في احد الايام وقف الفضيل بن عياض على ضفة النهر ليسقي فرسه، فاذا ببصره يقع على فتاة في غاية الجمال تحمل على كتفها قربة تريد ملأها، فوقع حبها في قلبه، وما رفع بصره عنها حتى ملأت قربتها وذهبت، عندها أمر أتباعه باقتفاء اثرها، حتى اذ دخلت دارها طرقوا الباب وأبلغوا أهلها بوجوب اعداد هذه الفتاة، واخلاء الدار تلك الليلة؛ لأن صاحبهم فضيل قد شغف بها!! والمعروف عن الفضيل بن عياض أنه من قطاع الطرق، ولا يتورع عن ارتكاب اي كبيرة، وكان اسمه يثير الرعب في النفوس حتى خليفة ذلك العصر (هارون العباسي) كان يخشاه لما له من كثرة اعوان وزبانية لا يرقبون في الناس إلاً ولا ذمة، وما أن بلغ الخبر أهل الفتاة حتى استولى عليهم الذعر، واضطروا الى استدعاء أقاربهم للبحث عن مخرج من هذا الموقف، فاتفقوا على التضحية بالفتاة في سبيل المدينة، فأما أن يستجيبوا لطلبه هذا او تقتل الفتاة، للهروب من هذا المأزق.
ودخل فضيل المدينة التي خرج غالبية سكانها خوفا من بطش فضيل وجماعته، دخل المدينة ليلا وتسلق الجدران وعبر بعض الدور قاصدا دار الفتاة، وهناك تناهى الى سمعه صوت قرآن من احدى الدور، فأنصت إليه وهو يتلو الاية الشريفة: (أَ لَمْ يَأْنِ لِلذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخشَعَ قلوبُهُمْ لِذِكرِ اللهِ) فأثرت هذه الآية في نفسه كثيرا، وطرقت باب قلبه محركة فطرته السليمة، فعاد ونزل من الجدار وتغير حاله، وقال لربه بنية خالصة، وقلب نقي: يا إلهي لقد آن وقت الخشوع والخوف من سطوتك، تاب فضيل الى ربه توبة خالصة نصوحة مفارقا اصدقاء السوء وقرناء الشر، وسار تلك الليلة هائما على وجهه الى ان وصل خربة فرأى فيها بعض التجار والمسافرين الذي لجأوا الى هذه الخربة خوفا من فضيل وعصابته، وحطوا رحالهم هناك، وسمعهم يقولون: كيف لنا ان نتخلص من شر فضيل؟
تأثر فضيل أكثر عند سماع هذا الكلام؛ لأنه السبب في ترويع الناس، وايجاد الذعر قلوبهم، فتقدم اليهم وعرّفهم بنفسه، وقال لهم: طيبوا نفسا بعد اليوم فقد تاب فضيل الى ربه، وسلك طريق الله أملاً أن يشمله الله برعايته. ومن لحظته تلك انتهج فضيل طريق الزهد حتى غدا واحدا من عرفاء وزهاد عصره. ويروى ان هارون العباسي رأى عند ذهابه الى مكة حلقة من الناس حول رجل يعظهم وهم يبكون، فسأل عنه: قيل له هذا فضيل الفاسق قد تاب الان...
وكان لفضيل دفتر يسجل فيه أسماء وعناوين الأشخاص في كل قافلة يسلبها منهم، فوجد أغلبهم واسترضاهم، أما الذين لم يجدهم فقد دفع عنهم الصدقات ردا للمظالم إلا رجلا واحدا يهوديا من نواحي الشام كان فضيل قد سلبه مالا، فأبى ان يصفح عنه، وقال: انني قد اقسمت ألا آخذ بدل مالي المسلوب إلا ذهبا، ولكنك مادمت جادا في طلبك، ولا مال لديك، فلا بأس ان تذهب وتأخذ من أموالي وذهبي الموجود تحت فراشي، وتقدمه لي بقصد أداء ما عليك من دين، حتى أكون قد بررت بقسمي، وتكون انت ايضا قد بلغت حاجتك...
مدَّ فضيل يده تحت الفراش واخرج مقدارا من الذهب واعطاه لليهودي، فقال من فوره للفضيل: انطقني يا أخي بالشهادتين، لقد آمنت بدين محمد، ولا معنى بعد هذا للبقاء على الديانة اليهودية والعزة بالاثم، لأني قرأت في التوراة ان إحدى صفات أتباع رسول آخر الزمان، هي ان يبدل الله التراب في يدهم ذهبا، واعلم يا هذا أنه لم يكن تحت فراشي سوى التراب، وأردت أن امتحنك، ولما أبدل الله بقدرته التراب بيدك ذهبا، تكشفت لي حقيقتان؛ الأولى هي أنك تائب حقا من صميم قلبك، والثانية هي ان الدين الذي أنبأ عنه موسى في التوراة، واعتبره ناسخا لدينه وللدين الذي يأتي بعده اي المسيحية، هو الدين الذي انت عليه. وبهذا أسلم اليهودي على يد الفضيل، وهذه إحدى بركات التوبة النصوحة، بل هذا هو التوفيق الرباني الذي يجعله الله لنا حجة، كي لا يبقى لأحد عذر في البقاء على المآثم والإصرار عليها والعاقبة للمتقين...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat