صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

قصيدة الشعر
د . محمد تقي جون

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لقصيدة الشعر تجربتها الشعرية المتفردة، فهي اشتغلت في الرقعة الإبداعية، كما إنها أعطت مساحة كبيرة ومهمة  للاشتغال في ذائقة المتلقي، بعملها في أماكن متروكة غير مشغولة فأعطت إدهاشاً وغرائبية ودوخاناً جعلها خاطفة مدهشة لعدم اعتياديتها كحال قصائد الشعر الحداثوية المبهرة المجاورة لها. ولكن إدهاش هذا النوع من العمل مؤقت اذا لم ترفده قدرة الشاعر وجديته وهما يحددان جودته وتحليقه الشعري. وهكذا يوجد شاعر أو أكثر أصلاء والباقي متعلقون بانجازهم. وقد تنبأ الدكتور رحمن غركان بأن مصير هذا النمط الوقوع في التكرار(4). وإن على القراءة النقدية الصحيحة النظر النافذ إلى ديباجة الشعر وقراءة مدى مقاومته للتجاعيد والتقشر واحتفاظه بالرونق والجمال، وهي قراءة دقيقة لأنها تطاول الزمن وتلاحقه وتقرأ ما سيكتب مستقبلاً.
زاوجت (قصيدة الشعر) بين شكل القصيدة الجاهلية (قصيدة العمود) ومضمون الشعر الحداثي خليط النظريات الأدبية والتجارب الغربية مضافاً إليه ترسبات التراث الشعري العربي. ويؤكد هذا الأمر مصطلح (قصيدة الشعر) الذي جاء مستفزاً وثائراً وجدليا مع مصطلح (قصيدة النثر). 
وإذ يوضح مصطلح (قصيدة الشعر) بصراحة أن القصيدة للشعر وليس للنثر، فانه يتعاطى مع (قصيدة النثر) فهو يطرح نفسه أسلوبا شعرياً إلى جنبها فهذه قصيدة شعر وهذه قصيدة نثر، إلا أن الفرق يكمن في لفظة (قصيدة) التي يجب أن ترجع إلى معناها اللغوي، وبهذا الفهم هم يتعاطون مع مضمونها ويعترضون على شكلها، فكانت (قصيدة الشعر) بشكل العمود ومضمون الحداثة.
ونحنُ نرى عودة قصيدة العمود حتمية كعودة المذنبات للظهور بعد زمن من الاختفاء والنسيان، و(قصيدة الشعر) هي عودة مذنبية لقصيدة العمود الجاهلية التي انحسرت واختفت مراراً: في صدر الإسلام بسيادة المقطعات، وفي العصر الأموي بظهور الأراجيز ذات الأغراض القريضية، وفي الأندلس باستحواذ الموشح والزجل، وفي العصر العباسي بانتشار المسمطات والمخمسات والمزدوجات، وفي العصر الوسيط باستمرار تلك الأشكال وظهور (فن البند) الذي يلغي الأساسات برمتها. وفي العصر الحديث والمعاصر بعد إبدال قوانين العرب الفنية بقوانين الغرب، فرضت فنونهم التي لا تتلاءم مع طبيعة اللغة والذوق العربي وهي: الشعر الحر والمنثور والرقمي.
أسبابها
تعود ولادة هذا الشعر إلى جملة أسباب منها: 
إنَّ مرحلة الحصار المفروضة على العراق وقبلها حرب الخليج عملت تقريباً على قطع صلة الثقافة العراقية في الداخل مع الخارج، فلم ينشأ جيل يسافر ويترجم كجيل السياب وما بعده المواكب للحراك الثقافي في العالم، فعادوا إلى التراث العربي لتفجير طاقات جديدة فيه.
كما دفعت المهرجانات الكثيرة والكبيرة، وإلقاء الشعر من منابرها إلى سيادة أفكار تشجع على قصيدة العمود بالدرجة الأولى والشعر الحر بالدرجة الثانية بوصفها الأنسب للمنبر الشعري، إذ فشل المنثور فشلا ذريعاً واتكأ على شهرة قائليه، فدفعهم ذلك إلى العودة للعمود وتخصيصه للمهرجانات ونشر المنثور في مجاميعهم، أما ما يلقونه من المنثور على المنبر فانه ظلَّ يتضاءل في قناعاتهم بالتدريج. وكانت الدولة تدفع أيضاً نحو قصيدة العمود وتشجعها، لما فيها من نفس إلقائي، ولكونها الأنسب في الحماسة والتعبوية كما قدمنا. 
ومن الأسباب القوية لظهوره إن هذا الجيل من الشعراء الشباب كله أو أكثره ذو ثقافة أكاديمية رصينة، قرأ الشعر القديم وتحسس جماليته وعرف الأوزان وأجاد اللغة وقوانين النحو وكل ما يتصل بالإجادة الشعرية، فكان متفوقاً على الجيل السابق عليه الذي تعاطى وتأثر بالثقافة والشعرية الغربية، ومن ثم فمعرفته بالشعر العربي وأسرار اللغة العربية التي تهدي إلى الإبداع قليلة وغير كافية، بل حولت ذائقتهم الى تذوق الشعر المترجم والانبهار بالأسماء اللامعة الطنانة لشعراء أجانب وبحذلقات غربية، وهذا أضعفهم عن تحريك اللغة العربية لإنتاج شعر عربي يضاهي ما في مخيلتهم من الشعر المترجم الرائع. 
والمتتبع لشعراء الحداثة يجد كثرة واختلاف أخطائهم: في النحو والإملاء واللغة والعروض فضلا عن التعبير. وان عدم إتقان هذه الأمور يجعل من المستحيل  كتابة شعر راقٍ، وقد أكد عبد القاهر الجرجاني العلاقة الإبداعية بين النحو والنظم، وان عدم تعمق أسرار اللغة يُعجز عن رسم صورة شعرية ناجحة، كما يمنع من تحقيق السرعة والرشاقة في التعبير، وهذا الأمر لم يكن يعانيه شعراء قصيدة الشعر إلا بقلة ومن أفراد. ونتيجة ظهور هذه الفئة حدث نوع من التقاطع الخفي بين الأكاديمي والمثقف.
إشكالية المصطلح
إن مصطلح (قصيدة الشعر) غير دقيق وفيه قدر من الارتجالية؛ وهو يكشف عن بحثهم غير المجدي للتوصل إلى مصطلح يستوفي التجربة فاختبؤوا خلف مصطلحين معروفين؛ فلفظتا (قصيدة) و(شعر) موجودتان أصلا ومستعملتان في الشعر العربي ولا جديد فيهما، ولا تكون القصيدة في مفهوم النقد العربي إلا للشعر، فكل قصائدهم شعر. وعلى الرغم من أن المصطلح يوقع بإشكالات كثيرة منها ندية لمصطلح (قصيدة النثر) كما ذكرنا، ومنها اتهامية للشعر العربي القديم؛ إذ أن التسمية توهم بأنه لا تعطى الشعرية إلا لهذا الشعر. على أنها تمثل إحساساً ناضجاً من الشعراء بقضية الإبداع ومعاناتهم في سبيله بدراسات ومناقشات كثيرة وطويلة. 
تطبيق الأساسات العربية على قصيدة الشعر
    لقد اشتغلت (قصيدة الشعر) في نظام الشطرين على توزيع فكرة البيت على شطرين كسلفها في العصور (الشطرينية) كقول الشاعر نوفل ابو رغيف:
بماذا يبشر صبر السلال
        ومشغولة أرضه بالعزوفْ

مسراتها ناشفات الشفاه
        وأحزانها دانيات القطوفْ

ومن ألف ليل من اللاكلام
        وحيداً، يزاول نفس الحروفْ

تزوج من غربة في الطريق
        فأنجب حلماً علته السيوفْ

وسار به تحت غيم قديم
        فأكواخه غادرتها السقوفْ(5) 


 غير أن بعض هذه القصائد برغم قيامها على شطرين الا انها لا توزع الفكرة على شطري البيت الظاهرين، بل يلغي الشاعر الشطرين ليستمر دون توقفات حتى نهاية القصيدة، وهذا النوع على الرغم من التزامه بحرا شطرينياً إلا انه لا يلتزم (الشطرينية) كقول الشاعر حسين القاصد:
أفيسألونك...
هل تصلي في قيامتهم
وأنت قيامة تتدافعُ
الموت يصلح للكبار
وأنت طفلُ، كيف فزتَ وكلهم يتصارعُ
ماذا جرى لك كي تموت
وأنت في مرح الطفولة –للإله - ودائعُ(6) 
فواضح أن الأبيات على بحر الكامل ولكن دون التزام بنظام الشطرين، إذ يقوم توزيع الكلمات على أساس اكتمال المعنى مقطعيا، وهو تأثر بالشعر الكتابي السيميائي، وهذا تأكيد ما قلناه: إن قصيدة الشعر استفادت من كل معطيات الحداثة (الغربية) إلا أنها وجدت شكل العمود أفضل الأشكال في إطلاق الحداثة.
والتزمت قصيدة الشعر ببحور الشعر الخليلية لأنها أكدت ضرورة الإيقاع الخارجي والداخلي بوصفه سمة رئيسة في تحديد جنس الشعر(7). إلا إن قراءة قصائد شعرائها يجدهم يلحون في استعمال بحور بعينها كالكامل ومجزوء الكامل المرفل والبسيط والمتقارب والوافر وغيرها ويهملون البحور الأخرى، وهم بهذا يظنون خطأ أن أوزان تلك البحور لا تنسجم مع توقيع الحداثة. ومع الالتزام بالوزن نجدهم يعمدون الى كسر احد أبيات قصائدهم عند نشره في الصحف والمجلات بينما يقرؤونه موزوناً على المنصة مع بقية الأبيات، وهو تصرف خاطئ ربما أوحى به ضيقهم او مجاملتهم في موضوع الوزن، ومجاراتهم لقصيدة النثر التي تدعي موسيقى داخلية، وهذا التصرف الخطأ يبتعد بالشعراء وشعرهم العمودي عن مبادئ القصيدة العربية (الأساسية).
أما لغتها الشعرية فهي تميل الى الحداثة ولا تريد ان تكون كلغة الشعر القديم بآلياته البيانية المعروفة لذا تنوع متنها اللغوي ببنى مختلفة: بنية صورية، بنية سردية، بنية أنسنية(8)... كما اشتغلت على الانزياح الذي يصل إلى درجات فراقية كبيرة، مما جعل النص يشتغل على مساحات ذوقية مهملة، وهم في هذا على تفاوت؛ فمنهم من إذا فتشت في هذه الألاعيب فانك لا تجد طائلاً، ومنهم من استعمل تلك المفارقات للمس أعماق لا تستطيع الجملة ذات العلاقات التقليدية مسها، لأنها تستعمل ظلالات وانزياحات وإفاضات تمكِّن من تحقيق منجز إبداعي، فهو متفرد بحق. وهو إذا كان صادقاً غير لاهٍ بهذه المفارقات، سيحقق قبوله في الأذواق التي سئمت شعر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الحكائي النثري في هبوطه وانفراشه على أرضية المباشرة والاستهلاك اليومي الممل. ولابد من الاعتراف بان قصيدة الشعر لها لغتها الشعرية المتفردة التي تتلاقى حتماً مع اللغة الشعرية الجاهلية في خطوطها العامة ولكنها خلقت لنفسها لغة خاصة فكانت قصيدة إدهاش وتأويل أو إيحاء وأسئلة أكثر من كونها تعبيرا مجازياً(9). 
    وأشهر سماتها الأسلوبية (التغريب) الذي اشتغل عليه شعراؤها ففسح لإنتاج خيال كبير وسَّع من المعنى القريب، كما عمل على تنويم المتلقي والسامع شعرياً فتاه في هذا الفضاء الأرحب. ولابد أن يكون بعض الشعراء على دراية ووعي وقدرة على استغلال هذا الانفساح، وان يكون بعضهم الآخر يخبط خبط عشواء ويتشبه بالعارف المبدع. 
    ولكن الذي أخذ يظهر على السطح ويكون الغالب في الآلية الإبداعية ما يمكن أن نسميه (المعاني اللفظية)، وهو الاشتغال على اللفظ لاستخراج معنى منه، وهذا الأمر عرف قديماً ولكن باعتدال؛ غير أن شعراء كثيرين جعلوا ذلك وكدهم وأسرفوا فيه أي إسراف، وما دروا انه يهبط بهم وبشعرية نصوصهم.  
    فإذا كانت المعاني متهمة بالنفاد، فما قدرة اللفظ إذا حفر فيه على أن يتفجر عيوناً ؟ ثم ما قدرة المفارقة اللغوية والمشاكسة اللفظية على المنح؟ فأحدهم يكتب الجنائن (المغلقة) بدل (المعلقة)، وآخر يختار لقصيدته عنوان: المهدي المنتظِر (بكسر الظاء) بدل (المنتظَر) (بالفتح)، و(عنقود عتب) بدل (عنقود عنب) فهذا التلاعب غير مثير للشعرية بتاتاً. 
إن هذا التلهف والهوس بـ(المعاني اللفظية)، هو هوس كل جيل بقضية ليست ذات قيمة، لا يكون الشاعر الكبير بمنجى منها وهو ليس بحوج شعراء صغار يتشبثون بالإبداع من خلالها، كقضية التضمين والمحسنات اللفظية التي ابتلي بها شعراء العصر الوسيط فسقطت في ميزان الشعرية وسقطوا هم معها، وهو حتماً يحجب الشاعر عن العمق الشعري، ويقلل عنايته بالصورة ودقة اختيار اللفظ والتركيز على القافية المناسبة وغير ذلك. 
ولابد من التنبيه على أن جوهر الشعر لا تمثله كلمات يختارها الشاعر بعينها أو أساليب ينقلها من تجارب مشرقة، وإنما جوهر الشعر هو في الجزء الخفي في أعماق الشاعر الحقيقي والتجربة الكتابية الصادقة، ينطلق من الكلمات وهو غيرها وينطلق من الأساليب وهو غيرها. فنحن نحتاج إلى شعراء حقيقيين وشعر متفق عليه يؤسس على التراث ويستوحي الحاضر، ويكون هذا الشعر مؤسساتياً يعطى العناية والدعم بشكل كامل لكي نستطيع ان نكتب شعراً حداثوياً عربياً عالمياً. 
وان قصيدة الشعر (العمودية)، مع إشكالاتها، هي الوريثة الشرعية الشعرية للقصيدة العربية الأصيلة، إذ تظهر (اقدريتها) في شكل الكتابة الشعرية، فهي أمام مسؤولية التزام التراث والحفاظ عليه وعصرنته بالشكل الأمثل، وتصلح ان تكون منطلقا الى قصيدة اكثر التزاماً واجمع للشعراء وانضج شعرية، وهو ما نطرحه للمستقبل. 


الهوامش
(1)    الأعمال الشعرية لعدنان الصائغ، ص81.
(2)    مدار الصفصاف، ص57.
(3)    المصدر نفسه. 
(4)    قصيدة الشعر، ص27.
(5)    ضيوف في ذاكرة الجفاف، ص81.
(6)    ما تيسر من دموع الروح، ص86- 87.
(7)    مدار الصفصاف، ص56.
(8)    مدار الصفصاف –ج1، ص201 وما بعدها.
(9)    قصيدة الشعر، ص23.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/10/08



كتابة تعليق لموضوع : قصيدة الشعر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net