صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

الحُسن والقبح مقارنة بين اتجاهي السيّد المرتضى والعلامة الحلّي وتأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصوليّة (1)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مدخل:
بزوغ مدرسة بغداد الكلاميّة
بدأ انقطاع عصر النصّ عند الشيعة الإمامية بغيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام وبذلك تمَّ انفصال فكري وعقدي مباشر مع الإمام الذي كانت تُستلهم مفردات العقيدة منه, وقد مثّلت هذه الحقبْة بداية تبلور مدرسة كلاميّة لها بنيتها العقليّة أخذت بالنمو والنضوج. فأنتج ذلك تحوّلاً كبيراً في علم الكلام الإمامي وفي بنيته شكلاً ومضموناً بعد أن كان لا يعدو - في أغلب مباحثه- ثقافة النصّ المستلهم من المعصوم.
كانت إرهاصات هذا التحوّل بدت بعد وفاة الإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة الإمامية الحسن بن علي العسكري عليه السلام, وما واجهه التشيّع من أخطار على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي برزت أزمة ادّعاء أخ الإمام المتوفّى جعفر بن علي الإمامة والنيابة عن أخيه, فكان على روّاد الكلام الشيعي أن يبيّنوا الموقف الذي يفي باستمراريّة خطّ التشيّع الأصيل.
وأمّا على الصعيد الخارجي فقد واجه التشيّعُ أخطار إثارات المدارس الأخرى الإعتزاليّة والزيديّة وغيرها التي حاولت مسّ التشيّع في أصوله التي منها: ولادة الإمام المهدي محمد بن الحسن, وصلاحيّة الإمامة مع صغر السِن (الإمامة المبكّرة), وفلسفة الغيبة. اضافة إلى قضايا التشريع الإسلامي المرتبطة بالجوانب الفقهيّة.
برزت في هذه الحقبة عدّة شخصيّات من متكلّمي الشيعة, قاربت ودافعت دفاعاً عقليّاً اختلف في منهجه عن الفترات السابقة التي كان يمارس فيها المتكلّمون من أصحاب الأئمة عليهم السّلام الدفاع عن التشيّع. وهكذا استمرّت هذه الشخصيات وفق هذا المنهج الجديد حتّى ظهر أمثال بنو نوبخت(1), وابن قِبة الرازي (ت 317 هـ), والإسكافي (ت 381 هـ), وغيرهم من رجال تلك الفترة.
لكنَّ الأمر المهم في هذه الفترة والتي تلتها هو ظهور شخصية كبيرة قلَّ نظيرها تركت آثارها على جميع مراحل علم الكلام الإمامي, ورسّخت أسُسَه وأعطته هويّة خاصة, أعني بها شخصية الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشهير بالمفيد (ت 413هـ). فهذا الرجل بحق يعد أهم شخصية في تاريخ علم الكلام الإمامي, بالإضافة إلى شخصية علي بن الحسين الموسوي الشريف المرتضى (ت 436 هـ), وشخصية العلامة ابن المطهّر الحلي... فهذه الشخصيات الثلاث تمثّل بعامة التيار العام للاتجاه الكلامي الإمامي, حيث ترسّخت عبر جهودهم المتميزة والخلاقة هويّة علم الكلام عند الإمامية, الهوية التي ورثتها الأجيال.
لقد كان لبغداد في تلك الفترة حوزتها ومكانتها في التعاطي مع مختلف العلوم الإسلامية, غير أن الأمر اكتسب منحىً آخر مع ظهور شخصيّة الشيخ المفيد وذيوع صيته العلمي, إذ بسبب نشاط هذا العَلَم تحوّلت بغداد - التي كانت مركزاً سياسيّاً للخلافة والحكم- بالتدريج إلى أن تكون مركزاً أصيلاً للثقافة الشيعيّة وعلومها ومركزاً لنشاط رجالاتها الأفذاذ. بل يمكن القول: أن كلاً من الشيخ المفيد وحوزة بغداد العلمية الشيعية في زمانه, كانا من الظواهر التي لم يكن لها مثيل في تاريخ التشيع من قبل.. فقد استطاع المفيد أن يكون له دور مهم ومؤثر على صعيد بناء المنهج في علم الكلام.
على أن لا تفوتنا الإشارة إلى أن الجهود العلميّة الممتازة التي بذلها تلميذ الشيخ المفيد المبرّز أعني السيّد المرتضى علم الهدى, والتي استمرّ أوجها وبلغت الذروة في عصر تلميذ الأخير أعني الشيخ الطوسي (ت 460 هـ), لم تكن بأقلّ من جهود المفيد, خصوصاً إذا لاحظنا التحوّل والاختلاف في المنهج بين الرجلين في طبيعة تناول المسائل المختلفة.
نعم لقد كان العلامة ابن المطهّر الحلّي (ت 726 هـ) على حقّ حينما سجّل قائلاً بشأن السيّد المرتضى: (وبكتبه استفادت الإماميّة منذ زمنه رحمه الله إلى زماننا هذا... وهو ركنهم ومعلّمهم)(2). نعم هو ركن الإماميّة ومعلّمهم, فكلّ الذين جاؤوا من بعده أفادوا منه واعتمدوا عليه.
أسباب النشاط والتحول
وإذ وصل بنا الكلام إلى هذا المستوى من بيان الجهود العلميّة للمفيد والمرتضى ومدرسة بغداد ككل, يحسن بنا أن نعطف القلم إلى الحديث عن أسباب هذا النشاط والتحوّل الكيفي والكمّي في علم الكلام الشيعي بعد أن كان كما أسلفنا لا يعدو ثقافة النص, حيث توجد بهذا الصدد عدّة قراءات مختلفة ومتباينة في تحديد العوامل المؤثّرة في ذلك.
1- فهناك من ذهب إلى إرجاع هذا النشاط والتحوّل إلى التأثّر بالمعتزلة. وهذه التهمة تكرّرت على لسان أكثر من واحد من الشرقيّين ومن المستشرقين. فقد كرّرها المستشرق الفرنسي ماسينيون (ت 1382هـ), والباحث المعاصر النشّار (ت 1400هـ), ومن قبلهما ذهب لذلك الخيّاط المعتزلي (ت بعد 300 هـ), والأشعري (ت 324 هـ) في مقالاته, وابن تيميّة (ت 728 هـ) في منهاجه(3). ولقيت هذه التهمة رواجاً بسبب تبنّيها من قبل التيار الأخباري, حيث اتّخذ منها سلاحاً لمواجهة خصومه الفكريّين من الأصوليّين الذين ينتصرون للعقل, فرأى في ذلك أنجع وسيلة للتأثير على عامّة الناس وخلق حاجز نفسي بينهم وبين التقرب من الأصوليين(4).
2- وهناك من رأى أن هذا التحوّل كان بسبب أن بعض رجال المعتزلة قد انتقلوا إلى التشيّع كابن قبة الرازي والسوسنجردي, حيث أن هذا الانتقال لم يلغ كلّ الثقافة التي كانوا يتبنّونها فبقيت رواسب ذلك في كلماتهم وعلى نمط تفكيرهم.
3- وتوجد وجهة نظر تركّز على العوامل الداخليّة في التشيّع, وتعتبر أن تلك العوامل هي صاحبة التأثير الأكبر في ظهور هذا التيار والتحوّل(5).
4- وفي قبال ذلك توجد قراءة ركّزت على طبيعة المنهج المتّبع من قبل المعتزلة والإمامية والذي كان قاسماً مشتركاً بينهما, وكان سبباً في الالتقاء على نتيجة واحدة في كثير من المسائل. فلا يخفى أن للعقل عند الطائفتين سهماً وافراً, ومن ثمَّ فإن الالتقاء في المسائل المشتركة مرجعه إلى استمداد الطرفين ذلك من مبادئ العقل. قال المحقّق اللاهيجي في شوارق الإلهام: (وينبغي أن يعلم أن موافقة الإمامية مع المعتزلة في أكثر الأصول الكلامية, إنما هو لاستمداد المعتزلة من الفلسفة, لا لأن أصول الإمامية مأخوذة من علوم المعتزلة, بل اُصولهم إنما أخذت من أئمتهم, وهم صلوات الله عليهم يمنعون أصحابهم من الكلام, إلا ما يكون مأخوذاً منهم عليهم السّلام, جميع ذلك ظاهر لمن مارس اُصول الإماميّة...)(6).
