صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

أعظَمُ الجُود.. في ذكرى الجواد (عليه السلام)!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
عاش الإمام الجواد عليه السلام في واحدٍ من أعقد الظروف السياسية والاجتماعية والدينية..
فقد نهض بأعباء الإمامة وهو ابن ثمان سنين.. فمَن يقبلُ من الناس اتِّباعَ إمامٍ ما بلغ عقداً من العُمُر؟!
 
من يتَّبعُ ابن ثمان سنين في ظِلِّ الدولة العباسية.. مترامية الأطراف.. التي يحكُمُها قاتلُ أبيه الرضا عليه السلام، الخليفة المأمون عليه لعائن الله..
وكما تظاهر قاتلُ أبيه عليه السلام بمحبَّته.. تَظَاهرَ المأمون بمحبَّة الإمام الجواد عليه السلام.. بل عَزَمَ على تزويجه ابنته أمّ الفضل!
 
فعندما تصيرُ تَوليةُ العَهدِ مَكيدةً من الخليفة.. ورفضُها حُجَّةً لقتل الإمام.. ألا تكونُ المصاهَرَةُ مَكيدةً أيضاً؟!
وكما اقتضت حكمة الإمام الرضا عليه السلام عدم رفض ولاية العهد، اقتضت حكمة الإمام الجواد عليه السلام الصمت عندما عرض عليه المأمون هذا الزَّواج..
 
زواجٌ أثار حفيظة البلاط العبَّاسي وأركانه، الذين لا يعلمون ما يدور في خلد خليفتهم من مؤامرات ودسائس.. كشفت الأحداث اللاحقة عن كثيرٍ منها.. عندما حاول المأمون اسقاط الإمام عليه السلام بكلِّ صورةٍ.. مما يخطر ولا يخطر على بال.. وظلَّت بعض خيوطها الأخرى خفيَّة حتى عُلِمَت بكيفية شهادة الإمام عليه السلام..
 
في هذه الأجواء.. وفي تلك الظروف المعقدَّة.. كان الإمامُ جَواداً..
أي مُجيداً.. مِعطاءً..
فأصل (الجود) يُرادُ منه: (الجَيِّد: نقيض الردي‌ء) (لسان العرب ج‌3 ص135‌).
والجودُ هو: (التَسَمُّحُ بالشيء، وكَثْرةُ العَطَاء) (معجم مقائيس اللغة ج‌1 ص493‌).
 
فإنَّ مَن أجاد.. هو الذي أتى بالجَيِّدِ من القول والفعل.. وهو المعطاء السخيّ..
وهكذا كان الإمام عليه السلام.. في أعلى مراتب الجود في أفعاله وأقواله.. وعطائه..
فصار إماماً جواداً.. وكلُّ الأئمة كذلك..
 
لقد سُئل الإمام الكاظم عليه السلام في الطواف عن الجواد.. فبيَّن أنَّه تارةً يُطلقُ على الخالق تعالى: فَهُوَ الجَوَادُ إِنْ أَعْطَى، وَهُوَ الجَوَادُ إِنْ مَنَعَ، لِأَنَّهُ إِنْ أَعْطَاكَ أَعْطَاكَ مَا لَيْسَ لَكَ، وَإِنْ مَنَعَكَ مَنَعَكَ مَا لَيْسَ لَكَ.
وتارةً يُطلقُ على المخلوق: فَإِنَّ الجَوَادَ الَّذِي يُؤَدِّي مَا افْتَرَضَ الله عَلَيْهِ (الكافي ج4 ص39).
 
لقد أكَّدَت الروايات على أنَّ السخيَّ هو الذي يبذل الحقَّ الذي أوجبه الله عليه، فيضعه في موضعه..
وتكثَّرَ مَدحُ الجواد المعطاء السخيِّ، الذي يبذل المال، ويطعم الطعام، ذو الكفّ المبسوط.. الموسع على عياله وأهله وأقربائه وسائر المؤمنين..
 
إنَّ هذا السخيَّ الجواد يصيرُ قريباً من الله تعالى.. ففي الحديث: السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ الله، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاس‏!
وفي الحديث: السَّخَاءُ شَجَرَةٌ فِي الجَنَّةِ، مَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا دَخَلَ الجَنَّة! (الكافي ج4 ص41).
 
وإذا كان الجود في اللغة (التَسَمُّحُ بالشيء)، فإنَّ السَّماحة عند أمير المؤمنين عليه السلام هي: الْبَذْلُ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْر (الكافي ج4 ص41).
 
الإمامُ عليه السلام أقرب الناس إلى الله تعالى، وهو بنفسه بابُ الجنَّة.. وهو إمام الجود والعطاء والسَّماحة..
فكان معطاءً في اليُسر والعُسر.. كما كان الأئمة الأطهارُ جميعاً..
 
ولمّا كان الجودُ جودَ الفعل وجودَ القَول.. جودَ العطاء بالمال.. وبالعلم..
ولمّا كان في الثاني حياة الأرواح.. والأديان..
صار الجواد بعلمه أعظم من الجواد بماله!
 
ولقد بَيَّنَ ذلك الإمامُ الجواد بأجلى بيانٍ.. حين قال عليه السلام:
مَنْ تَكَفَّلَ بِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدٍ:
1. المُنْقَطِعِينَ عَنْ إِمَامِهِمْ.
2. المُتَحَيِّرِينَ فِي جَهْلِهِمْ.
3. الْأُسَارَى فِي أَيْدِي شَيَاطِينِهِمْ وَفِي أَيْدِي النَّوَاصِبِ مِنْ أَعْدَائِنَا.
 
هذه أوصافُ أيتام آل محمدٍ عليهم السلام.. فهم المؤمنون المنقطعون عن إمامهم..
وكُلُّنا منقطعون عن إمامنا.. لا نعرف مكانه.. وليس لنا إلى لُقياه من سبيل..
نأملُ لقاءَه.. والتشرُّف بطلعته البهيَّة.. والاستغناء به عمَّن سواه.. فهو عين ماء الحياة..
 
إنَّ مِن هؤلاء الأيتام المنقطعين مَن أحكَمَ أصول دينه.. لكنَّ منهم من تحيَّرَ لجهله..
أوجب الله عليه التعلُّم.. لكنَّ الدُّنيا أخذته عن ذلك.. فتَحَيَّرَ وصار أسيراً.. عند شياطين الإنس والجنّ.. أعداء آل محمدٍ عليهم السلام..
ثمَّ جاءه مِنَ المؤمنين من تَكَفَّلَ به..
 
إنَّ كفالة الفقير تكون بتأمين حاجته من المال والطعام واللباس والدواء وغيرها.. لكنَّ كفالة الأسير في أيدي الشياطين تكون على نحوٍ آخر.. فمن تكفَّل بهؤلاء الأسارى:
1. فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْهُمْ.
2. وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ.
3. وَقَهَرَ الشَّيَاطِينَ بِرَدِّ وَسَاوِسِهِمْ.
4. وَقَهَرَ النَّاصِبِينَ بِحُجَجِ رَبِّهِمْ، وَدَلَائِلِ أَئِمَّتِهِمْ، لِيَحْفَظُوا عَهْدَ الله عَلَى الْعِبَادِ بِأَفْضَلِ المَوَانِعِ.
 
هذه هي حقيقة الكفالة.. في الحَرب الطاحنة مع أعدى أعدائنا.. إبليس ومردته..
حقيقة الكفالة بقهر هؤلاء النواصب الخبثاء، واستنقاذ المؤمنين وإخراجهم من أسر الجهل والشياطين.. ووضع الموانع أمام الشياطين ليعجزوا عن إضلال المؤمنين، ويثبت المؤمنون على عهد الله تعالى..
 
فمَن تكفَّلَ بهؤلاء الأسارى.. وأنقذهم، كان له من الفضل:
1. بِأَكْثَرَ مِنْ فَضْلِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ!
2. وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْحُجُبِ عَلَى السَّمَاءِ.
3. وَفَضْلُهُمْ عَلَى الْعِبَادِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَخْفَى كَوْكَبٍ فِي السَّمَاء (الإحتجاج ج1 ص17).
 
هذا شيءٌ من فضل علماء آل محمدٍ عليهم السلام.. في زمن الغيبة وفي كل آن..
أين الأرض من السماء.. وأين أخفى الكواكب من القمر ليلة البدر؟!
هكذا يكون الجودُ.. على لسان الجواد عليه السلام..
 
إنَّ علوم آل محمدٍ عليهم السلام هي أعظم ما يعطيه الله لعبدٍ في الدُّنيا.. كما يقول الجواد عليه السلام..
يقول عليه السلام في حديثٍ آخر: إِنَّ حُجَجَ الله عَلَى دِينِهِ أَعْظَمُ سُلْطَاناً يُسَلِّطُ الله بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ وَفَّرَ مِنْهَا حَظَّهُ، فَلَا يَرَيْنَ أَنَّ مَنْ مَنَعَهُ ذَلِكَ [قَدْ فَضَّلَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الشَّرَفِ وَالمَالِ وَالْجَمَالِ، فَإِنَّهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ‏] كَانَ قَدْ حَقَّرَ عَظِيمَ نِعَمِ الله لَدَيْهِ.
 
إنَّ بلوغ الذروة العليا من الشرف والمال والجمال.. ثمَّ الجود بكلّ ذلك لوجه الله تعالى.. لا يُساوي في الفضل عند الله تعالى دفع أعداء آل محمدٍ عليهم السلام عن شيعتهم.. ببثِّ العلم ونشره.. وتعليم المؤمنين.. وإنقاذ ضعفائهم.. ومعونتهم..
 
يقول الجواد عليه السلام:
وَإِنَّ عَدُوّاً مِنْ أَعْدَائِنَا النَّوَاصِبِ يَدْفَعُهُ بِمَا تَعَلَّمَهُ مِنْ عُلُومِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، لَأَفْضَلُ لَهُ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِمَنْ فَضَّلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِأَلْفِ ضِعْفِهِ (تفسير الإمام العسكري ص351).
 
إنَّ كلَّ جودٍ يصغُر أمام الجود بعلوم آل محمدٍ.. التي يُستنقذ بها العباد من الحيرة والضلالة والجهالة..
ولكنّ الجوادَ بماله وعلمه.. إن كان عاقلاً.. عَلِمَ أنَّه أحوجُ إلى اصطناع المعروف من أهل الحاجة..
فتواضَعَ معهم.. وأمامهم.. وجانَب التكبُّر.. ولم يطلُب منهم شُكراً.. ولا أراد منهم بَدَلاً.. فإنَّه إنَّما يُحسنُ لنفسه.. كما عَلَّمَهُ إمامُ الجُودُ.. الجواد عليه السلام..
 
فعنه عليه السلام: أَهْلُ المَعْرُوفِ إِلَى اصْطِنَاعِهِ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ الحَاجَةِ إِلَيْهِ!
أي أنَّ أهل المعروف.. كلُّ معروفٍ.. بما فيه الجودُ بالمال والعلم.. أهلُ المعروف هم أكثرُ حاجةً للمعروف من المحتاجين والفقراء وأهل الجهل!
 
كيف ذلك؟
يقول عليه السلام:
لِأَنَّ لهُمْ أَجْرَهُ وَفَخْرَهُ وَذِكْرَهُ: فمن كان من أهل المعروف كان الأجرُ له، والفخرُ له، وحُسن الذكر له.. فلماذا ينتظرُ مقابلاً وبدلاً من الناس.. وقد أعطاه الله أجره.. فإن يطلب الأجر منه تعالى لا من الناس..
 
قال الجواد عليه السلام:
فَمَهْمَا اصْطَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ مَعْرُوفٍ فَإِنَّمَا يَبْدَأُ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّ شُكْرَ مَا صَنَعَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ! (كشف الغمة ج‏2 ص347).
 
هذا مِن جُودِ الجواد عليه السلام وعلومه.. وما أعظمه من معنى..
الشُّكرُ واجبٌ.. فينبغي على المتلقي أن يشكر المُعطي..
لكنَّ المعطي ليس له أن يطلب شكراً.. فإنَّه قد أحسن لنفسه، قبل أن يُحسن لغيره..
وليس له أن يتكبَّر على عباد الله.. وأن يستذلَّهم..
 
هذا بعضٌ من جود الإمام.. الذي أجاد في قوله وفعله.. جُوداً نَحومُ حوله لنتعلَّم منه بقدرنا.. لا بقدره.. فهو الإمام الذي.. ضَلَّتِ الْعُقُولُ، وَتَاهَتِ الْحُلُومُ، وَحَارَتِ الْأَلْبَاب‏.. وَعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِهِ، أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِه‏..
 
ذاك الجَواد.. إمام الجُود والعطاء..
فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد مسموماً، ويوم يبعث حياً.
 
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/06/05



كتابة تعليق لموضوع : أعظَمُ الجُود.. في ذكرى الجواد (عليه السلام)!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net