صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

ما من خالقٍ.. إلا الله
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

يعتقدُ الشيعةُ أنَّ الله تعالى هو خالقُ كلّ شيء..

قال عزَّ وجلّ: ﴿قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهَّار﴾ (الرعد16).

ويعتقدون أنَّ كلَّ مخلوقٍ أو مصنوعٍ أو مُحدَثٍ أو مفطورٍ أو مُبتَدَعٍ لم يكن ثمَّ كان.. فالله تعالى وحده الأزليّ الذي لم يكن مسبوقاً بالعدم، وهو وحده الذي أوجد الأشياء بعد العدم..

وفي قِبالِهم بعضُ الغُلاة.. الذين اعتقدوا أنَّ الله تعالى فَوَّضَ إلى الأئمة أمر الخلق والرِّزق.. فخَلَقُوا ورَزَقُوا..

ولما سئل الصادق عليه السلام عن القائل بذلك قال: كَذَبَ عَدُوُّ الله، إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ فَاقْرَأْ عَلَيْهِ الآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهَّار﴾ (اعتقادات الإمامية ص100).

وعن الرضا عليه السلام: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ أَمْرَ الخَلْقِ وَالرِّزْقِ إِلَى حُجَجِهِ (ع) فَقَدْ قَالَ بِالتَّفْوِيضِ.. وَالقَائِلُ بِالتَّفْوِيضِ مُشْرِك‏ (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص124).

لذا تبرَّأ الشيعة من القائل بالتفويض، ولَعَنُوُه، وعَدُّوه مشركاً.

لكنَّ بعضَ النّاس اشتبه عليهم الأمر، فاعتقدوا أنَّ النبيَّ والإمام هو الخالق! وأنَّه فَعَلَ ذلك بإذن الله!

واعتمدوا في ذلك على بعض النصوص القرآنية والروائية الدَّالة على تعدُّد الخالِقين، كقوله تعالى: ﴿فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الخالِقين‏﴾ (المؤمنون14).

حيث أثبتت الآية وجود خالقين سوى الله تعالى، على أن يكون ذلك بإذن الله، كما في قصَّة عيسى عليه السلام، حينما خلق من الطين كهيئة الطير فصار طيراً بإذن الله: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْني‏﴾ (المائدة110).

لكنَّ هذا القول بَعيدٌ عن الصواب.. لأنَّ الخلق في هذه الآية وأمثالها له معنى آخر.. يُسمَّى (خلق التقدير).. في قِبال (خلق التكوين).

ولمّا وقع الخلط بين أقسام الخلق ومعانيه.. وقع هؤلاء في خطأ فادح في فهم الروايات الشريفة، وظَنُّوا أنَّ الخلق والإيجاد والإحداث ليس من مختصَّات الله تعالى..

ويظهرُ الحقُّ في بيان أمورٍ منها:

1. بيان أنواع الخلق ومعانيه.

2. بيان أدلة اختصاص الخلق والإيجاد والإحداث بالله تعالى، وامتناع كون المخلوق خالقاً.

3. مناقشة ما استُدلَّ به على إمكان خلق النبي والأئمة عليهم السلام لسائر المخلوقات.. وعدم وقوع الخلق منهم..

أولاً: أنواع الخلق ومعانيه

إنَّ الخَلقَ في اللغة يُطلق على معانٍ عدّة، منها:

1. المعنى الأول: الصُّنع: ورَجُلٌ خالِقٌ: صانِعٌ (المحيط في اللغة ج‌4 ص194‌).

وهو على نوعين:

فقد يكون صُنعاً لشيء لا من شيء ولا على مثال بحيث: يُستعمل في إبداع الشّي‌ء من غير أصلٍ ولا احتذاء.

وقد يكون صُنعاً لشيء من شيءٍ آخر: ويُستعمل في إيجاد الشي‌ء من الشي‌ء (مفردات ألفاظ القرآن ص296‌).

2. المعنى الثاني: التَّقدير: خَلَقْتُ الأديمَ: قدَّرته (كتاب العين ج‌4 ص151‌)

وفي الصِّحَاح: الخَلْقُ: التقديرُ. يقال: خَلَقْتُ الأديمَ، إذا قَدَّرْتَهُ قبل القطع.

ومنه قول زهير:

ولَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْضُ ‍ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي

(كما في الصحاح ج‌4 ص1470‌).

وقال ابن فارس: الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقديرُ الشيء، والآخر مَلاسَة الشيء. فأمّا الأوّل فقولهم: خَلَقْت الأديم للسِّقاء، إذا قَدَّرْتَه (معجم مقائيس اللغة ج‌2 ص213‌، وللمزيد يراجع الطراز الأول ج‏1 ص263، ومفردات ألفاظ القرآن ص296 وغيرها من كتب اللغة).

وقد روي عن مولى الموحدين وأمير المؤمنين، إمام البلاغة وسيدها عليّ بن أبي طالب عليه السلام بيان معاني الخَلق في القرآن الكريم حين: سألوه (صلوات الله عليه) عن مُتشابه الخَلق فقال: هو على ثلاثة أوجهٍ ورابع، فمنه:

1. خلق الاختراع: فقوله سبحانه: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.

2. خلق الاستحالة: فقوله تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحامِ ما نَشاءُ﴾.

3. وأما خلق التقدير: فقوله لعيسى عليه السلام: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ إلى آخر الآية.

4. وأما خلق التغيير: فقوله تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ (الآيات الناسخة والمنسوخة ص٧٢).

ويلاحَظ على هذه الأقسام الأربعة:

1. أنَّ خلق الاختراع هنا هو هو خلقُ شيءٍ من شيء، فالسماء والأرض قد خُلِقَتا من شيءٍ سابقٍ عليهما.. فيكون خلقهما اختراعاً بلا مثالٍ سابق، وإن كان من مادةٍ سَبَقَ خلقها..

ففي الحديث عن الباقر عليه السلام، عندما سئل عن قول الله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ﴾، فقال عليه السلام: إِنَّ الله ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ َ قَبْلَه‏، وَابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُنَّ سَمَاوَاتٌ وَلَا أَرَضُونَ (بصائر الدرجات ج1 ص113).

وفي الأحاديث أنَّ السماء خُلِقَت من الماء أو الدُّخان، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: وَكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ المُتَرَاكِمِ المُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً، فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا (نهج البلاغة).

2. أنَّ خلق الاستحالة يعني تغيُّر وتبدُّل الخلق من شيءٍ إلى شيء.. من طبيعةٍ إلى أخرى.. ويختلف عن السابق بأنَّ الأول هو خَلقُ شيء من شيء، والثاني تبدُّل الشيء بنفسه واستحالته شيئاً آخر.

ومن ذلك مراحل خلق الإنسان.. نطفةً ثم علقة ثم مضغة..

3. أنَّ خلق التَّقدير ليس خلقاً بمعنى الإيجاد.. ولا خلقاً بمعنى الاستحالة والتغيُّر والتبدُّل لطبيعة الشيء.. بل تقديرٌ لشيءٍ.. يعني تصويرٌ لشيء من شيء.. فعيسى عليه السلام قد صوَّرَ الطِّين على هيئة الطير.. ونَفَخَ فيه.. وانتهى دوره.. فكان طيراً بإذن الله..

فما فعله عيسى هو التقدير.. وأما الاستحالة فهي من فعل الله تعالى..

4. أمَّا خلقُ التغيير.. فهو الذي أمر إبليسُ به أتباعه ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾، فليس المراد منه إلا تبديل وتغيير أمر الله ودين الله.. كما في الأحاديث الشريفة (تفسير العياشي ج‏1 ص276)، فيكون أجنبياً عمّا نحنُ فيه، ولعله لذا قال عليه السلام عن الوجوه الأربعة أنَّها (ثلاثة أوجهٍ ورابع).

وقد يكون خَلقُ الإفك قريباً له في المعنى، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ (العنكبوت17)، فإنَّ خلق الإفك هنا هو (افتراء الكذب).

وقفةٌ مع خلق التقدير

إنَّ خلق عيسى عليه السلام للطير ليس إيجاداً لشيء، ولا تحويلاً وتبديلاً في حقيقة الشيء، بل هو تقديرٌ للطين على هيئةٍ، أي تصويرٌ للطين على هيئة.

فالطين مِن خَلق الله وصُنعه، والاستحالة من فِعل الله تعالى، وما فَعَلَهُ عيسى عليه السلام هو أنَّه قدَّره على هيئةٍ خاصة فصار طيراً بإذن الله.

وليس بين علماء الإمامية مِن خلافٍ في أنَّ الخلق في قصة عيسى عليه السلام هو (خلق تقدير)..

ومن أراد الاطلاع على بعض كلماتهم فليراجع على سبيل المثال: تفسير القمي ج‏1 ص102، والتوحيد للصدوق ص216، والمقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى للكفعمي ص35، وبحار الأنوار ج‏14 ص258 وج‏91 ص250، ومتشابه القرآن ومختلفه ج‏1 ص173، ودلائل الصدق لنهج الحق ج‏3 ص119، وغيرها من المصادر..

قال الشيخ ابن شهرآشوب رحمه الله:

﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ معنى ذلك أنه صَوَّرَ الطين وسمّاه خلقاً لأنه كان بقدرة، وقوله ﴿بِإِذْنِي﴾ أي تفعل ذلك بإذني وأمري، وقوله ﴿فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ معناه أنه نفخ فيها الروح لأنٌّ الروح جسمٌ يجوز أن ينفخها المسيح بأمر الله تعالى كما ينفخها إسرافيل في الصور، فإذا نفخ المسيح فيها الروح قلبَها الله لحماً ودماً وخلق فيها الحياة فصارت طائراً بإذن الله وإرادته لا بفعل المسيح، فلذلك قال ﴿فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ (متشابه القرآن ومختلفه ج‏1 ص258).

وهذا النَّوع من الخلق قد ورد أيضاً في ملائكةٍ يرسلهم الله تعالى ليُقَدِّروا صورة الجنين في بطن أمِّه، فيصورانه كما صَوَّرَ عيسى الطين على هيئة الطير.

ففي الحديث عن الصادق عليه السلام:

إِنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ خَلَّاقِينَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقاً أَمَرَهُمْ فَأَخَذُوا مِنَ التُّرْبَةِ الَّتِي قَالَ فِي كِتَابِهِ ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى﴾ فَعَجَنَ النُّطْفَةَ بِتِلْكَ التُّرْبَةِ الَّتِي يَخْلُقُ مِنْهَا.. فَإِذَا تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَالُوا: يَا رَبِّ نَخْلُقُ مَاذَا؟

فَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يُرِيدُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ (الكافي ج3 ص162).

وقد صَرَّحَت الأحاديث أن دورهم هو تصوير الجنين، فعن الباقر عليه السلام أنهما: يُصَوِّرَانِهِ وَيَكْتُبَانِ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ (قرب الإسناد ص353).

وما يقومُ بها الملكان هو أنَّهما يدخلان إلى المرأة الحامل وينفخان فيها روح الحياة، وأما الجنين فإنهما: يَشُقَّانِ لَهُ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَجَمِيعَ الجَوَارِحِ وَجَمِيعَ مَا فِي البَطْنِ بِإِذْنِ الله.. (الكافي ج‏6 ص14).

ثم يكتبان عليه قضاء الله وقدره.. يقرآن ذلك من لوحٍ فيه صورته وأجله وميثاقه وجميع شأنه..

هل من خالقٍ غير الله؟!

إذا تبيَّنَ ذلك.. فإنَّ ما ندَّعيه هو:

1. أنَّ الخلق بمعنى الإيجاد لا من شيء من مختصَّات الله تعالى، كإيجاد النور الأول.

2. أنَّ الاختراع والإبداع بمعنى الإيجاد بلا مثالٍ سابق من مختصات الله تعالى، سواءٌ كان ذلك خلقاً من شيء، كخلق السماوات من الماء على غير مثال سابق، أو كان خلقاً لا من شيء.

3. أنَّ خلق الاستحالة وهو خلقُ الشيء من شيء، كخلق الإنسان نطفة ثم علقة، وتبديلُ جوهر الشيء، هو أيضاً من مختصات الله تعالى.

4. أنَّ الخلق الذي نُسِبَ إلى عيسى عليه السلام، وإلى الملائكة، وإلى الأئمة عليهم السلام، والذي يمكن أن يثبت في المخلوق، هو خلقُ التقدير فقط.

ويتفرَّع على ذلك:

أنَّ الله تعالى هو الذي خلق الخلق كلَّه، يستوي في ذلك الخلق الذي أوجده لا من شيء، والخلق الذي خلقه مِن شيءٍ آخر، والخلق الذي غَيَّرَ جوهره وطبيعته وذاته من شيء إلى شيء، فهذا كلُّه من مختصات الله تعالى.

فالله تعالى هو خالقُ النّور الأول، نور النبيِّ صلى الله عليه وآله..

وخالق أهل بيته من نوره..

وخالق شيعتهم من نورهم عليهم السلام (الأمالي للطوسي ص655).

وهو الخالق لكلِّ مخلوق.. من عَرشٍ ولوحٍ وقلمٍ وماء.. وسماء وأرض.. وإنسٍ وجنّ.. لا يشركه في ذلك أحدٌ من خلقه.

ثانياً: ما الدليل على اختصاص الخلق بالله تعالى؟

إنَّ الأدلة على اختصاص الخلق بالله تعالى كثيرةٌ.. بعد استثناء خلق التقدير الذي ثبت أيضاً للملائكة والأنبياء.. وهي على طوائف:

1. فمنها ما دلُّ على اختصاص الخلق بالله تعالى.. وامتناع ثبوته لغيره تعالى.. فإذا تمَّت هذه الطائفة لا تصل النوبة للبحث في وقوع الخلق من غيره تعالى، فهذا بحثٌ ثبوتيّ.

2. ومنها ما دلَّ على أنَّ الله تعالى هو خالق كلّ شيء في عالم الإثبات، أي أنَّه بغض النظر عن عدم إمكان وقوع الخلق من غيره، فإنَّ الدليل قائمٌ على أنَّه تعالى وحده هو الذي خلق الخلائق جميعها.

3. ومنها ما دلُّ على أنَّ الأئمة عليهم السلام مخلوقون مثلنا وليسوا خالقين لنا.. فحتى لو كان وقوع الخلق منهم ممكناً، إلا أنهم ليسوا هم مَن خَلَقَنا.

ومن هذه الأدلة:

1. ظواهر الآيات المباركة

فقد دلَّت آياتٌ كثيرة أنَّ الله تعالى هو خالقُ كلِّ شيء، كقوله تعالى: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الزمر62).

وقوله تعالى: ﴿ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكيلٌ﴾ (الأنعام102).

وقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ (فاطر3).

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَميعاً ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَليمٌ﴾ (البقرة29).

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ في‏ سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ العالَمينَ﴾ (الأعراف54).

ووجه الإستدلال بها واضحٌ، فهي تثبت أنَّ الله تعالى خالق كلِّ شيء، بما في ذلك السماوات والأرض وما فيهنّ..

على أنَّ آية سورة الرَّعد أصرحُ دلالة، فإنَّها تثبت أن من نَسَبَ الخلق إلى أحدٍ من المخلوقات فقد جعله شريكاً لله تعالى! والله هو الخالق وحده، قال تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهَّار﴾ (اعتقادات الإمامية ص100).

2. أنا المتفرد بخلق كل شيء

لقد روي عنهم عليهم السلام عن الله تعالى في خطابٍ قدسيٍّ يعظ به الله تعالى نبيَّه عيسى عليه السلام:

يَا عِيسَى أَنَا رَبُّكَ وَرَبُّ آبَائِكَ، اسْمِي وَاحِدٌ وَأَنَا الأَحَدُ المُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَكُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنْ صُنْعِي، وَكُلٌّ إِلَيَّ رَاجِعُونَ، يَا عِيسَى أَنْتَ المَسِيحُ بِأَمْرِي، وَأَنْتَ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي، وَأَنْتَ تُحْيِي المَوْتَى بِكَلَامِي، فَكُنْ إِلَيَّ رَاغِباً، وَمِنِّي رَاهِباً (الكافي ج‏8 ص131).

فقوله تعالى: (وَأَنَا الأَحَدُ المُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَكُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنْ صُنْعِي) صريحٌ في أنَّ الله تعالى وحده هو الخالق لكلّ شيء، أما خلقُ عيسى عليه السلام للطير فهو من صنفٍ آخر كما تقدَّم.

ومثله ما في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام: الحمد لله الذي تَوَحَّدَ بصنع الأشياء، وفطر أجناس البرايا على غير مثال سبقه في انشائها (إثبات الوصية ص127).

3. ما من خالقٍ إلا الله وحده

روي في الخبر عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابنا أنه قال للصادق عليه السلام:

زَعَمَ أَبُو هَارُونَ المَكْفُوفُ‏ أَنَّكَ قُلْتَ لَهُ:

إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ القَدِيمَ فَذَاكَ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ فَذَاكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ!

أي أنَّ الراوي ينقل عن أبي هارون أنَّ الإمام الصادق ينسب الخلق لأبيه الباقر عليه السلام!

فقال الإمام الصادق عليه السلام:

كَذَبَ عَلَيَّ! عَلَيْهِ لَعْنَةُ الله!

والله مَا مِنْ خَالِقٍ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حَقٌّ عَلَى الله أَنْ يُذِيقَنَا المَوْتَ، وَالَّذِي لَا يَهْلِكُ هُوَ الله خَالِقُ الخَلْقِ بَارِئُ البَرِيَّةِ (رجال الكشي ص222-223).

والرواية صريحةٌ في اختصاص الخلق بالله تعالى (والله مَا مِنْ خَالِقٍ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ).

وفيها إشارةٌ إلى التلازم بين الأزلية والأبدية وبين الخالقية، بمعنى أنَّ الذي يتَّصف بالخلق والرزق هو الإله الأزلي الذي لا يصيبه التغيُّر والتبدُّل والهلاك.. وهو الله وحده دون سواه..

فيكون فيها إشارةٌ إلى دليلٍ عقليٍّ على اختصاص الخلق بالله تعالى.

ومفاده أنَّه لو ثبت الخلق للأئمة لثبت كونهم آلهة.. لا يصيبهم الهلاك.. والحال أنَّهم مخلوقون، وأنَّ الله هو الخالق لهم، وأنه أحياهم ويميتهم.

وفي اختصاص الخلق به تعالى روايات كثيرة أخرى:

منها ما روي عن الصادق عليه السلام: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْ‏ءٍ مَا خَلَا الله فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالله خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ (الكافي ج1 ص83).

ومنها ما في الدُّعاء المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً الله تعالى: كُنْتَ قَبْلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَكَوَّنْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ، وَقَدَرْتَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَابْتَدَعْتَ كُلَّ شَيْ‏ء (مهج الدعوات ص124).

ومنها دعاء الإمام الصادق يوم عرفة: أَنْتَ الْكَائِنُ قَبْلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَالمُكَوِّنُ لِكُلِّ شَيْ‏ء (إقبال الأعمال ج1 ص371).

4. لا يُكَوِّنُ الشيء إلا الله

روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن الصادق عليه السلام أنَّه قال:

فِي الرُّبُوبِيَّةِ العُظْمَى وَالإِلَهِيَّةِ الكُبْرَى:

1. لَا يُكَوِّنُ الشَّيْ‏ءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا الله.

2. وَلَا يَنْقُلُ الشَّيْ‏ءَ مِنْ جَوْهَرِيَّتِهِ إِلَى جَوْهَرٍ آخَرَ إِلَّا الله.

3. وَلَا يَنْقُلُ الشَّيْ‏ءَ مِنَ الوُجُودِ إِلَى العَدَمِ إِلَّا الله (التوحيد ص68).

وهذا الخبر يكشف عن اختصاص هذه الأمور الثلاثة بالله تعالى، فلا يوجِدُ الأشياء ولا يُعدِمُها ولا يحوِّلها من جوهرٍ إلى آخر إلا الله تعالى.

وهذا كما يشمل خلق الاختراع والإبداع والإحداث لا من شيء، أو من شيء، يشمل خلق الاستحالة والتغيير من شيءٍ إلى آخر.. كخلق الإنسان من نطفة ثم مضغة ثم علقة.. وأمثال ذلك..

أو كتغيير جوهر العصا إلى حيَّة في قصة نبيِّ الله موسى عليه السلام، عندما نودي في البقعة المباركة من الشَّجرة.. ولقد استحالت العصا: فَإِذَا حَيَّةٌ مِثْلُ الْجِذْعِ، لِأَسْنَانِهَا صَرِيرٌ، يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ لَهَبِ النَّارِ، فَوَلَّى مُوسَى مُدْبِرا (كمال الدين ج1 ص151)، أو استحالتها مرَّة أخرى وأكلها لعصيِّ السحرة، فإنَّ المغيِّرَ لها هو الله تعالى.

ومثلها الأسد المُصوَّر على بعض السُّتور، عندما أمره الإمام الرضا عليه السلام: يَا أَسَدَ الله، خُذْ عَدُوَّ الله.. فَوَثَبَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ كَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ السِّبَاعِ فَافْتَرَسَتْ ذَلِكَ المُعَزِّم‏ (الأمالي للصدوق ص148).

وما رُوي في تَحَوُّل التراب ذهباً في يد من أمره أمير المؤمنين بضرب التُّراب يده، وقال له عليه السلام: ِ قَدْ أَذِنَ الله بِقَضَاءِ دَيْنِكَ.. اضْرِبْ بِيَدِكَ إِلَى مَا تَشَاءُ مِمَّا أَمَامَكَ فَتَنَاوَلْهُ، فَإِنَّ الله يُحَوِّلُهُ فِي يَدِكَ ذَهَباً إِبْرِيزاً (تفسير الإمام العسكري ص101).

فالمحوِّلُ والمغيِّرُ والمبدِّلُ للجواهر هو الله تعالى وحده.

ويؤيَّدُ هذا الخبرُ بنصوصٍ كثيرةٍ دالةٍ على أنَّ المخلوق يكشفُ أنَّ له خالقاً غيرَ مخلوق.. ولو كان الأئمة هم الخالقون لكانوا غير مخلوقين.. وهو باطلٌ بلا ريب..

ومن هذه النصوص ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: لِشَهَادَةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَحْدُود مَخْلُوقٌ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنَّ لَهُ خَالِقاً لَيْسَ بِمَخْلُوق‏ (الأمالي للمفيد ص254).

فهو صريحٌ في أنَّ الخالق لا يمكن أن يكون مخلوقاً.

وفي نصٍّ آخر: وَشَهَادَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنَّ لَهُ خَالِقاً لَيْسَ بِصِفَةٍ وَلَا مَوْصُوفٍ (التوحيد للصدوق ص35).

أي أنَّ كلَّ مخلوقٍ يشهد لخالقه أنَّ صفاته عين ذاته، وهو من مختصات الله تعالى، فيكون المخلوق شاهداً على ألوهيَّة خالقه..

ومن ذلك ما دلَّ على أنَّ الفاطر لا بدَّ أن يكون قديماً، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنه تعالى: مُسْتَشْهِدٌ بِكُلِّيَّةِ الْأَجْنَاسِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، وَبِعَجْزِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ، وَبِفُطُورِهَا عَلَى قِدْمَتِه‏.. كَفَى بِإِتْقَانِ الصُّنْعِ لَهَا آيَةً.. وَبِحُدُوثِ الْفِطَرِ عَلَيْهَا قِدْمَة (التوحيد ص71).

ومن ذلك ما دلَّ على أن الذي يجوهر الجواهر لا بدَّ أن يكون فوق الجواهر لا مثلها، وهو الله وحده.. ففي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام:

بِتَشْعِيرِهِ المَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ، وَبِتَجْهِيرِهِ الجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لَا جَوْهَرَ لَه‏..

إلى أن يقول أنَّ المخلوقات: شَاهِدَة بِغَرَائِزِهَا أَنْ لَا غَرِيزَةَ لِمُغْرِزِهَا.. (الكافي ج1 ص139).

ومثله قوله عليه السلام: بِإِنْشَائِهِ الْبَرَايَا عُلِمَ أَنْ لَا مُنْشِئَ لَهُ (تحف العقول ص64).

وقد دلَّت هذه الأحاديث على أنّ كلَّ صفةٍ في الموجود لا بدَّ أن لا تكون في الموجِد.. وعن كون حقيقة الخالق غير مشابهةٍ ولا مشاكلةٍ لحقيقة المخلوق بحال.. وهو نقيضُ ما يذهب إليه بعضهم من ثبوت السنخية بين الخالق والمخلوق.. بل الحقُّ عدم ثبوتها أبداً بين الله تعالى وبين خلقه، إذ لا شيء من صفات الخالق يوجد في المخلوق.

فالمخلوق يكشف عن غنى خالقه، وأزليته، وعن كونه منزَّها عن كلّ ما في الخلق، وعن أنَّه لا خالق له.. وكلُّ هذا من مختصات الله تعالى، لا يشاركه فيه أحد قطّ.

ومثله ما دلَّ على أن الأفول يكشف أن الخالق لا يأفل.. كما في حديثه عليه السلام عن الأشياء: جَعَلَهَا سُبْحَانَهُ دَلَائِلَ عَلَى رُبُوبِيَّتِه‏.. وَيُعْلِنَّ بِأُفُولِهِنَّ أَنْ لَا أُفُولَ لِخَالِقِهِن‏ (تحف العقول ص65).

وليس هذا الخالق إلا الله تعالى.

ومثله في الصراحة قول الإمام الرضا عليه السلام: وَكَيْفَ يُنْشِئُ الْأَشْيَاءَ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ الإِنْشَاءِ؟! إِذاً لَقَامَتْ فِيهِ آيَةُ المَصْنُوع!‏ (التوحيد للصدوق ص40).

وهو نصٌّ في أنَّ الذي ينشئ الأشياء ويخلقها ويصنعها لا بدَّ أنَّ لا يكون مثلَها مصنوعاً مخلوقاً.. فالذي يكون مصنوعاً لا يمكن أن يكون صانعاً بحال.

وفي النصوص أيضاً ما دلَّ على أنَّ مُكيِّفَ الأشياء لا كيف له، وليس إلا الله سبحانه وتعالى، فعن أمير المؤمنين عليه السلام:

حَارَتِ الْأَوْهَامُ أَنْ يُكَيِّفَ المُكَيِّفَ لِلْأَشْيَاء، ِوَمَنْ لَمْ يَزَلْ بِلَا مَكَانٍ، وَلَا يَزُولُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَان‏.. عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَمَعَانِي الْخَلْقِ عَنْهُ مَنْفِيَّة (بحار الأنوار ج4 ص294).

وفي بعض نسخ خطبة المتقين لأمير المؤمنين عليه السلام:

وَكُلُّ عَاجِزٍ فَمُضْطَرٌّ إِلى معُجْزِهِ، وَكُلُّ جِسْمٍ دَالٌّ عَلى مؤُلَفِّهِ، في ضَرُورَةِ [حَاجَةِ] الأَعْرَاضِ إِلى مُعْرِضِهَا، وَذَوَاتِ الأَجْسَامِ إِلى مُؤَلِّفِهَا، وَالمُوجِدِ لِتَجْديدِهَا وَتَجْسيمِهَا.

دَالَّةٌ عَلى حُدُوثِ فِطْرَتِهَا وَنَشَأَةِ صَنْعَتِهَا عَنْ إيجَادِ مَوْجُودٍ مُتَقَدِّمٍ فِي الأَزَلِ لَهَا..

