مفهوم المتربص والتربص في القرآن الكريم
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قال الله تعالى عن متربص وتربص "قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ" ﴿طه 135﴾ متربص اسم، فَتَرَبَّصُوا: فَ حرف استئنافية تَرَبَّصُ فعل، وا ضمير، فَتَرَبَّصُوا: فانتظروا، قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله: كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون النصر والفلاح، فانتظروا، فستعلمون: مَن أهل الطريق المستقيم، ومَن المهتدي للحق منا ومنكم؟ و "قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ" ﴿الطور 31﴾ تربصوا: انتظروا، أم يقول المشركون لك أيها الرسول: هو شاعر ننتظر به نزول الموت؟ قل لهم: انتظروا موتي فإني معكم من المنتظرين بكم العذاب، وسترون لمن تكون العاقبة، و "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ" ﴿التوبة 52﴾ قل لهم أيها النبي: هل تنتظرون بنا إلا شهادة أو ظفرًا بكم؟ ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة مِن عنده عاجلة تهلككم أو بأيدينا فنقتلكم، فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بكل فريق منا ومنكم، و "لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" ﴿البقرة 226﴾ تربص اسم، تربص: انتظار، للذين يحلفون بالله أن لا يجامعوا نساءهم، انتظار أربعة أشهر، فإن رجعوا قبل فوات الأشهر الأربعة، فإن الله غفور لما وقع منهم من الحلف بسبب رجوعهم، رحيم بهم.
جاء في تفسير غريب القرآن لفخر الدين الطريحي النجفي: (ربص) "تربص أربعة أشهر" (البقرة 226) أي تمكث أربعة أشهر، و "تربصون بنا" (التوبة 52) أي تنتظرون بنا، والتربص: انتظار وقوع البلاء بالأعداء، قال تعالى: "يتربص بكم الدوائر" (التوبة 99) وقال تعالى: "قل كل متربص" (طه 135) أي منتظر للعاقبة فنحن ننتظر وعد الله لنا فيكم وأنتم تتربصون بنا الدوائر.
عن التفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى "أَمْ يَقُولُونَ شََاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ" (الطور 30) قال بعض المشركين لبعض: محمد شاعر، و الشعراء قد يتنبئون لأنهم في كل واد يهيمون، فانتظروا به الموت و الهلاك كما مات غيره من الشعراء. "قُلْ" يا محمد لهؤلاء: "تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُتَرَبِّصِينَ" أنتم تنتظرون، و أنا أنتظر، و سوف تعلمون لمن العاقبة دنيا و آخرة؟ قوله تعالى "لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسََائِهِمْ" (البقرة 226) الإيلاء: أن يحلف الزوج باللّه على ترك وطء زوجته مطلّقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر "تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ" (البقرة 226) إذا حدث ذلك من الزوج، و رفعت الزوجة الأمر إلى الحاكم الشرعي-أمهله الحاكم بعد الرفع إليه 4 أشهر، و بعد مضيّ هذه الأشهر يخيّره الحاكم بين الرجوع مع الكفّارة و بين الطلاق فَإِنْ فََاؤُ أي تمّ الرجوع و التكفير "فَإِنَّ اَللََّهَ غَفُورٌ" (البقرة 226) عفا عمّا سلف "رَحِيمٌ" بعباده.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ" ﴿طه 135﴾ قالت الآية التالية: أنذر هؤلاء وقل كل متربص فنحن بانتظار الوعود الإلهية في حقكم، وأنتم بانتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن إهتدى وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذرعين. وخلاصة القول: فإن هذه السورة لما كانت قد نزلت في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداء، فإن الله قد واساهم وسرى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة، فتارة ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم، إذ هي للامتحان والابتلاء، وتارة يأمرهم بالصلاة والاستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيرا يبشر المسلمين بأن هؤلاء إن لم يؤمنوا فإن لهم مصيرا أسود مشؤوما يجب أن يكونوا في انتظاره. اللهم اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم. قوله سبحانه "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ" ﴿التوبة 52﴾ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ فإما أن نبير الأعداء في ساحة الحرب ونبيدهم ونعود منتصرين، أو نقتل فننهل ورد الشهادة العذب، فكلاهما محبب لنا ومصدر افتخارنا.
وهكذا يختلف حالنا عن حالكم، فنحن نتوقع لكم مساءتين: إما أن تصيبكم سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإلهية سواء في الدنيا أو الآخرة، أو يكون هلاككم على أيدينا: ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص شقاءكم وسوء عاقبتكم. والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقا وحاضرا في ميادين الجهاد، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين، يدلل على أنه بجميعه انعكاس لحالة الاعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة، وقد دلت الدراسات من قبل المفكرين، والتجارب المختلفة على أن تلك المظاهر لا يمكن أن تكون في المقياس الواسع الشامل إلا عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت. فإن المجاهد الذي منطقه "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" (التوبة 52) أي الوصول إلى إحدى السعادتين إما النصر أو الشهادة، وهو قطعا مجاهد لا يقبل الهزيمة. إن الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس، وحتى أنهم يحاذرون من ذكر اسمه أو كل ما يذكر به، ليس موحشا ولا قبيحا قط بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت، بل إنه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب، وتحطم القفص الدنيوي وكسر القيود المادية التي تأسر الروح، وبلوغ الحرية المطلقة. إن مسألة المعاد تعتبر الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين، لوجود نظرتين مختلفتين هنا: فالمادي يرى الموت فناء مطلقا، ويفر منه بكل وجوده، لأن كل شئ سينتهي به. والإلهي يرى الموت ولادة جديدة، وولوجا في عالم واسع كبير مشرق، والانطلاق في السماء اللامحدودة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat