على مرّ العصور، يعيد التاريخ نفسه ليحيي شخصياتٍ عرفناها في أجساد آخرين يعيشون في عصر سوى عصرهم، فنلتقي احيانا بشخوص نعتقد للوهلة الأولى أننا رأيناهم أو استمعنا لهم من قبل، وهذا هو ذاته ما جعلني أسابق نفسي لأبدأ رحلتي في هذا المقال الذي اخترته دون سواه ليكون موضوعي الأجدر بالاهتمام.
شخصان في زمن غير زمنيهما، يعيشان في وطن واحد، وهذا هو الفرق الجذري الذي كسر ذاك التشابه العظيم في الشخوص، وربما تجمعهما صداقة وهو ما لم يتسنى لي التأكد منه.
تابعتهما معاً وقرأت الكثير مما كتب عنهما في مقالات داخل صحف عربية وعالمية، وقد وجدت معظم الآراء تجبرني على أن يكون هذا المقال من أجود ما كتبت في تاريخ مقالاتي وأبحاثي.
هذا ما يحصل عندما يلتقي درويش والقباني من جديد، وهذا ما يحصل عندما يجتمعان في وطن واحد كان دائماً منبع النوابغ والأدباء والفنانين، هذا حقاً ما يحصل عندما يجتمعان في فلسطين، ويحققان في ريعان شبابهما ما أخذ الكثير من عمر درويش والقباني حتى حققاه.
ربما هو الوضع السياسي والثقافي الفلسطيني ما يمنع وصولهما إلى ما يستحقان، وربما تلك الهالة السوداء في الواقع الفلسطيني ما تجعل هذا النور الساطع من دماغين مبدعين يخفت ولا يبدو للعالم أجمع، وهذا ما جعلني أكتب مقالي هذا ليكون بقعة ضوء تقتبس نورها من وجهين نظرين، وتحمل بركتها من اسمين مباركين في تاريخ الشعر العربي المعاصر، وهنا أقصد الشاعرين الفلسطينيين، فارس سباعنة ورامي أبو صلاح.
رحلتي مع هذا المقال طويلة، واستغرقت فترة طويلة للبحث عن معلومات تدعم ما سيحتويه، وفيما يلي سأبدأ رحلة التعريف بهذين النجمين، وكلي أمل أن أنجح فيما بدأت.
فارس سباعنة هو شاعر شاب فلسطيني من بلدة قباطية - جنين، من مواليد الحادي عشر من نوفمبر عام 1982م، حاصل على درجة البكالوريوس في نظم المعلومات الحاسوبية، عمل في العلاقات العامة والإعلام في مجلس القضاء الأعلى الفلسطيني. حمل على كاهله رمزية العصر بعد أن رحل فارسها الثاني، محمود درويش، وقد أجاد فيها الكثير، ومنحها الكثير من التجديد، فصار حتماً علي أن يكون أحد شخصيات مقالاتي، وأن أمنحه – إن كان مسموحاً لي – لقب درويش العصر.
فارس يجيد العزف على أوتار شعر التفعيلة، ويجيد اللعب على مشاعر المستمعين، ويجعل في الرمزية وسيلة تمنح المعنى أسلوباً آخر في التعبير، وإن كانت الرمزية التي يستخدمها أجمل من المدرسة الرمزية ذاتها، إذ إن المعاني التي ينظم فيها واضحة المعالم جميلة السبك، لا غبار عليها، ولا ضباب يستطيع أن يخطف منها ذلك النور الذي فيها.
• لماذا أسميه درويش العصر:
ربما علينا أن نستعرض في هذا المقال بعض ما قرأت لسباعنة، وخلالها سيعرف القارئ كيف يتجلى الأثر الكبير للرمزية والروح الشعرية لدرويش في هذه الأعمال، وهنا أعرض منها:
في قصيدته؛ اكتمال ناقص يقول:
شكرا لأنك تجمعين لي الفتات بكفكِ المجهول
وأظلّ مثل حمامةٍ بيضاء
أبحث عن يديكِ على السطوح
وفي السماءْ
شكراً لعينيكِ التي مرت مصادفةً بباب القلبِ
وانكسَرَتْ على باب التحيةِ
وانكسَرْتُ…
أو انكَسَرْتُ …
لا فرقَ بينَ حطامِ نافذةٍ
وقاربِ عاشقينِ تعانقا خوف العيونِ
وفضّ سرَّهُمَا الزبدْ
ِطرقتُ أبواب المدينة كالغريب
وكنتُ أعلمُ في المدينة
… لا أحد
عليّ أن أختارَ شكلَ نهايتي
لأبثّ مشهَدَها لذاكَ الغيم
أشعارًا بجفنٍ موجعٍ
وبصوتي المخنوقِ في شغفِ القرار
ويحتاج القارئ ربما بعض المقطوعات الأخرى ليلحظ ما لاحظت في أعماله من إبداع، ومنها:
في قصيدة؛ عواء يقول:
الريحُ تطرقُ كلّ أبواب الرجالِ
ولا رجال...
أو أن منطقها غريبٌ في السؤال
من سيحضر ما تبقّى من نداءات الغسيل على الحبال؟!
أما في عبث الريح فيقول:
لي سريرٌ فوق كلّ رصيف عمرٍ
باردٌ …
ومرصّعٌ بالوقت إذ يمضي سريعاً
خارج الدنيا أبيت
كل أرضٍ لملمتني أُحرقَت،، وأنا نفيتْ
كل سيدةٍ عشقتُ تركتها دون احتفال
أين أُسكنها وقلبي دائما تحت احتلال!!؟
وفيما سلف يتبين ذلك الجمال الرمزي في قصيدة فارس، والتي يشبعها بأجمل عباراته الدافئة، وتعبيراته المبتكرة التي لم يسبق أن يكون فيها الكثير من تجلي الرمزية وتعبيراتها.
أما قباني العصر فهو شاعر فلسطيني آخر، وأيضاً مما أخرجت جنين، وهو شاعر وأديب وملحن ومترجم فلسطيني، ولد في مدينة جنين عام 1988 م. يتقن ثلاث لغات غير العربية ومنها الإنجليزية والإيطالية والعبرية، حصل على بكالوريوس العلوم من جامعة النجاح الوطنية في العلوم الطبية المخبرية.
o أديب فلسطيني كتب قصائد ومقالات وقصائد مغناة.
o عضو الإتحاد الدولي للإعلام، وعضو المركز العربي الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
o عمل في حقول التدريب اللغوي والترجمة إلى أكثر من لغتين.
o محرّر وكاتب صحفي فلسطيني.
o عمل في حقول التدريب المسرحي وتصميم الرقصات الشعبية الفلكلورية.
سبقني د. يوسف العلي، في مقاله عن رامي أبو صلاح، ووصفه له بأنه قباني العصر، وقد آثرت أن أقتبس من مقاله ما يدعم هذه التسمية.
إن قارئ شعر رامي ومتابع مقابلاته وأسلوبه الأدبي في شعره يلاحظ جلياً أن نزار يتكرر، وأن التأثر العظيم الذي يبدو في شعر رامي بنزار يجعلنا نتأكد تماماً أن هناك رابطاً روحياً بين الأعمال الأدبية التي قدمها الشاعر الكبير نزار قباني وبين ما يقدمه المبدع الشاب رامي أبو صلاح.
عندما قال نزار قصيداً بلسان المرأة، فقد أظهر للناس قدرة عالية على فهم المرأة وقراءة نفسها، وهذا هو ما تكرر من خلال الشاعر رامي أبو صلاح، والذي أصدر مجموعة شعرية بعنوان (هكذا هي قالت) وهي تحتوي مجموعة قصائد على لسان حواء.
ن من يقرأ قصيد الشاعر رامي أبو صلاح، يلاحظ الوزن الشعري المتقارب جداً واختيار البحور الذي يبدو شبه موحد بين رامي ونزار. حتى إنه كتب العديد من المعارضات النزارية وهذا ما لفت انتباهي.
الطبيعة الغنائية لهذه القصائد ووزنها الموسيقي البحت يجعلني أتساءل، أين الفنانون النزاريون من قصيد شاعر شاب مثل رامي، وإني هنا أذكر الفنان الكبير كاظم الساهر والذي ما انفك يبحث عن كل رائعة نزارية لتكون إحدى أغنياته الرائعة، فأين هو من النزار الصغير؟ أين هو من كلمة تعيد فينا روح نزار وتعيد فينا ما نظم.
ربما لفت انتباهي في هذا الشاعر الشاب أسلوبه النزاري ولأني قرأت فيه نزار يعود إلينا بفن جديد على لسان شاب أبدع مدرسة النزاريين، وإني لحبي الشديد ومطالعتي الدائمة لكل نزاري، وجدت من الضروري أن أسلط الضوء على عودة شاعري المفضل إلى الحياة، وبث روحه في جسد هذا الشاب الذي أعاد إلينا نزار من جديد.
وهنا أستعرض بعض قصائده ومنها؛ أنه قال في قصيدة نبوءة عينين:
قلمي العاشقُ يسبقني
إذ ينظمُ حُسنكِ أشعاراً
ويرددُ آلاف الأبياتْ
وتثير جنوني رؤيتها
تتصارعُ في السطر الواحدِ
إن وصفتْ عينيكِ الكلماتْ
وفي قصيدته؛ ماذا أجيب الحب، وهي على لسان أنثى يقول:
ماذا أجيبُ الحبَّ إن سألَ
أين الذي في الروحِ أرسى الحبَّ والأملَ
ماذا أجيبُ إذا اشتكى
أني وجدتُ فراقهُ سهلا
وحرمتهُ صوتي الذي يهواهُ
ثم منعتُ عن شفتيهِ الماءَ والقُبَلَ
دمرتهُ ...
ونثرتُ شوك البُعدِ فوق دروبهِ
وجرحتُ من أشفى ...
جراحَ العمرِ مذ في دنيتي نَزلَ
ومن أجمل التشبيهات التي قرأتها في قصائده:
العينُ بدرٌ خلفَ ظلّ سحابةٍ ** إذ فوقها الجفنــانِ يلتقيانِ
ومنها:
عيناكِ مثلُ الموتِ أعشقُ قبضها ** للروحِ من جسدي فلي روحانِ
روحٌ أعيشُ بها وأخرى عندما ** ألقاكِ تُنفخُ في جميعِ كياني
ومنها في أخرى:
الشمسُ أنتِ
وإنني الأرض الخجولْ
فأطوف حولكِ في انتظامٍ
كي أبدّلَ في الفصولْ
وكثير من قصائده الأخرى التي تحتوي الكثير من الروح النزارية بين ثناياها، هذا ناهيك عن أنه يكتب الشعر بأكثر من لغة، وهذا ما يندر كثيراً في الأوساط الشعرية.
أظن القارئ بعد هذا المقال استنتج بكل واقعية، لما قصدته من عنوان هذا المقال، ولعله عرف واستنتج لماذا اخترت هذين الشاعرين ليكونا في مقال مثل هذا، وإني وكلي أمل أن ينال هذا المقال القبول والرضا، أتمنى بكل صدق أن يكون قد حقّق هدفه في تسليط الضوء على شاعرين يستحقان مثل هذا المقال.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat