صفحة الكاتب : كاظم فنجان الحمامي

العراقيون أشد التصاقا بوطنهم
كاظم فنجان الحمامي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يقول الأصمعي:
إذا شئت أن تعرف وفاء الرجل, وحسن عهده, وكرم أخلاقه, وطهارة مولده, فانظر إلى حنينه إلى وطنه, وتشوقه إلى إخوانه, وبكائه على ما مضى من أيام زمانه
شاءت قرعة  الفيفا في التسعينيات أن يخوض المنتخب العراقي مبارياته المصيرية مع نظيره الإيراني في قلب طهران, لم تمض على الحرب الضروس وقتذاك إلا بضعة أعوام, كانت غير كافيه لدرء الصدع الكبير في العلاقات المتشنجة بين البلدين. .
توجه منتخبنا وحده إلى طهران, من دون مشجعين ولا مؤازرين, كان تلفزيون بغداد مكلفا بنقل المباريات على الهواء, لم يستقبلهم أحد في المطار, فإذا الرايات العراقية ترفرف حول الملعب, وتشغل المدرجات كلها, وإذا الهتافات تتصاعد في أرجاء ملعب الحرية (آزادي): (هله بيك هله وبجيتك هله), لم يستطع المعلق الرياضي أن يفسر لنا من أين جاءت هذه الجموع الغفيرة, وكيف اجتمعوا هناك ليؤازروا أسود الرافدين ؟, ومن الذي حشدهم وجهزهم بالرايات واللافتات, لكننا علمنا بعد عام إن العراقيين المسفرين والمهجرين إلى إيران هم الذين تجمهروا وتجمعوا بالفطرة, ليقفوا مع العراق الذي التصقت قلوبهم بأرضه المقدسة, شعرت الحكومة العراقية بالحرج وهي تشاهد هذه التظاهرة الوطنية العفوية الصادقة, لأنها لم تكن تعلم حتى تلك اللحظة إن الشرفاء الذين ولدتهم أمهاتهم في أحضان الميزوبوتاميا لم ولن يخذلوها أبدا. .

قال لهم السياب وهو يقف على ضفاف شط العرب:
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده ؟؟
قبل بضعة أيام تلقيت رسالة خاصة من صديقي (عاشق البصرة) تتضمن الإشارة إلى مقطع غنائي لاحتفالات العراقيين اليهود المبعثرين الآن في المدن الإسرائيلية, تظهر في الفلم فرقة غنائية من كبار السن بالزي البغدادي, وهم يؤدون المقامات والبستات العراقية بحزن عميق, وتعبير صادق, من دون أن يتلكئوا في نطق المفردات البغدادية, وكأنهم غادروا منطقة (قنبر علي) منذ سويعات. .
http://www.youtube.com/watch?v=gaasTmK2wF8&feature=related
يظهر في الفلم الموسيقار العراقي (صالح الكويتي), ومعه الفنانة (نجاة سالم), تبدأ بأغنية (الهجر مو عادة غريبة), و(أدير العين ما عندي حبايب), و(قلبك صخر جلمود), وتنتهي بأغنية (خدري الشاي خدري), بعضها من ألحان الموسيقار نفسه, وكلمات سيف الدين ولائي, والبعض الآخر من التراث. .

عاش اليهود في العراق منذ زمن بعيد, واضطروا لمغادرته مكرهين على اثر الإجراءات التعسفية, التي مارستها ضدهم الحكومات المتعاقبة, فتركوا وراءهم تجارتهم وبيوتهم ومصالحهم, لكنهم لم ينسلخوا من العراق, ولم يتنكروا لماضيهم, ولم ينسوا تعايشهم السلمي مع المسلمين والمسيحيين والطوائف الأخرى, وكيف كانوا يعيشون تحت سقف واحد بأمن وأمان. . .

يذكر صديقي العراقي المغترب انه قبل ثلاث سنوات كان في لندن, وصادف أن مر بمحل لبيع الأقمشة, يديره رجل عجوز, تكلم معه صاحبي بالانجليزية على الرغم من ملامح العجوز الشرق أوسطية. .

طلب منه تزويده بكتالوجات أقمشة الدشاديش العربية, فاختار منها ثلاث قطع فقط, واستعجلهم بتحضير قائمة الحساب, فسأله العجوز: من أين أنت ؟, قال صديقي: أنا عراقي مغترب في الخليج, فسأله العجوز: من أي الأماكن في العراق ؟, قال صديقي: من البصرة, فسأله العجوز: ما اسم حضرتك ؟, أجابه صديقي: فلان ابن فلان الفلاني, وهنا سقط القلم من يد العجوز, وصاح بلهجة عراقية فصيحة, معبرا عن دهشته: (أيباه . . أشكد هاي الدنيا زغيرة), قال بعدها: أنا من بغداد, لكنني اعرف الحاج فلان الفلاني في البصرة, فقال له صديقي: هذا والدي, وهنا توقف العجوز, وكاد يسقط مغشيا عليه من هول المفاجأة, فنهض من مكانه يتكأ على عصاه, وتوجه إلى صديقي, فأخذه بالأحضان, يقبله ويضمه على الطريقة العراقية الحميمة, التي حملت دائما طابع الود والوئام والانسجام والتلاحم, كانت الدموع تترقرق في عينيه الذابلتين, ثم أجهش بالبكاء, وقال بصوت عال: (هله بريحة الحبايب, هله بالغالين), ثم امسك بيد صديقي ودعاه إلى تناول العشاء في بيته, فاعتذر منه صديقي, وقال له: أنه في طريقه إلى المطار للسفر حالا إلى جنيف, فخصم العجوز 30% من قيمة الأقمشة, وطلب منه معاودة الزيارة كلما مر بلندن.

لم يكن هؤلاء من ديننا, ولا من قبيلتنا, ولا من جيلنا, لكننا نرتبط بهم بروابط وطنية نقية وقوية, وتجمعنا بهم وشائج متينة, تلتقي جذورنا معهم بعروق هذه الأرض الطيبة, وتتشابك في أديمها المبارك, كتبنا معهم تاريخنا المشترك, وأسسنا معهم أرقى الحضارات وأقدمها, وكنا معهم نصنع أروع مواقف الولاء والوفاء لبلد الرافدين. .

أذكر إني قرأت قبل مدة مقالة رائعة للدكتور الجميل (سيار الجميل), يتحدث فيها عن عراقية الأرمن. قال فيها: ((ارتبط الأرمن بتراب العراق ارتباطا وثيقا, وعشقوا العراق. صحيح إنهم محافظون على لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم, وهذا من حقوقهم المشروعة كقومية لها وجود في هذا العالم, لكنهم لم يكونوا أدوات للآخرين للإضرار بالعراق, وكانت عواطفهم مع العراق لا مع غيره)). .

اما القومية الأشورية فتكاد تكون هي القومية, التي رسمت صورة الحضارة الآشورية بين النهرين, وهي التي توفر لها القدر الأكبر من المشتركات القومية والوطنية لبناء وتأسيس رؤية وطنية متوازنة لثقافة عراقية ترسخ في الأذهان, بأن العراق وطن الجميع, وان المعيار الوطني  الثابت يقاس بمقدار الانتماء والولاء للعراق الكبير. .

http://www.youtube.com/watch?v=xjUPAptlXos

 

وإذا كان أبناء (تلكيف) أول من وضعوا أقدامهم في مدينة (ديترويت) الأمريكية بحثا عن حياة أفضل, فإن تركيبة الجالية العراقية اليوم, وحصريا في ولاية (مشيغان), أو مدينة (ديترويت) وضواحيها تؤلف الطيف العراقي كله من دون استثناء, وتتكون من أبناء الطائفة المسيحية (الكلدان والسريان والأشوريين), ومن الطائفة المندائية, ومن المسلمين (السنة والشيعة), والعرب والأكراد والتركمان, ومجموعة صغيرة من اليهود العراقيين, يشكلون في المنأى عراقا منسجما متجانسا متوادا, لم ينصهروا حتى الآن في المجتمع الأمريكي, بل حافظوا على تقاليدهم وعاداتهم الأصيلة, وتمسكوا بحبهم للعراق, فنقلوا معهم المعالم البغدادية, ولا تندهشوا إذا علمتم إنهم نقلوا معهم سمك المسقوف, وتنور الطين إلى ديترويت, سمكة بنكهة ورائحة وطن رحلوا عنه, لكنه لم يرحل منهم, فأصروا على استحضار قطعة من أنهاره الخالدة, واستحضار دفء شارع أبي نؤاس في صقيع ديترويت. .

http://www.arab2.com/2/?p=968

لا يختلف اثنان إن العراقي, سواء كان في العراق, أو خارجه يلتصق التصاقا ثابتا بالعراق, ويحبه أكثر من نفسه, بيد ان العراقيين في المنافي البعيدة أو في محطات الغربة أكثر شوقا ولهفة من الذين يعيشون الآن في أحضان العراق, فالغربة صعبة, وصدق كريم العراقي عندما قال:

هربت طيوري حين ضاع أمانها

فكأنني شجر بلا أوراق

لكنما همس العراق بمسمعي

يفنى الأسى وجبين عزك باق

الشمس شمسي والعراق عراقي

ما غيّر الدخلاء من أخلاقي

http://www.youtube.com/watch?v=n5fUr6TdpkM

 

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كاظم فنجان الحمامي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/04



كتابة تعليق لموضوع : العراقيون أشد التصاقا بوطنهم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net