مُنذُ أنْ درجتْ قدماي في خطواتِها الأولى، سعتْ والدتي إلى أنْ تكونَ في ذلك التجمُّعِ الكبيرِ الذي يُقامُ بالقُربِ من حيِّنا، عادةٌ جرتْ على كُلِّ أفرادِ أُسرتي؛ فما إنْ يبدأُ المولودُ بالمشي حتى تقوم والدتي بتخطّي ذلك السوقِ الكبيرِ من الجِهةِ الشرقيةِ إلى الجهةِ الأُخرى...
كُنّا نسكنُ في حي الصابئةِ بالقُربِ من السوقِ الكبير أو ما يُسمّى بـ(القيصرية)، وفي مثلِ هذه الأيامِ كانتْ تُقامُ المجالسُ الحُسينية، كُنّا صغارًا نتجمّعُ مع أطفالِ الحي في نهايةِ السوقِ لنحصلَ على شيءٍ ممّا يوزِّعُه الناسُ بعد انتهاءِ المجلس، ولم تكُنِ الحكايةُ تعدو ذلك؛ فإذا حصلنا على شيءٍ من هذه الحلوى أو الطعام قبلَ البِدءِ، عزفْنا عن استماعِ الكلام..!
ولكن بعد ذلك أصبحتُ أفهمُ ما يُقالُ عن ذلك البطلِ المغوارِ الذي يشقُّ الصفوفَ ليُحضِرَ الماءَ للأطفال، وعن ذلك الشابِ الذي خلّفَ أُمّه تُصارِعُ الموتَ إثرَ فراقه، وعن تلك الطفلةِ التي تتعلَّقُ بركابِ أبيها لتحظى بنظرةٍ أخيرةٍ منه..
وفي يومِ العاشر عندَما تنتهي قصتُهم بنهايةٍ ليستْ كباقي الحكايات، عندَما يرحلُ ملاذُ الأطفالِ واليتامى ويُخلِّفُ أُختًا له بينَ الأعداء تُحامي عن بقيةِ تلك العائلة وعن النساءِ والصغار؛ حتى أمسى لذلك المكانِ معي حكايةٌ أُخرى أنتظرُها كُلَّ عام، عندَها كم وكم مرّة عُدتُ إلى البيتِ لأرى والدتي تذرِفُ الدموع.. كم مرّة جففتُها بأناملي الصغيرة.. وكُلّما سألتُها لماذا تبكين؟ تُجيبني: أنا أُمٌّ وأبكي على مُصابِ أُمِّ هذا الشاب!
لم تتوانَ والدتي عن لبسِ السوادِ عندَما كانتْ تخرجُ للتبضُّعِ من السوقِ، أما أبي فكانَ يشتركُ مع الرجالِ في تعليقِ الأعلامِ ونشرِ البوسترات السوداء.
كُنّا حكايةَ الحي! وكانتْ حكايتُنا هي هذه الأيام، حتى جاءَ ذلك النظامُ وانقطعتْ تلك العاداتُ بصورةٍ علنيةٍ، كانتْ والدتي تختلسُ الخُطواتِ لتزورَ بعضَ عوائلِ المنطقةِ ممّن كانوا يُقيمون العزاءَ سرًّا، أما أنا فقد أصبحتُ شابةً وما زالَ صدى ذلك الناعي يتردَّدُ على مسامعي، وما زلتُ أبحثُ عن حقيقةِ أبطالِ تلك القصة!
لم يكنْ هنالك رفيقٌ للدرب، لا أجدُ من يُجيبني عن مئاتِ الأسئلةِ التي تدورُ في مُخيّلتي، كم مرة سألتُ والدي:
- هذا القتيلُ أ ليسَ ثمّةَ من يأخذُ بثأرهِ من قاتليه؟
فيُجيبُ بهزِّ رأسه وطيّ شفتيه:
- لا أعلم!
كُنتُ أسرقُ الحديثَ من شفاهِ بعضِ زميلاتي في الدراسةِ عندَما يحلُّ هذا الشهر، وبعد سقوط النظام البعثي أصبحتِ المكتباتُ مليئةً بالكتُبِ الحُسينيةِ التي لم أكُنْ أجرؤ على شرائها علنًا، ثم بعدَ هذا التطوّرِ ودخولِ عالمِ النت أمضيتُ ليالي وأيامًا وأنا أقرأُ وأبحثُ حتى وصلتُ إلى الحقيقةِ التي طالما آمنتْ بها والدتي ولم تجرؤ على البوحِ بها.
كم تقدَّمَ لخِطبتي من أبناءِ ديانتي من الشباب، إلا أنّي كُنتُ أرفضُهم بحُجّةِ إكمالِ دراستي، أما شبابُ الجيرانِ المُسلمين فلا يتقدّمون لي لأنّي كُنتُ أُختًا لهم كما يقولون، أما الآن وبعدَ أنْ بلغتُ الأربعين فلي مع الحسين حكايةٌ لا تُخفيها العيون، وللسوادِ الذي أنشرُه على فناءِ البيتِ وواجهةِ المنزلِ سِرٌّ لا يعرفُه إلا هو! لن يستطيعَ أحدٌ أنْ يمنعني من لبسِ السواد أو البكاء..
لم أكُنْ أُعلِنُ إسلامي، إلا أنّي مسلمةٌ بقلبي وعقلي ومُنتظرةٌ ذلك الطالب بالثأر، مُنتظرةٌ فرجي به وفرجهم به، أنتظرُه... وأنتظرهُ إلى آخرِ يومٍ في حياتي عسى أنْ يُحقِّقَ اللهُ (تعالى) أُمنيتي.
الصابئيةُ المُنتظرة
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat