الإمامةُ أصلٌ مِن أُصول الدين
د . اكرم جلال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الإمامَة
د . اكرم جلال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الإمامُ الحجّة (عَلَيْهِ السَّلامُ) هوَ نِعْمَةٌ إلهيّة كُبرى، فوجوده مُرتبط بجميع موجودات عالم الإمكان، وأنَّ مَنْ أراد التزوّد مِن عَظيم بركاته وجَمال فيوضاته المقدّسة فلا بُدَّ لَهُ مِنَ الإرتباط به، وهذا الإرتباط لا يُدرك إلا مِن خلال التدرّج في مقامات معرفته؛ وهذه المعرفة هي السبيل لبلوغ مراتب الكمال، وهي الدليل نحو إدراك مقامات التزّود من منبع كَرَمه وَبَركات دعائه، ومما يُستدلّ به في هذا الأمر من الأدلّة الصريحة هو الحديث المتواتر المَروِيّ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ". 1، والمؤمن الرسالي المُنتَظِر كلّما تعمّق في معرفة الإمام وازداد ارتباطه به كلما تَدَرَّج في مراتب الكمالات وبَلَغَ من القُرب الإلهي أعلى المقامات، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: ( لا يقبل الله من العباد عملاً إلّا بمعرفتنا 2).
مَفهومُ الإمامة
قالَ اللهُ تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾[الإسراء: 72].
في هذه الآية المباركة وَرَدَت كَلمة " بِإِمَامِهِمْ "، وهي بلا شَك المحور في هذه الآية، فالإمام هو الذي يحتجّ ويشهد على "كُلّ أُنَاس" زمانه، فَمَن هو الإمامُ المشارُ إليه في الآية الشريفة؟
الإمامةُ في اللّغة
في البدء لا بُدَّ لنا أولًا مِن فَهم المَعنى اللغوي لمفردة الإمام الحُجّة، فالإمامة مصدر من الفعل (أمَّ)، وهو لفظٌ يُشير إلى مَعنى التَّقَدُّم على القوم، كما ورد في لسان العرب لابن منظور بقوله: (وأمّ القوم وأمّ بهم : تقدّمهم ، وهي الإمامة . والإمام : كلّ مَن ائتَمَّ به قَومٌ كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين. وسيدنا رسول الله، صلى الله عليه (وآله) وسلم، إمام أمته، وعليهم جميعا الائتمام بسنته التي مضى عليها. ورئيس القوم: أمَّهم. ابن سيده: والإمام ما ائتم به من رئيس وغيره، والجمع أئمة )3.
فالشخصُ الذي يتقدّم قومه يقال له إمام ومرشد ودليل، وهو الرئيس والجمع أئمة.
الإمامة في الاصطلاح
وفي الإصطلاح، فقد اختلف المسلمون في تعريفهم لمفردة الإمامة، فالمذهب الإثنا عشري يرى الإئمامة على أنَّها نصٌّ إلهي يَجمع فيها الإمام أمور الدين والدنيا، وقد ذكر ذلك العلامة الحلّي في النافع يوم الحشر بقوله: (الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهي واجبة عقلا، لأن الإمامة لطف فإنا نعلم قطعا أن الناس إذا كان لهم رئيس مرشد مطاع ينتصف للمظلوم من الظالم، ويردع الظالم عن ظلمه، وكانوا إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد، وقد تقدم أن اللطف واجب)4.
وأما عند أهل السنّة، فقد ورد عن أبن خلدون قوله: (هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) 5.
لقد اتّفق الشيعة الإمامية على أنَّ الإمامةَ واجبةٌ عَقلًا على الله تعالى وهو الحق، وأنَّها نصٌّ إلهيٌّ مُنحَصرٌ بعد النبيّ المصطفى صلی الله عليه وآله وسلم بالأئمة الإثني عشر من أهل بيته، والذين نصَّ عليهمُ النبيُّ وسمّى بأسمائهم، بينما اتفق أغلب طوائف السنّة على أنّ الإمام أو الخليفة بعد النبيّ محمد صلی الله عليه وآله وسلم هو من عموم النّاس، حيث رأى الخوارج أن الإمامة ليست بواجب، ورأت الأشاعرة بأنَّ الإمامة من الواجبات المعلومة سمعًا، وأنَّ وجوبها هو باعتماد النَّقل لا على أساس العقل، بينما ذَهَبَت المعتزلة إلى القول بأنها من الواجبات المعلومة عقلًا.
إذن فالمراد بكلمة الإمام هو الشخص الذي يَخلف رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم في إدارة الأمور السياسية والدينية، ليكون قوله أو فعله أو تقريره حجّه على العباد وواجب الاتباع على مَن تَأتمّ به، وقد يُسمّى الإمام كذلك بــــــ"الخليفة " إشارة إلى أنّه قد خَلَفَ النبيّ المصطفى صلّی الله عليه وآله وسلم في رعاية الأمة وحفظ الدين، أو قَد يُسمّى بــــــــ" الحُجَّة " كونه حُجَّة الله على الخلق.
إذن فالإمامةُ استمرارٌ لمنهجِ النُبوة في المَهامّ والصَلاحيّات عَدا تَلَقّي الوَحي الإلهي، والذي انقطع بوفاة النبي صلّى اللّه عليه واله وسلم، وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الإمامةَ كونَها استمرار لخط الأنبياء فهي لا تُثَبّتُ إلا بالنّص الإلهي على لسان نَبيٍّ، وَتَنصيبُ الإمام المَعصُوم لا يَتِمّ إلا بأمرٍ الهي، فاللّه هو العالمُ والمُحيط بكُل شيء، وأنها ليست باختيار من قبل الناس .
الإمامةُ في القرآن الكريم
وأما في القرآن فقد وردت كلمة إمام أو مشتقاتها في أكثر من مورد، والملاحَظ أنّها جميعاً تشترك في معنى واحد وهو "المرجعيّة"، وأنّ الإمام هو المرجع الذي تأمّه الناس وترجع إليه سواء كانوا أئمّة هدًى كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[الأنبياء: 73]، أو أئمّة جَور وضلال، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ﴾[القصص: 41]، فالله تعالى قد استخدم مفردة الإمام لوصف القيادة أو الرئاسة الصالحة والتي يأتَمّ بها المؤمنون الصالحون، وكذلك أورد هذه الكلمة في وصف القائد الضّال الذي يلوذ به مَن هو على شاكلته. وأورد بعض المفسرين أنّها وردت بمعنى اللوح المحفوظ، كما في قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12]، أو بمعنى كتاب موسى (عليه السلام) وهو التوراة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ [الأحقاف: 12]، أو بمعنى الطريق والسبيل كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: 78-79].
بعد هذه المعاني التي وردت في القرآن الكريم لا بُدَّ مِنَ الإفاضة في شرح المقصود من هذا المفهوم الذي لا يخلوا منه زمان، منذ أن خلق الله البسيطة ومن عليها.
تفصيلٌ وتبيانٌ في مقامِ الإمامة
أمّا القول بأن المراد بالإمام هو اللّوح المحفوظ، فهذا فيه تناقض مع باقي الآيات الواردة في معنى الإمامة، فاللوح المحفوظ واحد، أما الإمام فهو ما اتفق على وجوده في كل زمان، ويبقى المعنى الإجمالي الأقرب لفهم كلمة الإمام الواردة في الآيات المباركات هو الذي يَختصّه الله تعالى وينصّ عليه في كل زمان ليحمل أمر هداية الناس، قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، وليكون الحجّة والشاهد عليهم يوم القيامة.
والإمامةُ في الإسلامِ مَقامٌ عظيم ونعمةٌ إلهيّةٌ كبيرة، بها يتحقق كمال الدين، لذلك اعتبرها الشيعة الإمامية الأصل الثالث في العقيدة بعد التوحيد والنبوّة، حيث ارتبطت حقيقتها في عالم الغيب كما ارتباطها بعالم الشهادة، وفي هذا البحث سنسعى لتبيان بعض من تلك الحقائق اعتمادًا على بعضٍ من آياتِ القرآن الكريم والروايات الصادرة عن أهل بيت المصطفى صلوات الله عليهم أجمعين.
آيَةُ الابتلاء
قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124].
الآيةُ الكريمة تَحمل في طيّاتها مضامين جوهريّة ثلاثة:
الأول: المقصود بالإبتلاء الوارد في الآية الشريفة، والثاني: هو مفهوم الإمامة التي سَأَلَها وَنالها نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام)، والمضمون الثالث: هو إمتداد الإمامة إلى الخِيَرَة مِن ذريَة إبراهيم (عليه السلام).
والإبتلاء في اللغة تعني الإختبار والإمتحان، قال ابن منظور في اللسان: (بلوت الرجل بلوًا وبلاءً، وابتليته: اختبرته، وبلاه يبلوه بلوًا، إذا جربه واختبره، وابتلاه الله: امتحنه... وبلي بالشيء بلاءً وابتلي، والبلاء يكون في الخير والشر، يقال: ابتليته بلاءً حسنًا وبلاءً سيئًا)6.
وجاءَ ابتلاء الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) وهو في مقام النبوّة والرسالة، ولمّا يُنصَّب إمامًا بَعد، فهو (عليه السلام) قد نال شرف النبوّة بعُمرٍ مُبكر، قال الله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: 60]، بل إنَّ الأدلة القرآنيّة والروائيّة تؤكّد أن الإبتلاء جاء بعدما رزقه الله تعالى بإسماعيل وإسحاق (عليهما السلام)، إذن فالقصّة قَد وَقَعَت في أُخريات عُمره الشريف، بدليل أنّ الله تعالى في هذه الآية يوجّه إليه الخطاب، فتلقّيه لخطاب الوحي دليل على أنَّه كانَ نَبيَّا، وهذا المعنى يدحض الرأي القائل بأن الإمامة تعني النبوّة، كما ورد في قول الشيخ محمّد عبده : (الإمامة هنا عبارة عن الرسالة ، وهي لاتنال بكسب الكاسب)7.
وأمّا قول الله تعالى "بِكَلِمَاتٍ"، فالكَلمة هي إشارة إلى ما يُتَكلَّم به، سواء كان لفظ الكلمة مفردًا أو جملة، وكذلك هي إشارة إلى الحاكي بها، كقوله تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: 5]، أو قوله تعالى: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 82]، وقد يُراد منها المحكي كما في قوله تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24]، وقد تَرِدُ في وصف كلام الله تعالى بالتمام كما في قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الأعراف: 137].
وهذا الترابط الوارد في الآية الكريمة بين الإبتلاء والكلمات إنما هو المراد منها الأفعال المُتعلّقة بالأقوال، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] ، بمعنى أحسنوا معاشرتهم.
وَقَد اختَلَفَ المُفسرون والمُتكلّمون في المراد من مفردة " بِكَلِمَاتٍ"، فَمِنُهم مَن رَأى أَنَّ المُراد هو الإبتلاء بذبح نبيّ الله إسماعيل (عليه السلام)، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه فسّر الكلمات بـقوله (أنّه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل فأتمّها إبراهيم وعزم عليها وسلّم لأمر الله)8، وهو بلا شكّ إبتلاء عظيم كما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 107]. وقد يراد بالكلمات جميع المواثيق والعهود التي ابتُليَ بها إبراهيم (عليه السلام) خلال مسيرته كنبيّ ورسول وخليل؛ ومنهم مَن أورد آراء غريبة في تفسير معنى الكلمات التي أتمّها إبراهيم (عليه السلام)، فقد ورد عن ابن عباس في المراد من "الكلمات" أنّها الخِصال العشرة وهي : خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فاللواتي في الرأس: السواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وفرق الشعر، واللواتي في الجسد: الختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبطين.
وقيل أنّها شرائع الإسلام الثلاثون سهماً التي وردت في عشر آيات في سورة براءة، وعشر آيات في أول سورة المؤمنون وسورة المعارج وعشر آيات في سورة الأحزاب، فأتمهن إبراهيم (عليه السلام).
وأورد الحسن البصري أن الإبتلاء هو بالكوكب والقمر والشمس والختان وبذبح ابنه وبالنار وبالهجرة فكلهن وَفّى الله فيهن. وقال مجاهد ابتلاه الله بالآيات التي بعدها وهي قوله «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً»، وقد أجاب السيد الطباطبائي في الميزان على هذا الرأي بقوله: (أمّا ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً»، لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام) 9.
علماً أنّ العلامة الطباطبائي قد أورَدَ آراء بعض المفسرين في المراد بـــــ"الكلمات" بقوله: (قضايا ابتلي بها وعهود إلهية أريدت منه، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لأن الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: {قال إني جاعلك للناس إماما}، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على أنها كانت أمورا تثبت بها لياقته، (عليه السلام) لمقام الإمامة)10.
وقد وُرد رأيٌ للشيعة الإمامية في هذا الشأن وهو ما روي عن المفضل بن عمر، عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال سألته عن قول الله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} ما هذه الكلمات؟ قال: "هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تُبت عليّ، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم"، فقلت له: يا ابن رسول الله فما يعني عز وجل بقوله: {أتمهن}؟ قال "يعني أتمهن إلى القائم (عَجَّ) إثنا عشر إماماً تسعة من ولد الحسين(عليه السلام)"11.
إذن فالمراد من قوله تعالى: " بِكَلِمَاتٍ" هي جميع تلك الإبتلاءات والإمتحانات والعهود، كابتلائه بالكواكب والأصنام، والنار والهجرة وتضحيته بإسماعيل (عليه السلام) وتوسله بآل بيت العصمة، وجميعها أثبت (عليه السلام) أنّه أتمَّهُن فاستحقّ مَقام الإمامة.
وأمّا قول إبراهيم (عليه السلام) "وَمِن ذُرِّيَّتِي" فهو دليل على أنّ الحوار جرى بعدما مَنَّ الله تعالى على إبراهيم (عليه السلام) بالذريّة، وإلا فليس من مقتضى الأدب العبودي وهو النبيّ المرسل أن يجيب ربّه بهذا الجواب وهو لا يمتلك ذريّة.
كانَ إبراهيمُ (عليه السلام) في السادسة والثمانين من العمر حينما رُزق بإسماعيل مِن أُمّه هاجَر، ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [البقرة: 124]، أي بعد تحطيم الأصنام في بابل والإستعداد للرحيل نحو فلسطين.
وبعد خمس سنوات على ولادة إسماعيل (عليه السلام) رَزَقَ اللهُ تعالى إبراهيمَ ولداً آخر وهو إسحاق (عليه السلام) والذي بَشّرت به الملائكة في قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: 53]، وأمّه سارة أخت نبي الله لوط (عليه السلام).
وأمّا مقام الإمامة المشار إليها في الآية الكريمة: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ فالمراد منه هو العهد الإلهي العظيم لقيادة (هداية) المجتمع وتنفيذ الشريعة التي أمر الله تعالى بها، في حين أنَّ النبوة هي مقام الارتباط بالوحي، أمّا الرسالة فهي بالإضافة إلى الارتباط بالوحي، ولكن على الرسول البلاغ.
إذن الإمامةُ عهدٌ إلهيٌّ ونصٌّ وَجَعلٌ مِنَ الله تعالى: ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، وأنَّ هذا لا يناله إلا المعصوم وقد أكّد على هذا الرأي المفسرون من كلا الطرفين، بدليل أنَّ الله تعالى حينما ينصّب أحداً لإمامة الناس فلا يُعقل أن يَصدُر عن هذا المُنَصَّب خطأ أو زلل، وَمِنْ غَير المقبول أن يأتمّ الناس بمن قد تَصدر عَنه هَفَوات على أقل تقدير.
كذلك فإن الآية المباركة تشكف عن أن الإمامة هي جَعلٌ وتنصيبٌ إلهي من قِبَلِ الله تعالى (إنِّي جاعلك)، وهذا الجعل الإلهي مبنيٌّ على قاعدتين أساسيتين، أكّد عليهما علماء المذهب الإثنا عشري، الأولى تسمى قاعدة اللطف الإلهي، والتي تُبيّن أنَّ الإمام واجب التعيين، لما فيه صلاح للعباد، بناءًا على لطف من الله تعالى في تعيين الأصلح. والقاعدة الثانية تسمى قاعدة الاضطرار، فالله تعالى لا يُثيب ولا يُعذب إلا بحُجج تشهد على الناس يوم القيامة، لذلك بَعَثَ الأنبياء مُبشّرين وَمُنذرين لكي لا يكون على الناسِ حُجّة، قال الله تعالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء: 165]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء: 15]، وهاتين القاعدتين تجريان في الأوصياء كما الأنبياء، فمقتضى الآيتين يقطع بذلك، وأنّ أثرهما مستمر في كل زمان.
وإذا كان مقام الإمامة قد مُنِحَ لإبراهيم (عليه السلام) بعد أن كان نبيّاً رسولاً، فهذا يدلّ على أنَّ للإمامةِ شأنٌ يفوق مقام النبوّة والرسالة.
وحتى نَقِفَ على الفهم الحقيقي للإمامة، كذلك لا بدّ من معرفة ما إذا كان هذا المَقامُ مقاماً تَشريعيًّا (سياسية أو تطبيقية) لتبليغ العامة والخاصة، المؤمن والكافر، أم أنّه مقامٌ تكويني يتعلّق بهداية النفوس والأخذ بها نحو مقام القرب، ليكون بذلك الواسطة في تلقي الفيوضات الإلهية وإيصالها إلى الناس؟
والهداية التشريعيّة لا بد لها من أنبياء ومُرسلين يُبلّغون ما أنزل اللهُ تعالى من أحكام تشريعية، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[النساء: 64]، فالهداية التشريعية مختصّة بالأنبياء وهدفها الارتباط بالوحي وتبليغ الرسالة وعلى الأمة الاستماع والطاعة فصاحب الهداية التشريعية إنما جاء من أجل إراءة الطريق وإيضاح الهدف.
والإنسانُ وفي طريقهِ نَحو التّكامل الروحي وبلوغ مقامات القرب الإلهي، أو فيما يُطلق عليه بقوس الصعود، ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾[الإنشقاق: 6]، فهو بحاجة الى الهداية التكوينيّة (الفطرية) كحاجته إلى الهداية التشريعية، وأنَّ هذا الطريق لا بُدَّ له مِن وسيط يعينه ويأخذ بيده في هذا السير ويوصله إلى المطلوب، بمعنى أنْ لا بُدّ له مِن إمامٍ وسيط بين الله تعالى والخلق، جُعِلَت له الهداية التكوينية الخاصة (لوجود هداية تكوينية عامة) ومن خلالها ينتقل الفيض الإلهي إلى المؤمن ليأخذ بيده نحو أعلى مقامات القرب الإلهي، قال الله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[فاطر: 10].
إذن، الولاية التشريعية هي مهمّة الأنبياء والرُسل في إراءة الطريق وبيان الاحكام، وهيَ مُختصّة بالبعد الظاهري للهداية، وأما الهداية التكوينية (رفع الدرجات) فقد تجتمع مع الهداية التشريعية في شخص محدد كما اجتمعت في شخص النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله، وكما اجتمعت في شخص النبيّ إبراهيم (عليه السلام) وباقي أنبياء أولي العزم، بصريح قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[السجدة: 24]، "وجعلنا منهم" أي جعلنا بعضًا منهم، وقد لا تجتمع، أي أنْ تَنْحَصِرَ في النبيّ الولاية تشريعيّة فقط.
والملاحظ في الآيات التي ورد فيها ذكر أئمّة أنّها في الأغلب كانت مصحوبة بكلمة الهداية، كقوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 72-73]، أو في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[السجدة: 24]، لكنّ هذه الهداية كما هو واضح مُقيّدة بأمر الله تعالى، حيث وردت كلمة " بِأَمْرِنَا"، وهي قطعاً لا يُراد منها الهداية التشريعيّة، بدليل أنَّ وظيفة الأنبياء (عليهم السلام) واضحة ومتّفق عليها ولا يوجد مقتضى لذكر "بأمرنا"، لذلك فإن هذه الكلمة إنما جاءت لتبيان الولاية التكوينيّة، بدليل المعنى الوارد في آيات أخرى، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50]، وقوله: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 82-83]، وكما هو معلوم فالأمر التشريعي لا يأتي مرة واحدة بل هو فعلٌ تَدريجيّ، وأما الهداية التكوينيّة فَهي كَلَمح بالبصر، أو كَكُن فيكون. وكذلك لو تدبّرنا في قول الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، والروح هنا من المتعلقات بالهداية التكوينية لا التشريعية، كذلك في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، فما يجري في ليلة القدر من كلّ سنة إنّما هو أمر تكويني وليس تشريعي.
وهذا يوضّح أنَّ الإمام (عليه السلام) إنّما وظيفته الهداية بأمر ملكوتي يكون معه (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75]، حيث أنَّ الآية تشير بدلالة واضحة أنَّ إراءَةَ الملكوت لإبراهيم (عليه السلام) إنّما هو مُقدّمة لبلوغ مقام اليقين، فرؤية الملكوت، والذي هو الوجه الباطن من هذا العالم، ومقامات اليقين هما حالتان مُتلازمتان قد أثبتتهُما الآية الكريمة: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 5-7].
أَضِف إلى ذلك أنَّ الإمامة مَقام عظيم لا يناله إلا من أدرك مراتب اليقين وانكشف له عالم الملكوت، لذلك نرى كيف أنّ النبيّ إبراهيم (عليه السلام) وهو النبيّ المعصوم كان كثير السعي لنيل تلك المراتب، كما ورد في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِ﴾ [البقرة: 260].
إذن فمقام الإمامة له ظاهر تشريعي يحتّم أن يكون لقول الإمام وفعله وتقريره حجّة على العباد، وله باطن تكويني يجري الله تعالى الهداية على يدي الإمام، وإيصال العباد إلى المطلوب، بأمر الله وليس الحصر، وبذلك يتّضح أن لا تقاطع بين الهدايتين، بل أن المراد من أحدهما هو أن يكون مكمّلًا للآخر.
لذلك نجد العديد من الآيات تبيّن أنّ الله تعالى حينما يخاطب النبيّ كنبيِّ أو رسول، فإنه لا يَفرض عليه سوى تبليغ الرسالة للناس، وإقامة الحجّة عليهم بها، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: 67]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ [الأنعام: 107]، وقوله تعالى: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء: 80]، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، وقوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾[الأنعام:19].
فالآيات المباركات تبيّن أنَّ الحفيظ والوكيل والتي خاطب الله تعالى بها الرسول هي إشارة إلى أنّه (نبيّ أو رسول) فإنّه ليس عليه الهداية، والتي هي مهمّة أخرى، وقد تجتمع في شخص النبي والرسول ليكون إمامًا، كما اجتمعت في شخص النبيِّ المصطفى والنبيّ لإبراهيم وباقي أنبياء أولي العزم، وحيث أنَّ لكلّ قَومٍ هادٍ، فقد يكون الشخص إمامٌ فقط بِنَصٍّ مِنَ الله تعالى، ودوره في الهداية مُتعلّق بالقلوب والأعمال، أي الظاهر والمخفي من أعمال العباد، فكلاهما حاضران عند الإمام، والذي لا يخلو من وجوده زمان، وهو الذي يأخذ بأيدي الناس نحو مقامات القرب الإلهي.
وأمّا قوله تعالى: ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾، فالآية تدلل على أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يعلم بعظم وثقل الأمر الذي أوكل إليه وقد عَلِمَ أنَّ نَجاح رسالته منوط بالرجال التي ستحمل الأمر من بعده، فكان كثير الحرص في الدعاء لذريّته والطلب بصلاحهم وعلوّ مقاماتهم، كما ورد في قوله تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، وقوله: ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، لذلك حينما جاءته البشرى من الله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ نرى أنّ إبراهيم (عليه السلام) قد اغتنم هذه الفرصة وبادَرَ بالطَلَب: ﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ فكان الجواب الإلهي: ﴿ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾، أي أنّ عَهدَ الله تعالى بالإمامة لا يناله الظالمون.
وقد شاء الله تعالى أن تكون الإمامة باقية لا انقطاع لها، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71]، وأنَّها مُستمرة في ذرية إبراهيم (عليه السلام) خاصة، بدلالة قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 26-28]، أي جعل الهداية باقية ومستمرة في عقب إبراهيم (عليه السلام)، وبذلك تتضّح الصورة أكثر وأكثر خصوصًا بعد التدبّر في قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾، فقد أوضحَ الله تعالى عن تلك الذريّة وكيف أنّه اصطفاهم واختصهم بأمر هداية الناس، في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 34]، وهكذا استُجيبَت دَعوة نبينا إبراهيم (عليه السلام)، وما زالت الأرض، وفي كل زمان، لا تَخلو من إمام هادٍ إما ظاهرًا مشهورا أو خائفا مغمورا، وأنّ ذريّته قد اتصلت بالنبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين من ذريّته، قال الله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 219]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[السجدة: 24]، وقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ﴾[الأنعام: 83-90]
وهذه الآيات المباركات تُؤكد أنَّ الجعل الإلهي والاجتباء الرباني مُتّصل ومتواصل في عَقِبِ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) حتى النبيّ الخاتم وذريّته (عليهم السلام)، الذين بَلَغوا أعلى مَراتب اليقين دون مُقدّمات لرؤية الملكوت، بل بما صبروا، فالله تعالى قد عَلِمَ بصبرهم على ما سيصيبهم واستعدادهم وثباتهم وتسليمهم المطلق وعلوّ مقامهم، ولأنّهم كانت قلوبهم مطمئنة راضية بما كتبه الله تعالى لهم، لذلك جعلهم اللهُ تعالى أئمة ونصّ على إمامتهم، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " لَوْ كُشِفَ [لِيَ] الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً" 12.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat