي الفضل العباس(عليه السلام) ليتوجه بعدها الى الإمام الحسين(عليه السلام) مرورا بسوق الحسين، لينهي عرضه في المخيم، حيث كان يقوم بحركات تثير الشجن.
أما المواكب الخاصة بيوم العاشر، فكان وقت نزولها كما هو اليوم، حيث تنزل هذه المواكب ليلة العشر بما يسمى في كربلاء(المشق) وفي الكاظمية(براوة)، لتعود فجر اليوم العاشر للتطبير، وضرب الرؤوس بالقامات والسكاكين الحادة، ومن ثم تتفرق في المخيم ايضا.
أضف إلى ذلك توزيع الطعام في كل الأحياء والطرقات، اما اليوم فقد اخذت جميع محافظات العراق تحذو هذا الحذو خصوصا بعد سقوط النظام البعثي الفاسد، كما ان الحياة في كربلاء تتوقف تماماً، حيث تغلق جميع المحلات ابوابها، فلا بيع ولا شراء، حتى يصل هذا الأمر إلى الديانات والأقليات غير المسلمة، ففي الكاظمية والمناطق المجاورة كان المسيحيون يغلقون محلاتهم ذلك اليوم ايضا.
أما المجالس الحسينية في كربلاء آنذاك، فكان يوزع فيها الحليب الساخن على الحضور مع قطعة من الكعك المحلي الصنع او الخبز، وبعض البيوتات كانت توزع الهريسة، ولكن بشكل قليل جدا، لأن الهريسة لم تكن مألوفة في كربلاء قبل خمسين سنة او يزيد، وانما هي مألوفة في الجنوب بشكل أكبر، وما يميز الهريسة الكربلائية انها تُصفّى مما يعطيها مذاقاً وطعما تنفرد به.
بعد ستينيات القرن المنصرم بدأ الشيخ عبد الزهرة الكعبي(رحمه الله) بقراءة المقتل قرب باب قاضي الحاجات، في باب سوق العرب، الى جوار مقهى الحاج حبيب، الذي لم يبقَ من آثاره شيء حاليا، ويعاونه السيد صدر الشهرستاني، حيث تجتمع الناس بالآلاف تحت المنبر، وهي تستمع وتتفاعل مع الفاجعة بالألم واللوعة والدموع، وكان وقت ذلك قرب نزول عزاء طويريج، حتى اصبح تقليداً، دأب عليه جميع القرّاء.. ولكن النظامَ البعثي أخذ يتلاعب بالتسجيلات بالإضافة والحذف، لأن لعنَ بني أمية كان يغيظهم، فبدؤوا بقراءة المقتل في الاذاعات الحكومية بالشكل الذي يتلائم مع سياساتهم، ولكن الناس كانت تحتفظ بالتسجيلات الأصلية، ولم تنطلِ عليها هذه الألاعيب.. وتستمر هذه المجالس الى الثامن والعشرين من صفر، ولكن ليست بالقوة التي تكون عليها في العشر الأوائل، اما اليوم الحادي عشر فكان ينزل (عزاء السقاية) يحملون معهم الماء في الجرار ويسقون الزائرين، كما كان هناك (عزاء الطلبة) او كما كان يسمى(عزاء الطلاب) وهم يرتدون زيَّهم الخاص، على شكل مجموعتين يقرؤون الأشعار الحزينة بالمناسبة، إضافة الى عزاء خدّام العتبتين، وهو عزاء حزين جداً، ويستدر دموع وخشوع الزوار والمعزّين، وكان يقرأ في هذا العزاء السيد طالب آل ماجد(رحمه الله)، والذي كان يُسمى بـ(شاعر الطف)، وبعد ذلك السيد احمد ابو المعالي، أما في اليوم الثالث عشر، وهو يوم مواراة الأجساد الطاهرة، فينزل موكب بني اسد، يعلوهم الحزن وترافقهم الدموع، وهم يحملون أدوات الحفر البدائية.
اما بعد تأسيس الجامعات العراقية، فكان يأتي الى كربلاء موكب طلاب الجامعات، وهو موكب كبير وله أهمية كبيرة جداً، باعتباره يضم الشريحة المثقفة والواعية، لذا قامَ اللانظام السابق بالتضييق عليه، وزج الكثير من الطلبة في السجون والمعتقلات.
كما ان اهالي المدينة جميعا، من مثقفيها وعوامها، رجالها ونسائها، كانوا يأتون إلى الزيارة ومن جميع الأحياء حفاة الأقدام، وهذه الظاهرة اختفت تدريجياً، وقد يكون للنظام البعثي الدور البارز باختفائها.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat