صفحة الكاتب : علي حسين الخباز

أنين المدن
علي حسين الخباز

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 يستطيع الإنسان أن يراوغ الألم وأن يرسم لنفسه مسارات خادعة لكي يعيش حتى ولو بنبض أعرج، رغم أن ذروة النشاط اليومي قد زالت إلا أن الوظائف الأساسية التي تديم لي الحياة بقت تتواصل معي. 
 كنت أسمع أنين المدينة حولي، أصوات تنذر بالتعاطف، والحقيقة أن لا أحدا فيهم سواي رأى جثة أبيه لحظة انتحاره، رغم أنه كان ثريا صاحب مصرف كبير. 
 عشت تحت ظل أبي حياة رفاهية، ثمة ذكريات تمر في حياة الإنسان تشكل بؤرة الرؤية الفكرية، حين تدرس في مدرسة داخلية في طفولتك وتجد مديرها قسا سيختلف الأمر معك، جعلني هذا القس أنفر من الممارسات الدينية طوال حياتي. 
تضج الحياة خارج قبري بالصخب والحراك، ولهذا اخترت الصمت والانزواء لمدة أكثر من مئتي عام، أبحث عمن يحتمل جنوني ويتقبل آدميتي المهدورة، واستطيع أن أنفض عنده أخطائي 
 لا تسلني لمَ أنا بالتحديد دون غيري، انتحار الأب على شاب يبلغ سبعة عشر عاما كم يبدو قاسيا، فقدان الموت ليس كفقدان المنتحرين، الألم أكبر أن يسوق الإنسان إرادته بلا إذن من السماء.  
اكتشفت وأنا بهذا العمر أن الثراء لم يشفع لأبي لينجيه من البؤس ومن كوابيس الألم، وصل ذروة الألم فانتحر دون أن يحسب لنا حسابا، رغم المسافة التي تفصلني عنك، الزمن.. المكان.. اللغة.. الدين والكثير من السمات الأخرى، أردتك أن تعرف أن انتحار أبي جعلني أمام مشاكل أكبر 
فقدت جدتي عقلها حزنا على ابنها، عليك أن تعرف كل جوانب الألم لكي تعرف من أين يأتي الضياع، كنت على خلاف دائم مع أمي، تعلمت أن التحرر من قيود الفضيلة هلاك. 
 خلافي معها جعلها تزداد تمردا، أمي روائية معروفة ولها صالون أدبي كبير يحضره كبار الأدباء ومنهم الكبير (جوتة) وهي التي عجزت أن تحتوي ابنها الوحيد. 
كرهت أمي بل كرهت أن يقرن اسمي بامرأة طوال حياتي. 
 ربما ستسأل لماذا أروي لك هذه التفاصيل الدقيقة من حياتي، توقفت عن دراسة الطب وتوجهت إلى الفلسفة، هذا التوجه مشى بي إلى غايات استنزفت عقارب الساعة عندي، وأصبحت أعيش خارج إطار الزمان والمكان، وتجاوزت كل شيء يذكرني بأناي 
درست أفلاطون وعشقت أفكار كانط وتأثرت بهما 
 أرجوك احتملني وتحملني لنهاية حكايتي ستجد أمورا لا تعجبك فاجعلها ضريبة ضيافتك لي. 
شكلت أمي ندبة كبيرة في حياتي جعلتني أبحث عن مفهوم الحرية بشكل يختلف عن مفهوم الحرية عند أمي، والحقيقة مرة يا صاحبي هي عملت على التحرر من الفضيلة ذهبت إلى عمق عبودية الرغبة المحمومة، وأنا الآخر كررت نفس الخطأ توهمت التحرر من الدين شجاعة، ذهبت إلى عمق عبودية الذات. 
حصلت في سنة 1713م على درجة الدكتوراه تحت عنوان الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي، وأقصد بالسبب الكافي علاقتنا مع العالم الخارجي، العلاقة بين المبدأ والنتيجة وبين العلة والمعلول وبين الزمان والمكان وبين الداع والفعل، والصور الثلاث الأولى تخص التطور النظري، والرابعة تخص العمل والفعل. 
هذه الفلسفة والثراء الذي أورثه لي أبي جعلني أشعر أن العيش بلا قيود لا يرتبط بأي مفهوم من مفاهيم الحرية، بل هو ضياع مدروس بعناية ذات مريضة، أعتقد أن الصورة بدأت تتضح لديك وبدأت تعرف لماذا أخترتك أنت من البشر وبعد مرور أكثر من مئتي عام، هي مسؤوليتك، عليك أن تعيشني مثلما أنا دون تشذيب أو تهذيب لا تحسن بي شيئا، وأنظر في دواخلي عساك تظفر بشيء يكون فيه عبرة لمتلقيك 
كنت أتصور أن كتابي (العالم كإرادة وفكرة) سيبهر العالم، أظهرت فيه اهتمامي بفلسفة (توماس هوبنز) حصلت على وظيفة محاضر في جامعة برلين 
هل من الممكن أن تعاملني معاملة الأحياء وتدعوني إلى مأدبة طعام أو عصير فاكهة فأنا لم أذق الطعام ولا الشراب منذ مئتي سنة، سأخبرك حينها عن فشلي في حياتي الأكاديمية وفشل كتابي، كنت أظن أن فشلي كان عبر مؤامرة تحاك حولي من جميع المفكرين والفلاسفة الذين كنت أنعتهم بالحمير. 
صدقني كنت أراهم حميرا، أرى كتابي مرآة كل واحد يرى نفسه فيها، سيدور برأسك أني مصاب بداء الغرور، وهذه حقيقة. 
كنت أعتقد أن فلسفتي هي في حدود المعرفة بصفة عامة، وأعتقد أني كنت الحل الحقيقي للغز العالم، ممكن تسميها (رؤيا) مستوحاة من روح الحقيقة، إنسان أثقلته الندب الكثيرة التي سببها لي الحمق 
 أنا أقر بالأبداع والإتقان والإرادة في خلق الكون لكني أرجع أبداع الكون إلى الطبيعة، وفكرة الدين من صنع البشر 
 قلت أن الغرض من الدين تنظيم الحياة، بحسب ما يراه مؤسس الدين، وليس حسب الاحتياجات الحقيقية، التزم الناس بالدين جهلا، وأنا الفيلسوف الذي حملت الله مسؤولية قتل كل أبكار المصريين وبنفس الوقت استغربت من رحمته، أحبت البوذية لأنها تنكر الأنا، واعتقدت أن أسمى درجات الكينونة تتمثل في التلاشي، وأحببت فكرة تناسخ الأرواح رغم إني لا أؤمن بها، (أنا وحدي الموجود ولا شيء عداي لأن العالم من تصوري)
ومما زاد من تشاؤمي المزاج الغير سوي الذي لازمني، والحقد والكراهية اللذان ملأ قلبي، وفقداني للود، فلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء، ولم يكن لي سوى كلب
أطلق عليه اسم "أطما" وهو اسم يُطلق على الروح الكلي عند البراهما 
 أما سكان الفندق والقريبون منه فقد دعوا هذا الكلب باسم "شوبنهاور" الصغير. 
 ثق يا صديقي أن الموت الذي عشته خلال مائتي سنة علمني لا ينكر الله سبحانه إلا الفاشلون أمثالي، كنت أعيش سنوات الإلحاد بالقلق والتوجس أغلق الأبواب وأتأكد منها عدة مرات لأنام، عشت مذعورا طوال حياتي تصور أنني أحب الانتحار، وبنفس الوقت أتمنى أن أعيش العمر الطويل 
 
جئتك لا قول لك حقيقة تنفعك وأرحل عنك إلى الأبد 
 أكتب روى لي "آرثر شوبنهاور" بعد مئتي سنة من وفاته أن الحياة التي تسير بدون محبة الله سبحانه والايمان به من سيء إلى أسوأ وهذه هي لعنة الالحاد.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي حسين الخباز
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/08/17



كتابة تعليق لموضوع : أنين المدن
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net