محنة الكتابة في مخطوطة المحنة .. قراءة في أبجديات رعد فاضل
أ.د.بشرى البستاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
أ.د.بشرى البستاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
شعر الإنسان بالاغتراب حالما نبضت روحه في الجسد ، وظل من حيث يشعر أو لا يشعر يقاوم هذا الشعور بالتناقض بين النفحة الإلهية والطين بأشكال شتى ، ثم تلاها النفي خارجا من الجنة وهابطا إلى الأرض بعد صنعه قرارا حسبه اختيار الحرية فكان الاغترابَ والتشيؤ ، تلك هي المعضلة التي نهضت بأول إشكالياته الأزلية التي حملت في وعيه تراجيديا وجوده الآدمي ، روح تشده نحو السمو والتعالي ، وحواس تأخذه نحو المتع القريبة ، الأولى صعبة المراس تحتاج إلى مجاهدة للصعود ومقاومة الجاذبية الكامنة في طبيعة الأرض والأشياء المادية المترامية عليها ، والثانية سهلة متاحة تجره باستمرار نحوها بكل ما في زينتها من غواية وإغراء .
وظلت وسائل مقاومة الاغتراب في تطور دائم مع تطور الحياة حتى وصلت أرقى مراحلها في الأديان والفنون ومختلف الأعمال التي تشعره بالتوازن من خلال تحقيق الانسجام بين طموحه وواقعه من جهة ، وبين ما يصبو إليه وما يحوزه من عوامل تمكنهُ من وعي ذاته وإدراك ما حوله ، كما تمكنه من مقاومة حالات الصراع الناجمة عن فقدان التلاؤم والمصالحة مع ذاته او مع مجتمعه أو كليهما معا ، بسبب فقدان التوازن مع الحياة الناجم عن هيمنة عوامل السلب وغياب إمكانية التعويض التي تجعل من التحقق وتمكن عوامل الإيجاب التي تساعده على المقاومة أمرا متاحا ، وذلك كله يتعلق بعمق الوعي وانفتاح الرؤيا ، فكلما حضر الوعي بعمق زاد الشعور بالاغتراب ، وكلما انفتحت الرؤيا أكثر زادت إمكانية المقاومة حضورا ، مقاومة الاغتراب الداخلي وعوامل السلب الخارجي معا ، إذ مقاومة أحدهما تعني مقاومة الآخر ، لكن ذلك لا يتم إلا من خلال صراع دائم بين عوامل الحضور والغياب ، بين تحقق الوجود والشعور بالعدم ، إذ لا يتحقق الانسجام الا من خلال القيمة المعنوية التي يبحث عنها الإنسان عموما والفنانون والشعراء بوجه خاص ، كل حسب رؤيته وما يمتلك من قوى ذاتية وفنية يحشدها لتحقيق خلاصه في الحضور الذي يتشكل في فتنة الفن وجوهره وجمالياته ، مقاوما الزمن التعاقبي وفناءه إلى زمن الشعرية الذي لا ينصاع لقيود أو حدود .
إن الصراع مع الزمن كان وما يزال يشكل جوهر دراما الإنسان الأزلية ، فالزمن هو الذي يمضي بنا نحو المفاجآت والصراعات والمخاطر والفقدان والموت في النهاية ، لكن عوامل الصراع اليوم في تزايد واحتدام لأنها غدت كامنة في ألوان شتى من الاستلاب الإنساني ، في القهر والجوع والقتل والتنكيل والحرمان ، في مداهمة البلدان والأوطان ونهبها والبطش بها من قبل قوة قاهرة لا قدرة للملايين العزلاء على ردها ، من هنا يكون حضور اليأس والشعور بالعبثية والعدم أمرا مفروضا ، لكن الفنان لا يستسلم لليأس ولا يُسلمه فنَّه ، لأنه يحب الحياة ويحب كل ما يؤدي إليها ويعمل على ازدهارها وتواصلها ، ولذلك كان الصراع من أجل الحلم قضية مشروعة ، بل هو جوهر القضية أصلا ، ولذلك كانت الكتابة من أسمى عوامل مقاومة العدم لقدرتها الفائقة على الاصطراع مع كل ما يعادي الإنسان وينفي الوجود ويحاول دحر الحياة ، وهي في مقاومتها الباسلة لا تسير على الورد في طرق معبدة ، بل هي تلتحم مع أشد عناصر الشر قسوة وصلابة كونها تقاوم موت الحياة في الحياة ، تقاوم التشيؤ والاعتياد وغياب الدهشة والحضور وبرود اللغة وانصياعها للتراكم والقدم واستسلامها للمتوقع الاعتيادي . من هنا تكون مهمة الشاعر شاقة وعسيرة عسر المسؤولية الملقاة على عاتقه في بث الحيوية وإشاعة النور أينما وجد الظلام ، ولذلك يجمع المبدعون على كون الكتابة وجعا وجهدا ومكابدة . ويروق لي الآن أن أتساءل مع الشاعر رعد فاضل : ( 1 )
سماء هذه ،
أم غابة من شِباك ..
فاعرف ،
اعرف إلى أين تبعث طير الكتابة يداك .. ص180 .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat