اذا اردت اغتيال فكرة فأوجد لها زعيم يتبناها ,وإذا اردت تقويض مشروع فشخصه, ان الزعامة و الشخصانية و الفردانية مشكلة تدمر و تحور و تحول وتشوه وتميع و تميه أي مشروع مهما كان سامي وهادف ونبيل وراقي , فمن جهة يتحول الزعيم أو صاحب فكرة المشروع مع الزمن الى تجسيد المشروع في شخصه , فيصبح هو الثورة ولسان حاله يردد مثل من ردد :" أنا الدولة " ويتحول من صاحب الفكرة أو المنظر او الموجه أو الملهم أو المبرمج أو الراعي الى :"ما اريكم إلا ما ارى وما اهديكم إلا سبيل الرشاد"
ليتحول برنامج الفكرة (الثورة) الى لباس فصل على مقاسه , يشرف على تفاصيله بمركزية أنانية فلا احد غيره يعرف مصلحة الثورة أكثر منه ولا أحد خلافه يخاف عليها ويحرص على حمايتها أكثر منه , ومهما صدرت منه تصرفات تسيء للثورة أو تشوهها أو تحرفها عن مسارها أو تشكل خطر عليها أو تهددها في استمرارها وانتشارها , تجده دوما مدافعا عن خياراته وتوجهاته مبررا لمناوراته وله العذر في تصرفاته , لتتحلل موضوعية الفكرة(الثورة) شيئا فشيئا ذائبة في أناه المتضخم
دون نسيان الخطر المحدق من أعداء الفكرة(الثورة)لأنه اذا ارادت القضاء على الثورة / التنظيم فسيتم ذلك بقطع رأسها المدبر أو المخطط أو المهندس الذي هو الزعيم لأن الجسد دون رأس يسير دون توجيه ولا تبصر فيتعثر ويسقط.
ان الزعامة مع مرور الوقت تتحول الى مرض ويصبح الزعيم لا يفرق بين النقد الذاتي والنقد الموضوعي لينتهي المطاف بجنون العظمة, مع عدم اغفال الحاشية أو البطانة أو الندماء , المتغذية من هالة الزعامة والتي تستفيد ماديا أكثر من الزعيم ذاته ويكون تأثيرها اقوى من تأثيره وقرارها ابلغ من قراره وان اكتسى طابعه وخرج باسمه لكنه يحقق مصالحها هي فقط, لذلك تجد البطانة تزين له تصرفاته وتداهنه وتتملقه وتنافقه وتماريه حتى في قراراته الخاطئة , لتفرض الوصاية عليه دون علمه لتكون اولا عينه التي يرى بها ولا يستطيع ان يرى الا ما تريه واذنه التي يسمع بها ولا يسمع سوى الكلمات التي ارادت له ان يسمعها فتجعل من نفسها جهاز تنقية وتصفية وغربال يغربل كل ما يمر الى الزعيم وبذلك توجه قراراته الوجهة التي تريدها هي بناءا على المعطيات التي صنعتها ووضعتها بيد الزعيم , لتزداد مع الوقت نفوذا وثراء و تغولا ليتحول الزعيم في آخر المطاف الى دمية قاراقوز توجهه كما تشاء كما حصل مع الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه والعائلة الأموية التي أوهمته بأن الخلافة قميص البسه الله له فلا يجوز خلعه وزينة له التصرف في المال العام دون حسيب ولا رقيب لتستفيد منه العائلة الأموية لأن الأقربون أولى بالمعروف, حتى دفع الثمن وحده بمأساة مازالت الأمة الاسلامية لحد اليوم تعاني من هزاتها الارتدادية .
لم تقع الثورة الجزائرية في مأساة القائد الرمز والزعيم المبجل الخالد," فالمعركة الحقيقية الثورية قامت نتيجة رؤية مجموعة من الشباب المسئولين المناضلين الواعين التي جمعت حولها أغلب العناصر التي لا تزال سليمة ومصممة."
ففي المجموعة تذوب الفروقات الفردية ليحول الطاقة الى عمل وفي العمل الجماعي يكون التنافس لأجل تجسيد نقاط برنامج الثورة , وهذه المجموعة الشبانية ليست شباب حالم في بروج عاجية او قصور وردية ولا شباب خانع مستسلم بائس متشبع بالانهزامية الفكرية والقابلية للاستعمار راضي بقضاء الله وقدره سواء خيره أو شره الذي هو الاستعمار ولا شباب طائش مستهتر أرعن لا يحسن توجيه طاقته ولا استغلال مكنوناته , بل شباب مسئول على أقواله وأفعاله وتصرفاته آمن بحتمية التغيير الثوري بكل مسؤولية فناضل لأجل تحقيقها بكل وعي فتحرك مجمعا لكل عنصر يرى فيه السلامة والتصميم
انه عمل قطيع من الذئاب التي تدرك ان الذئب الواحد منها رغم قوته الجسدية وحدة انيابه وصلابة مخالبه إلا انه لا يستطيع الظفر بالغنيمة لوحده , لذلك يتحتم العمل في فريق من الذئاب البالغة القادرة القوية التي تخلوا من الضعف والعجز والإصابة لتتكاتف من اجل مطاردة الغنيمة وإرباكها والإجهاز عليها
انه عمل المجموعة المنظمة الواعية المسئولة لا ملك الغابة لأنه لا يوجد للغابة ملك سوى في قصص الخيال
ان عسل الاستقلال لم يأت من ملكة النحل , بل من تضافر وتكتل وتلاحم جهود أفراد الخلية ونشاطهم الدائم الدءوب المكثف وجهدهم المتفاني في عمل منظم مخطط ومدروس ببصيرة عقلانية وضعت العقل في مكانه الصحيح لينظم ويخطط ويرتب ويبرمج وينسق ووضعت العاطفة في مكانها الذي اعدت له ليستلهم منها النشاط والقوة للتحرك والنضال من اجل تجسيد حلم وتحقيق مشروع الاستقلال
ان الدرس الحضاري الذي علمه لنا بيان أول نوفمبر وجاءت سنوات الثورة المباركة مصدقة له هو ان انطلاق الثورة و استمراريتها ونجاحها لا يشترط فيه وجود زعيم أو أب روحي
نعم هذا ليس مبدأ ثابت , فهناك ثورات كانت بزعامات وربما نجاحها كان بفضل اصرار زعيمها , لكن الزعيم لا يصنع ثورة بل الثورة هي التي تصنع الزعيم , فالزعيم قبل الثورة لم يكن زعيم بل مجرد مناضل شأنه شأن بقية المناضلين ان لم يكن اقل منهم نضالا لكن الثورة هي التي صنعته ورفعته لمصاف الزعماء , ربما تجده ركب الموجة أو انتهز الفرصة أو جاءت به الصدفة أو كان له موقف شخصي أو تصرف فردي اتخذه فباركته الجماهير والتفت حوله لتصنع منه زعيما
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat