شموعٌ.. في زمن الظَّلام!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجات﴾ (المجادلة11).
لقد تَفَاوَتَ المؤمنون في الدَّرَجات بحسبِ إيمانهم، ثمَّ بحسب علومهم، فالمؤمن العالمُ أرفَعُ درجةً من غير العالم، بعدَما (رَفَعَهُ الله تعالى)، فجاءت الرِّفعة من الإله العظيم القدير، الذي فَضَّلَ محمداً وآله عليهم السلام على جميع المؤمنين والعلماء، فهم أصحاب الدرجات الرفيعة التي لا يطمحُ لها طامح، ولا ينالها ساعٍ، يتلوهُم في ذلك الأنبياء والأولياء، ثمَّ العلماء على قدر علومهم، فسائر المؤمنين على قدر إيمانهم.
لكنَّ العاقل يتساءل عن حقيقة هذه الدَّرَجات..
فإنَّ (الدَّرَجة) نوعُ تشريفٍ.. وتقديرٍ.. كما يظهر..
ولكن..
هل كان هذا التَّشريفُ عبثياً؟ أم كان ثمرةً (لتكليفٍ) وُفِّقَ فيه صاحبه؟!
فيكون سَيرُ الأمور بحسب العادة: تكليفٌ.. فتوفيقٌ وامتثالٌ.. فتشريفٌ..
وإذا نالَ العالمُ شرَفَ حمل علوم آل محمدٍ عليهم السلام، هل ينتهي امتحانه واختباره وتكليفه بذلك؟ وهل له أن يأمنَ على نفسه من فقدان ما حازَه؟ أم أنَّ عليه الحذر دائماً وأبداً؟
ههنا عناوين ثلاثة:
أولاً: تكليف العلماء
لقد أوجب الله تعالى على الناس التعلُّم، فليس يصحُّ الاعتذارُ في يوم الجزاء (بالجهل)، لأنَّ العقل يدعو صاحبه للتعلُّم، والله تعالى قد أمر بذلك وحثَّ عليه، ولمّا كان مفتاح التعلم السؤال، كان في ترك السؤال خسارةٌ عظيمة.. بل هلاكٌ أبديٌّ: إِنَّمَا يَهْلِكُ النَّاسُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ (الكافي ج1 ص40).
ولكنَّ الله تعالى لم يوجب على النّاس طلبَ العلم، إلا بعد أن أوجب على العلماء بذل علومهم للمتعلِّمين، ففي كتاب عليٍّ عليه السلام: إِنَّ الله لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ العِلْمِ، حَتَّى أَخَذَ عَلَى العُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ العِلْمِ لِلْجُهَّالِ، لِأَنَّ العِلْمَ كَانَ قَبْلَ الجَهْلِ (الكافي ج1 ص41).
لكن..
كما لم يوفِ كثيرٌ من النّاس بعهدهم مع الله تعالى، ولم يطلبوا العلم ليعملوا به، وظلوا حيارى في ظلمات الجهل، تائهين في أوديته، فكان مصيرهم الهلاك.
كذلك..
لم يكن جميع العلماء من أصحاب الوفاء بالعهود! فلم يبذُل جميعُهم العلم لطالبيه! ففي الحديث الشريف:
إِنَّ مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلَا يُؤْخَذَ عَنْهُ، فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الأَوَّلِ مِنَ النَّارِ! (الخصال ج2 ص352).
كأنَّ هؤلاء غفلوا عن أنَّ العِلمَ ليس كالمال.. فإنَّ المال تنقصه النَّفَقَة، والعلمُ يزكو على الإنفاق.
وهؤلاء يُحبُّون أن يكونوا وحدَهم من أهل العلم، ولا يرغبون بتعليم عباد الله! فيصيرُ العلمُ وبالاً عليهم!
وبدلاً من أن يرتفعوا في درجات العلماء، يهوون إلى الدرك الأول من النَّار!
لقد أمرَ الله سبحانه وتعالى عوام الشيعة بطلب العلم، وأمر علماءهم بتعليمهم، لكي تنفتح لهم أبواب الحق، وتغلق أبواب الضلال، باستغنائهم عن مخالفيهم، فيثمر ذلك اكتفاءً علمياً للشيعة بعلوم آل محمدٍ عليهم السلام.
لذا وردَ عن الصادق عليه السلام: لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا.. إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ (الكافي ج1 ص33).