تَدُلُّ بِحَالَاتِهَا الْخَمْسِ: مِنْ عَدَمِهَا، وَوُجُودِهَا، وَبَقَائِهَا، وَتَقَلُّبِهَا، وَفَنَائِهَا، ضَرُورَةً عَلى صَنْعَةِ وَاحِدٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ إِلى عَدَدِهَا، وَلَا مُشَاكِلٍ لَهَا في ذَوَاتِهَا..

فَجَلَّ مُوجِدُهَا عَنْ صِفَاتِهَا وَتَنَاهي غَايَاتِهَا، وَتَعَالى عُلُوّاً كَبيراً (تمام نهج البلاغة ص189).

فحدوث المحدَثات يدلُّ على أن مُحدِثَها أزليٌّ.. وليس إلا الله تعالى.. ويدلُّ على عدم المشاكلة بينه وبينها في الذوات.. وليس ذلك إلا لله سبحانه وتعالى..

5. يسألون الله فيخلق ويرزق

روى الشيخ الطوسي عن أَحْمَدَ الدَّلَّالُ القُمِّيُّ قَالَ: اخْتَلَفَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ فِي أَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ إِلَى الأَئِمَّةِ (ع) أَنْ يَخْلُقُوا أَوْ يَرْزُقُوا.

1. فَقَالَ قَوْمٌ هَذَا مُحَالٌ، لَا يَجُوزُ عَلَى الله تَعَالَى، لِأَنَّ الأَجْسَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِهَا غَيْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ.

2. وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الله تَعَالَى أَقْدَرَ الأَئِمَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَفَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ فَخَلَقُوا وَرَزَقُوا.

وَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ تَنَازُعاً شَدِيداً.

فَقَالَ قَائِلٌ: مَا بَالُكُمْ لَا تَرْجِعُونَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ فَتَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ فَيُوَضِّحَ لَكُمُ الحَقَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ الطَّرِيقُ إِلَى صَاحِبِ الأَمْرِ عَجَّلَ الله فَرَجَهُ.

فَرَضِيَتِ الجَمَاعَةُ بِأَبِي جَعْفَرٍ وَسَلَّمَتْ وَأَجَابَتْ إِلَى قَوْلِهِ.

فَكَتَبُوا المَسْأَلَةَ وَأَنْفَذُوهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ تَوْقِيعٌ نُسْخَتُهُ:

إِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الأَجْسَامَ وَقَسَمَ الأَرْزَاقَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا حَالّ فِي جِسْمٍ.

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ.

وَأَمَّا الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الله تَعَالَى فَيَخْلُقُ، وَيَسْأَلُونَهُ فَيَرْزُقُ، إِيجَاباً لِمَسْأَلَتِهِمْ وَإِعْظَاماً لِحَقِّهِمْ (الغيبة ص294).

وفي كلام سفير الإمام الخاص وبابه في زمن الغيبة الصغرى فائدتان:

الأولى: أنَّ الله تعالى هو خالق الأجسام، وأنَّ الأئمة لا يخلقون، بل يسألون الله تعالى فيخلق.

الثانية: أنَّ خالق الأجسام لا يصحُّ أن يكون جسماً ولا حالّاً في جسم، فلا يكون الخالق إلا تعالى، الذي ليس كمثله شيء، فليس لمن كان جسماً أن يخلق جسماً، وهذا بنفسه محالٌ بحكم العقل.

6. من زعم أن إلينا الخلق.. فنحن منه براء

لقد تبرَّأ الإمام الرضا عليه السلام ممَّن زعم أن الخلق يعود إليهم.. فكان عليه السلام يقول في دعائه:

اللهمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَنَا مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ.

اللهمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا فِينَا مَا لَمْ نَقُلْهُ فِي أَنْفُسِنَا.

اللهمَّ لَكَ الخَلْقُ وَمِنْكَ الأَمْرُ، وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.

اللهمَّ أَنْتَ خَالِقُنَا وَخَالِقُ آبَائِنَا الأَوَّلِينَ وَآبَائِنَا الآخِرِينَ.

اللهمَّ لَا تَلِيقُ الرُّبُوبِيَّةُ إِلَّا بِكَ، وَلَا تَصْلُحُ الإِلَهِيَّةُ إِلَّا لَكَ، فَالعَنِ النَّصَارَى الَّذِينَ صَغَّرُوا عَظَمَتَكَ، وَالعَنِ المُضَاهِينَ لِقَوْلِهِمْ مِنْ بَرِيَّتِكَ.

اللهمَّ إِنَّا عَبِيدُكَ وَأَبْنَاءُ عَبِيدِكَ، لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً.

اللهمَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّنَا أَرْبَابٌ فَنَحْنُ إِلَيْكَ مِنْهُ بِرَاءٌ.

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَيْنَا الخَلْقَ، وَعَلَيْنَا الرِّزْقَ فَنَحْنُ إِلَيْكَ مِنْهُ بِرَاءٌ كَبَرَاءَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ النَّصَارَى (اعتقادات الإمامية للصدوق ص100).

والحديث صريحٌ في نفي نسبة الخلق إليهم، والبراءة ممَّن نسب ذلك لهم، وأنَّ الخلق لله تعالى وحده، وأن ذلك لا يليق إلا به تعالى.

على أنَّ هناك إشارة في الأحاديث إلى الملازمة بين الخلق والعبودية.. كما في حديث الصادق عليه السلام: فَوَ الله مَا نَحْنُ إِلَّا عَبِيْدُ الَّذِي خلقنَا وَاصْطَفَانَا، مَا نَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، إِنْ رُحِمْنَا فَبِرَحْمَتِهِ وَإِنْ عُذِّبْنَا فَبِذُنُوبِنَا (رجال الكشي ص225).

وعنه عليه السلام: لَعَنَ الله مَنْ أَزَالَنَا عَنِ العُبُودِيَّةِ لله الَّذِي خَلَقَنَا، وَإِلَيْهِ مَآبُنَا وَمَعَادُنَا، وَبِيَدِهِ نَوَاصِينَا (رجال الكشي ص223).

فالخالق يستحقُّ أن يُعبد.. وليس من مستحقٍّ للعبادة إلا الله، فلا خالق إلا الله تعالى.

7. إحراق أمير المؤمنين لمن قال بأنه إله خالق

لقد زعم قومٌ أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ربهم، وهو الذي خلقهم ويرزقهم.. فدخلوا عليه وقالوا: إِنَّكَ رَبُّنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَنَا وَأَنْتَ الَّذِي تَرْزُقُنَا!

فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ لَا تَفْعَلُوا، إِنَّمَا أَنَا مَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ (رجال الكشي ص72 و308).

ولمّا بيَّنَ لهم وأصروا على قولهم قذفهم عليه السلام في النار عقاباً لهم على قولهم!

وقد عاقبهم الإمام لأمرين: الأول اعتقادهم بأنه ربٌّ، والثاني اعتقادهم أنه خالق رازق.. ولم يقل لهم أنّه خالق رازق لكنه ليس رباً.. بل قال أنّه مخلوق مثلهم.. فلا يكون رباً.. وفيه إشارة أيضاً إلى الملازمة بين الخالقية والربوبية العظمى.. كما تقدَّم في أحاديث أخرى.

8. أنَّ الأئمة شهدوا الخلق حين خلقه الله

أي أنَّ الله تعالى خلق النبي والأئمة عليهم السلام قبل خلق الخلق، ثم أشهدهم خلق الخلق، فلم يكونوا هم الذين خلقوا الخلق.. بل كانوا شاهدين على ذلك.. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة..

منها ما روي عن الإمام الجواد عليه السلام:

إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا الفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا (الكافي ج1 ص441).

وعن الصادق عليه السلام: كُنَّا عِنْدَ رَبِّنَا لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرُنَا فِي ظُلَّةٍ خَضْرَاءَ، نُسَبِّحُهُ وَنُقَدِّسُهُ وَنُهَلِّلُهُ وَنُمَجِّدُهُ، وَمَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا ذِي رُوحٍ غَيْرُنَا، حَتَّى بَدَا لَهُ فِي خَلْقِ الأَشْيَاءِ، فَخَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ مِنَ المَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَنْهَى عِلْمَ ذَلِكَ إِلَيْنَا (الكافي ج1 ص441).

فهم شاهدون على فعل الله تعالى (خلق الخلق)، لا فاعلون له.

تذييل: لماذا لا يخلقون بإذن الله؟

إن قيل:

لا يصحُّ أن يخلق النبيّ والأئمة عليهم السلام بقُدرَتِهِم، ولكن يمكن لله عزَّ وجلّ أن يعطيهم القدرة، فيكون إقدامهم على الخلق بإذن الله وإقداره وإرادته.

قلنا:

لقد تبيَّنَ بما عرضناه أنَّ الخلق من مختصات الله تعالى، وما كان من مختصاته تعالى لا يمكن أن يُعطى لأحد.

فالمانع هنا عقليٌّ لا يمكن تخصيصه.

فكما لا يصح أن يجعل الله النبيَّ والأئمة آلهةً وأرباباً يُعبَدون..

كذلك لا يمكن أن يكونوا خالقين، لثبوت الملازمة بين الخلق والألوهية والربوبية، والأزلية، والتنزُّه عن المشابهة والوصف..

وقد تقدَّمت نصوصٌ عدَّة في هذا المعنى، وهناك نصوصٌ أخرى منها ما ورد أنَّ الربَّ الخالق لا يوصف: وَالرَّبُّ هُوَ الخَالِقُ الَّذِي لَا يُوصَفُ (بصائر الدرجات ج1 ص77).

وأنه الذي لا يهلك ولا شريك له: وَالَّذِي لَا يَهْلِكُ هُوَ الله خَالِقُ الخَلْقِ بَارِئُ البَرِيَّةِ (رجال الكشي ص222-223).

وأنه لا يكون له جسم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الأَجْسَامَ وَقَسَمَ الأَرْزَاقَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ (الغيبة ص294).

وأنه هو الأزلي إذ كان قد أحدَثَ المحدَثات: الحَمْدُ لله الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِه‏ (نهج البلاغة).

الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِه‏ (الكافي ج1 ص139).

مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِه‏ (نهج البلاغة)

هذه جملةٌ من الأدلة التامَّة على استحالة كون المخلوق خالقاً، واختصاص ذلك بالله تعالى.

ثالثاً: هل هناك دليلٌ على أن الإمام يخلق؟!

قد يُقال بأنَّ هناك أدلَّةً تخالف ما تقدَّم، وتوجب علينا أن نقبل كون النبي والأئمة خالقين بإذن الله..

فتُحمَل الأدلة المانعة المتقدِّمة على التفويض بمعنى استقلال النبي والإمام بالخلق دون الله، ويثبت أن النبي والأئمة لهم القدرة على الخلق، بل أنهم هم من خلق الخلق بإذن الله!

لكن قد تبيَّنَ لك بطلان ذلك قريباً.. لاستحالة كون المخلوق خالقاً.

على أنَّ المتأمِّل فيما يُنشر اليوم.. ويُطبع.. ويُقال.. ويُبَثّ.. لإثبات خالقيتهم.. يستندُ في (بعض الأحيان) إلى جملةٍ من كتب الغلاة! ككتاب الهفت والأظلة! وسلسلة التراث العلوي!

والعجب من الاستدلال بهذه الكتب.. التي تتضمن الكفر الصريح..

ففي كتاب الهَفت يصيرُ الحسين عليه السلام هو الله! (والعياذ بالله) حيث يُنسَبُ فيه لجبرائيل قوله للحسين عليه السلام:

أنت الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم والمميت والمحيي!! (كتاب الهفت ص97).

أما الاستدلال (بسلسلة التراث العلوي)، فلا يقلّ غرابةً عن ذلك.. وقد استُدلَّ ببعض الكتب التي طُبِعَت فيها كرسائل الحكمة الطويّة، وكتاب الطاعة، وكتاب المشيخة..

ومما نسب فيها إلى أمير المؤمنين عليه السلام قوله في مواطن مختلفة:

أنا خلقت الخلق.. أنا صانع سائر المصنوعات.. أنا الخالق.. أنا منشئ الأشياء!

أنا مؤين الأين، ومكيف الكيف، ومحيث الحيث، وخالق سائر المخلوقات، وصانع سائر المصنوعات!

أنا الذي خلقت الإنس والجن وأبديتهم.. عليَّ دلَّت الرُّسل، وبتوحيدي نطقت الكتب!

أنا الذي أبديت عرشها من نور ذاتي واستويت عليه، وأوسعت الكرسي بقدرتي، وخلقت اللوح وأجريت القلم.. أنا الذي بسطت الأرض ورسيت الجبال!

إني كنت ولا مكان ولا عصر ولا زمان ولا دهر ولا أوان، ولا خلق ولا بشر، ولا كيف ولا حيث، فمن قال أين؟ فقد جعلني في مكان! وقد كنت محصوراً وأوقع عليّ العجز، ولا يعجز إلا المخلوق، وأنا الخالق!

مثلُ هذه الكلمات صريحةٌ في نسبة التوحيد للإمام دون الله تعالى! وهو كفرٌ محضٌ.. يصيرُ القائل به شَرَّاً من اليهود والنصارى..

ثم وجدنا من يستدلُّ أيضاً بكتب المتصوِّفة السُّنة.. ككتاب (مناقب مرتضوي)، الذي ينتمي مؤلفه إلى السلسلة القادرية في الهند.. وينسب فيه لأمير المؤمنين قوله: أنا داحي الأرضين.. أنا منشئ الملكوت والكون.. وأمثال ذلك..

وكذا وجدنا من يستدلُّ ببعض الكتب التي لم تصحّ نسبتها لأصحابها، أو ثبت كونها من الكتب المنحولة أو غير المعتبرة..

أو إلى المرويات التي ثبت بطلانها أو كذبها..

أو إلى نصوصٍ لا تدلُّ على المُدَّعى..

وعلى كلٍّ.. فقد يُستدلُّ لكون الأئمة خالقين بأدلةٍ منها:

1. تبارك الله أحسن الخالقين

لقد دل القرآن الكريم على تعدُّد الخالِقين، فقال تعالى: ﴿فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الخالِقين‏﴾ (المؤمنون14).

ما يعني أنَّه ليس هناك ما يمنع من أن يكون الأئمة من الخالقين.. فإذا ضممنا إلى ذلك تفضيلهم على كلّ الخلق في كل المناقب، ثبت أنهم يخلقون كما يخلق من عداهم وأكثر.

والجواب عليه:

ما تَقَدَّمَ من أنَّ الخلق فيما سوى الله تعالى هو خلق تقدير وليس خلق تكوين.. فلا يصح الاستدلال بالآية على المُدَّعى.

وقد سئل الإمام الرضا عليه السلام عن ذلك فقيل له:

وَغَيْرُ الخَالِقِ الجَلِيلِ خَالِقٌ؟

قَالَ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ ﴿فَتَبارَكَ الله أَحْسَنُ الخالِقِينَ﴾، فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي عِبَادِهِ خَالِقِينَ، مِنْهُمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ خَلَقَ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِ الله، فَنَفَخَ فِيهِ فَصَارَ طَائِراً بِإِذْنِ الله، وَالسَّامِرِيُّ خَلَقَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوار (التوحيد ص63).

فمن مصاديق الآية عيسى عليه السلام، وخلقه خلق تقدير كما تقدَّم.

ومن مصاديقها السامريّ.. فقد صاغ عجلاً جسداً.. لكن الذي جعل فيه الخوار هو الله تعالى، فلم يكن السامريّ خالقاً بالمعنى الذي يُراد إثباته..

ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: في قول الله تعالى ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ﴾.

فقال موسى: يا رب ومن أخار الصنم [العجل‏]؟

فقال الله: أنا يا موسى أخرته‏ (تفسير العياشي ج2 ص29).

فلا تدلُّ الآية على المطلوب.

2. المَلَك الذي خلق السماوات والأرض

قد يُستدلُّ بما روي عن الباقر عليه السلام أنه قال:

إِنَّ اللَّهَ فَوَّضَ الأَمْرَ إِلَى مَلَكٍ مِنَ المَلَائِكَةِ فَخَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعَ أَرَضِينَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الأَشْيَاءَ قَدِ انْقَادَتْ لَهُ قَالَ: مَنْ مِثْلِي؟

فَأَرْسَلَ الله إِلَيْهِ نُوَيْرَةً مِنَ النَّارِ.. نَارٌ مِثْلُ الأَنْمُلَةِ، فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، فَتَخَبَّلَ لِذَلِكَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى نَفْسِهِ لمَّا أَنْ دَخَلَهُ العُجْبُ (‏المحاسن ج‏1 ص123).

بتقريب أنَّه إذا ثبت أن الملك قد صنع سبع سماوات وسبع أرضين، وكان النبيّ والأئمة أفضل من الملائكة، ثبتت قدرتهم على الخلق أيضاً.

والجواب عليه:

أنَّه موقوفٌ أيضاً على أن يكون المراد من الخلق هنا الإحداث..

قال الشيخ المجلسي: لعل المراد بخلق الملك أن الله تعالى خلقها عند إرادة الملك (بحار الأنوار ج‏4 ص150).

وهو ما احتمله الحرّ العاملي أيضاً..

ثم أضاف احتمالاً آخر فقال: أو أنَّ المراد احداث صورة خاصة لا احداث جوهر أو جسم، لأن الله هو المتفرد بخلقهما، والصورة لا يمتنع صدوره عن غير الله كالحركات، ألا ترى أن البناء يبني الدار، والنجار يصنع السرير فيصدر عنهما صورة، وكذلك الطاعات والمعاصي انما هي اعراض وحركات، كذا قيل (الفصول المهمة ج1 ص258).

وقال في محلٍّ آخر: أن الخلق له معان متعددة، فلعلَّ معنى المنفي غير معنى المثبت، فالخلق بمعنى إنشاء صورةٍ خاصة ونحو ذلك من الأعراض كالصور التي كان يضعها عيسى عليه السّلام من الطين، وكالصور التي يضعها أحدنا من طين أو شمع أو غيرهما، فإن الصورة من الاعراض، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الله هو المخصوص بخلق الأجسام والأرواح والعقول وغيرها (الفوائد الطوسية ص277).

فيكون المُراد أنَّ المَلَك قد قدَّرَ صورةً للسماوات والأرض.. أو لما فيهما.. والخالق لهما هو الله تعالى.. لأنَّ العقل والنقل يمنع من أن يكون المخلوق خالقاً، فيتعيَّن أن يكون هذا هو المُراد من الخلق.

ويكون الخلق هنا على وزان قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران59).

بتقريب أنَّ الخلق هنا ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ﴾ ليس إيجاداً، لأنَّه أعقبه بـ(كُن)، ولو كان خلق إيجاد لصارَ موجوداً وما احتاج إلى (كُن) ليكون.. بل هو خلقُ تقديرٍ من تُراب، أعقبه الإيجاد (كُن).

وفي بعض التفاسير: والمعنى: خلق قالبه من التراب، ثُمَّ قالَ لَهُ ﴿كُنْ﴾ أي أنشأ بشراً كقوله ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ وقدّر تكوينه من التراب ثم كوّنه ﴿فَيَكُونُ﴾ أي فكان في الحال (تفسير الصافي ج‏1 ص343).

فيكون خلق الملك تقديراً وتصويراً، والخالق هو الله تعالى الذي يقول للشيء (كُن) فيكون.

وهذا المعنى هو المتعيِّنُ، لاختصاص خلق الإيجاد والاستحالة بالله تعالى.

وقد قال أميرُ المؤمنين عليه السلام في وصف الملائكة في نهجه الشريف: ِ لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ، وَلَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِه‏ (نهج البلاغة).

فالملائكة أنفسهم يُقرُّون بانفراد الله تعالى بالخلق.. وإن قَدَّروا الجنين في بطن أمِّه بأمره تعالى.

3. الخلق بعد صنائعنا

قد يستدل على كونهم هم الخالقين بما ورد في التوقيع الشريف للإمام الحجة عجل الله فرجه، فقد ورد فيه: نَحْنُ صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالخَلْقُ بَعْدُ صَنَائِعُنَا (الغيبة للطوسي ص285).

ومثله حديث أمير المؤمنين عليه السلام: إِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا (نهج البلاغة).

بتقريب أنَّ الصُّنع هو الخلق.. فيكون الخالق لهم هو الله، وهم الخالقون لسائر المخلوقات.

والجواب عليه:

أنَّ الصَّنيعة في اللغة هي: ما اصطنعته من خير (معجم مقاييس اللغة ج3 ص313).

فيكون على وزان قوله تعالى لموسى عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْني﴾‏ (طه39)، وقوله تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي﴾‏ (طه41).

فالمراد غاية الإكرام والإحسان وإتيان الخيرات والاعتناء به.

لذا قال الشيخ المجلسي رحمه الله: فالمعنى أنه ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الوسائط بينهم وبين الله سبحانه. ويحتمل أن يريد بالناس بعض الناس أي المختار من الناس، نصطنعه ونرفع قدره‏ (بحار الأنوار ج33 ص68).

وهكذا سائر ما دل على أن الخلق صنيعتهم، فهم أهل الإحسان لسائر المخلوقات، وهم الوسائط بين الخلق وبين الله، وهذا أجنبيٌّ عن كونهم الخالقين، فلا يصح الاستدلال به.

4. أنه تعالى خلق الأشياء منهم أو بهم

قد يُستدلُّ على أنهم الخالقون بما دلَّ على أن الله تعالى خلق السماوات والأرض بكلمته، كما في دعاء السمات: وَبِكَلِمَتِكَ الَّتِي خَلَقْتَ بِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض‏.. (مصباح المتهجد ج1 ص417).

بضميمة ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: وَأَنَا كَلِمَةُ الله الَّتِي يَجْمَعُ بِهَا المُفْتَرِقَ وَيُفَرِّقُ بِهَا المُجْتَمِع‏ (مختصر البصائر ص132).

أو بما دلَّ على أنَّ الله تعالى خلق الخلق من أنوارهم، كرواية النبيِّ صلى الله عليه وآله حين يُسأل عن أول شيء خلق الله تعالى فيقول: نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ خَلَقَهُ الله ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْر (بحار الأنوار ج15 ص24)، ومثلها من الروايات..

والجواب عليه:

أنَّ هذه الروايات أجنبيَّة عن المُدَّعى، بل على عكسه أدلّ، فإنَّها تدلُّ على أنَّ الخالق هو الله تعالى، لكنَّ الخلق الذي أحدثه الله كان (بهم) أو (منهم)، فليس النبيُّ والإمام هو الخلاق، بل الله عزَّ وجل وحده هو الخالق.

5. أنَّ النبيَّ والإمام قائمٌ مقام الله

وأنَّ نيابته عن الله تعالى نيابة عامة في كلِّ شيء، بما في ذلك خلق الخلق!

وقد يستدل له بما ورد في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير:

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اسْتَخْلَصَهُ فِي الْقِدَمِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ، انْفَرَدَ عَنِ التَّشَاكُلِ وَالتَّمَاثُلِ مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ، وَانْتَجَبَهُ آمِراً وَنَاهِياً عَنْهُ، أَقَامَهُ فِي سَائِرِ عَالَمِهِ فِي الْأَدَاءِ مَقَامَهُ، إِذْ كَانَ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَلَا تَحْوِيهِ خَوَاطِرُ الْأَفْكَارِ (مصباح المتهجد ج2 ص753).

أو بما ورد في الزيارة: الْحَمْدُ لله الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِحُكَّامٍ يَقُومُونَ مَقَامَهُ لَوْ كَانَ حَاضِراً فِي المَكَان‏ (بحار الأنوار ج99 ص116).

فالنبي والإمام قائمٌ مقام الله بكلِّ شيء حتى الخلق والرزق والتدبير.

والجواب عليه:

أن ليس في هذه النصوص أيُّ دلالة على ذلك، بل تدلُّ على أنهم يقومون بالأداء عن الله تعالى، أي إيصال الرسالة وتبليغ الأوامر والنواهي.

أما في الخلق والتركيب، فهم مشاكلون للناس، كما في الحديث الشريف عن الأنبياء فإنهم: غَيْر مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لهُمْ فِي الخَلْقِ وَالتَّرْكِيبِ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الحَكِيمِ العَلِيمِ بِالحِكْمَةِ (الكافي ج1 ص168).

فهم يشتركون مع الناس في كونهم مخلوقين، محدَثين، ومن كان كذلك لا يصحُّ أن يكون خالقاً كما تقدَّم.

وهكذا خاطب الأنبياء أقوامهم: ﴿قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ (إبراهيم11).

فالأنبياء والأئمة مخلوقون لا خالقون، وهذه الروايات أجنبيَّة عن المطلوب.

6. أنهم المقصودون بالجمع في القرآن الكريم

بتقريب أنَّ ما كان في القرآن بصيغة الجمع فالمُراد منه النبيّ والأئمة عليهم السلام، وقد ورد الخلق بصيغة الجمع في آيات عدة: ﴿فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُراب‏﴾، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم‏﴾، فنستفيد أنهم هم الخالقون للإنسان.

والجواب عليه:

أنَّ هذه القاعدة وإن وردت في بعض المرويات الضعيفة، التي لا تورث علماً ولا توجب عملاً، فإنَّه (على فرض تماميتها) لا يمكن التمسُّك بعمومها لإثبات كونهم الخالقين، لأنَّه يلزم من ذلك أنَّهم الخالقون لأنفسهم! وهذا محال.

وتوضيح ذلك أنَّه قد ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾، أنهم: هُمُ الأَئِمَّةُ (بصائر الدرجات ج1 ص36).

فعلى هذا الوجه (أن المقصود بالجمع الأئمة) يكون الأئمة هم الخالقون للأئمة! يعني يكون الأئمة هم الخالقون لأنفسهم! وهذا مِنَ المُحالات!

فلا يصحُّ الاستدلال بهذا الوجه على كونهم الخالقين.

7. عليٌّ في البروج الأعلى يخلق الخلق!

ونختم بما يُنسب إلى فضة أنها قالت عن عليٍّ عليه السلام أنه في: البروج الاعلى، يقسم الارزاق، ويعين الاجال، ويخلق الخلق، ويميت ويحيي!

من ثم يُنسَب لأمير المؤمنين قوله عن السماء والأرض: ونحن خلقناهما، وخلقنا ما فيهما، وما بينهما، وما تحتهما! (صحيفة الأبرار ج3 ص239).

وليس للخبر وجودٌ في أمهات مصادرنا.. وقد حمله صاحب صحيفة الأبرار على أنهم وسائط الله بينه وبين خلقه..

لكنَّ غيره أبى وحَمَلَهُ على خَلق التكوين.. ولم يقبل كون الخلق فيه خلق تقدير، ولا أنهم الوسائط..

فعلى هذا يصير (فضلاً عن ضعفه) معارِضاً للأدلة العقلية والنقلية المتقدِّمة.. فلا يُعَوَّل عليه.

على أنَّ هناك روايات أخرى في غاية الضَّعف سنداً أو دلالةً.. نُعرِضُ عن ذكرها لأنَّ في ذلك إتلافاً للوقت والعمر..

بهذا يتبيَّن أنَّ الله تعالى وحده هو الخالق، وأنَّ نسبة الخلق إلى غيره من المحالات، وأنَّ الأئمة قد تبرَّؤوا ممَّن نسب لهم القول بالخالقية، وإن كانوا أعظم عباد الله تعالى، وأقربهم إليه.

جعلنا الله ممَّن يعرف قدرَهم، ويُعَظِّمُهم، فيزداد تعظيماً لله تعالى، خالقهم ورازقهم وخالقنا ورازقنا..

والحمد لله رب العالمين

الخميس 21 ذو القعدة 1445 هـ، الموافق 30 – 5 – 2024 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/05/30



كتابة تعليق لموضوع : ما من خالقٍ.. إلا الله
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net