والذي يبدو لنا أن وجهتي النظر الأخيرتين هما الأقرب إلى الواقع, فلا شك أنه كان يوجد تيار في أصحاب الأئمة ركّز على المنهج العقلي والمحاجّة العقلية مع رجال المشارب المختلفة, وقد كان يقف على رأس هذا التيار هشام بن الحكم (ت 179هـ) فضلاً عن مؤمن الطاق وغيرهما من رجال الكلام في أصحاب الأئمة.. كما لا يخفى طبيعة المنهج العقلي الذي تشترك فيه الفرقتان. ومن ثمَّ فليس من الحَصافة القول أن أصول التشيّع قد اُخذت من الإعتزال!.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن المعتزلة في كثير من اُصولهم ومتبنّياتهم كانوا عيالاً على خطب وبيانات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله. وقد صرّح بذلك كبار أعيان الإعتزال, ويكفينا كشاهد على ذلك كلام أبي القاسم الكعبي إمام المعتزلة في أوائل القرن الرابع الهجري, فراجع(7). 
على أن هذا لا ينفي التأثّر والتأثير المتبادل بين رجال المدرستين في المسائل الفرعيّة أو في طريقة تناول المسائل والاستدلال عليها, كما سوف نلاحظ في طيّات هذا البحث, خصوصاً إذا علمنا أن الاختلاف المذهبي يومئذ لم يكن مانعاً من التلّمذة والدرس عند اتباع المدارس المختلفة.
في مقالتنا هذه سوف نتابع اتجاهي السيّد المرتضى والعلامة الحلّي في العقل العملي (الحسن والقبح), متوخّين المقارنة بينهما, ومعرفة مدى تأثّرهما بالمدارس الأخرى فضلاً عن تأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصوليّة, وذلك الصراع الفكري الحاد الذي جرى بين هذه المدرسة والتيار الأخباري.
يتبع..
الهوامش
(1) اسماعيل بن علي النوبختي (ت 311هـ) وابن اخته الحسن بن موسى النوبختي (ت 310هـ). 
(2) خلاصة الأقوال في علم الرجال, العلامة الحلّي: 179, تحقيق الشيخ جواد القيومي, مؤسسة نشر الفقاهة- قم, الطبعة الأولى 1417هـ. 
(3) انظر: الإنتصار والرد على ابن الراوندي, عبد الرحيم الخيّاط: 127, منشورات مكتبة الدار العربية للكتاب- بيروت 1993م ؛ مقالات الإسلاميين, الأشعري: 1: 35 ؛ منهاج السنة, ابن تيمية 1: 72, تحقيق محمد رشاد سالم ؛ نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام, علي سامي النشّار 2: 225 ؛ الحلاج شهيد التصوف الإسلامي, لويس ماسينيون: 283.
(4) الفوائد المدنيّة, الشيخ محمد أمين الاسترابادي: 78, تحقيق: الشيخ رحمة الله الأراكي, مؤسسة النشر الإسلامي- قم, الطبعة الأولى 1424هـ . 
(5) تطوّر المباني الفكريّة للتشيّع في القرون الثلاثة الأولى, د. حسين الطباطبائي المدرسي: 179, تعريب: فخري مشكور, مراجعة وتحقيق: محمد سليمان, دار الهادي- بيروت, الطبعة الأولى 1429م. 
(6) شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام, الشيخ عبد الرزاق اللاهيجي 1: 50, تحقيق: الشيخ علي أكبر أسد علي زاده, تقديم واشراف: الشيخ جعفر السبحاني, مؤسسة الإمام الصادق- قم, الطبعة الثانية 1428هـ . 
(7) انظر كلام الكعبي: مقالات الإسلاميين, البلخي: 68. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/10/01



كتابة تعليق لموضوع : الحُسن والقبح مقارنة بين اتجاهي السيّد المرتضى والعلامة الحلّي وتأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصوليّة (1)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net