بهذا صار حفظ المؤمنين وظيفةً للعلماء وتكليفاً خطيراً.. ينحصرُ بهم أداؤه، ولا يقوم به أحدٌ سواهُم.. فهم وحدَهم مَن يقدرون على دفع شبهات أهل الباطل، ويُبَيِّنُون الحقَّ في زمن الغيبة، حتى ورد في الحديث:
لَوْ لَا مَنْ يَبْقَى بَعْدَ غَيْبَةِ قَائِمِكُمْ (ع) مِنَ العُلَمَاءِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَالدَّالِّينَ عَلَيْهِ، وَالذَّابِّينَ عَنْ دِينِهِ بِحُجَجِ الله، وَالمُنْقِذِينَ لِضُعَفَاءِ عِبَادِ الله مِنْ شِبَاكِ إِبْلِيسَ وَمَرَدَتِهِ، وَمِنْ فِخَاخِ النَّوَاصِبِ، لَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ارْتَدَّ عَنْ دِينِ الله (الإحتجاج ج1 ص18).
فإذا قامَ العلماء بدورهم في التعليم.. وسائر الناس بدورِهم في طلب العلم.. أثمرَ الزَّرعُ هدايةً ورشاداً ومعرفةً وقرباً من الله تعالى.. بل أثمر نوراً يضيء به العالم لسائر المؤمنين.. لذا روي عن الباقر عليه السلام أنَّه قال:
العَالِمُ كَمَنْ مَعَهُ شَمْعَةٌ تُضِيءُ لِلنَّاسِ!
فَكُلُّ مَنْ أَبْصَرَ بِشَمْعَتِهِ دَعَا بِخَيْرٍ.
كَذَلِكَ العَالِمُ مَعَهُ شَمْعَةٌ تُزِيلُ ظُلْمَةَ الجَهْلِ وَالحَيْرَةِ (الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج1 ص17).
إنَّها شموع العلماء.. في زمن الظلام الحالك..
إنَّها أبواب الهداية لله تعالى..
إنَّ ما يحمله العلماء من علوم آل محمدٍ هي السبيل الوحيد للخلاص من شبهات هذا العصر وأباطيله وشروره.
لذا شُبِّه العالمُ في كلام المعصوم بمن يحمل شمعةً تارةً.. وبأنّه كالبدر تارة أخرى! فعن أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّمَا العُلَمَاءُ فِي النَّاسِ كَالبَدْرِ فِي السَّمَاءِ، يُضِيءُ نُورُهُ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ! (الإرشاد ج1 ص230).
وهكذا.. صار أداء العلماء لما كلَّفهم الله تعالى به من تعليم الناس باباً للتشريف..
ثانياً. تشريف الله للعلماء
إذا امتثَلَ العالمُ أمرَ الله تعالى، وعَلَّمَ عبادَ الله فقد أدَّى واجِبَهُ، وعَمِلَ بما افترضَ الله تعالى عليه، حينَها فقط يستحقُّ أن يرفع الله تعالى درجته.. وأيّ رفعة!
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ الله، وَيَخْضَعَ لَهُ خُضُوعَهُ لله، وَيُعَظِّمَ(ه) بِالسُّجُودِ لَهُ كَتَعْظِيمِهِ لله.
وَلَوْ أَمَرْتُ أَحَداً أَنْ يَسْجُدَ هَكَذَا لِغَيْرِ الله لَأَمَرْتُ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا وَسَائِرَ المُكَلَّفِينَ مِنْ شِيعَتِنَا أَنْ يَسْجُدُوا لِمَنْ تَوَسَّطَ فِي عُلُومِ عَلِيٍّ وَصِيِّ رَسُولِ الله! (الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج1 ص53).
أيُّ رِفعةٍ ومنزلةٍ بَلَغها بدور السماء هؤلاء؟! حيثُ كادَ النّاس أن يؤمروا بالسجود إليهم! لو أنَّ هذا السُّجود يصح!
أيُّ عظمةٍ هذه أكرمهم الله تعالى بها وحَباهم إياها؟!
إنَّها ثمرة جهودهم في سبيل نشر علوم آل محمد عليهم السلام.. وبثِّها بين النَّاس.. وتعلم أيتام آل محمدٍ.. وإغاثة الملهوفين منهم.. وإنقاذهم من براثن التيه والحيرة والضلال.. فتحصل الثمرة الكبرى.. حيثُ النَّجاة في يوم الجزاء والقرب من الله تعالى..
ثالثاً. لزوم الحذر
لقد نالَ العلماء نعمةً عظيمةً وهي حمل علوم آل محمد عليهم السلام، ولكنَّ: صَاحِبَ النِّعْمَةِ عَلَى خَطَرٍ، إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لله مِنْهَا (قرب الإسناد ص387).
فعلى العالم أولاً أن يكون عاملاً بعلمه، فإنَّه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالمِ ذنبٌ واحد.
وعليه أن يكون مخلصاً.. وأن يسعى بجدٍّ لكي ينال حُسن العاقبة ويُختم له بخير، فلا ينسلخ عن آيات الله.
وعليه أن يُشعِرَ نفسه التواضع لله تعالى، فيتنبَّه لما أمَرَ به الصادق عليه السلام من لزوم التَّزَيُّن مع العلم بالحلم والوقار، والتواضع للمُعلِّمِ والمتعلِّم، ثم الحذر مما قاله عليه السلام: وَلَا تَكُونُوا عُلَمَاءَ جَبَّارِينَ! فَيَذْهَبَ بَاطِلُكُمْ بِحَقِّكُمْ (الكافي ج1 ص36).
ليس التجبُّر هنا مقروناً بالسلطنة والقوَّة والقَهر.. بل هو جِنْسٌ من العظَمة والعُلوّ، وهو يُقال لمن يجبر نقيصته بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، وهو الذي لا يرى لأَحد عليه حقّاً، ولا يقبل موعظةً.
ومِن علائم ذلك ما ذكره الصادق عليه السلام:
وَمِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَذْهَبُ فِي عِلْمِهِ مَذْهَبَ الجَبَابِرَةِ وَالسَّلَاطِينِ:
1. فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ.
2. أَوْ قُصِّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ.
غَضِبَ! فَذَاكَ فِي الدَّرْكِ الرَّابِعِ مِنَ النَّارِ (أعلام الدين ص97).
إنَّهُ امتحانٌ للعالِم وللمؤمن:
1. امتحانٌ للعالم كي يُرَوِّضَ نفسَه ويصلحها، ثم يعمل بتكليفه فيكون معيناً لعباد الله المؤمنين.
2. وامتحانٌ للمؤمن من جهتين:
الأولى: أن يطلب العلم ويعمل به.
والثانية: أن يأخذه من أهله ومعدنه، فهم أصحاب الشموع المنيرة.. ولا يغترّ بأصحاب الإدِّعاءات والأهواء الكاذبة.
وليس هذا الأمرُ مختصَّاً بأمَّة الإسلام، فلقد سبقتها إليه سائر الأمم، وكان في كلِّ أمَّةٍ ثُلَّة من هؤلاء ومِن هؤلاء..
وهذا كتابُ النَّصارى أنموذجاً.. بعهده الجديد.. حيثُ يُحذِّرُ من الرُّسُل الكَذَبَة الذين يَدَّعون ما ليس لهم، وقد ورَدَ فيه: لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ المَسِيحِ.
وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! (كورنثوس الثانية11: 13-14).
ولكنَّ العجب كلُّ العجب.. أنَّ كاتب هذه الرسائل بحسب ما يعتقدُ النصارى هو (بولس)، وهو الذي نصَّرَ النصارى وحَرَفَهم عن عقيدتهم الحقَّة!
هو بنفسه يحذِّر من الرُّسل الكَذَبَة وهو أكذبهم!
هو يُحذِّرُ من الشيطان الذي يغيِّر نفسه إلى شبه ملاكِ نور.. وهو بنفسه شيطان النصارى الأوَّل!
آهٍ لأمَّة عيسى من بولُسها.. وشيطانها..
ولأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وآله من شياطينها وجبابرتها.. وقد حَذَت حَذوَ الأمم السابقة..
اليوم يقفُ الناس على مفترق طرقٍ:
1. إما أن يظلُّوا في ظلمات الجهل، بأن يعرضوا عن طلب العلم من أهله.
2. وإما أن يطلبوه من بدور السماء.. حَمَلَة الشموع.. فيستندوا إلى ركنٍ وثيق.
3. وإما أن يتَّبعوا أصحاب الضلال الكَذَبة.. فيكونوا من أهل النفاق والشقاق..
فليحذر عاقلٌ على دينه.. وليختر لنفسه..
أجارنا الله تعالى من مُضلّات الفتن، وختم لنا وللمؤمنين بحسن العاقبة.
والحمد لله رب العالمين
الجمعة 13 جمادى الثاني 1444 هـ الموافق 6 – 1 - 2023 م
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat