لقراءة اي نص شعري فنحن مخيرون بين ان ننقاد الى العلاقات المباشرة والسطحية التي تعكسها العلاقات النحوية والبلاغية، او ان نجترح مدخلا مغايرا يكشف عن ما يحمله النص من رؤى، وما تختزنه دلالاته من احالات، كاشفة عن الاطر المضمرة التي تحكمه والتي تحرك اطياف النص، وتشبكه مع المحيط الثقافي العام، مجترحة خطاً بنائيا متنامياً، يحرك العلاقات الداخلية التي بنتها دلالاته واحالاتها، وانساقها، ترينا بان النص يقف على مرتكز تبنيه انساقه المضمرة، كاشفة مظهراً اخراً من مظاهره الغائبة عن افق القراءة السطحية، والتي ستفعل دلالات النص واحالاتها، اذ انها ستدفع به الى فتح فضاءاته الاشارية، انطلاقاً من هذا المرتكز، كأفق ينتظم فيه فعل القراءة وبنيته الاجرائية، يتوزع على مجموعة من الانساق تحددها جملة (فالانتحار قصيدة مليئة بالحياة) في نص (كل خلايا الله) للشاعرة كولاله نوري، فبالاضافة لكونها احد جمل النص ومنتظمة في بنيته الدلالية؛ الا اننا يمكن ان نعدها مرتكزا لقرائتنا لمجمل النص، إذ تطرح هذه الجملة ثلاث انساق بنائية:
* النسق المهيمن (الانتحار)
الذي عزز هذه الهيمنه داخل الجملة ومن بعد ذلك داخل النص هو حرف العطف (الفاء الفصيحة) التي سبقت الانتحار مفصحة عن المعطوف عليه المحذوف والذي مثلته قبلاً دلالات النص فالفاء هي حسب اهل اللغة (يؤتى بها للإفصاح عن كلام مقدر، مستفاد من كلام سابق عليها)، ومثلت ايضاً هذه الهيمنة من خلال دلالة العنوان الفرعي (في حضرة انتحار لم يكتمل)، وكذلك تكرار اللازمة (لابأس حين انتحاري)، إذ كانت (المعطوف عليه المحذوف) في الجملة التي اعتبرناها المرتكز الذي يكشف مضمرات النص:
لا بأس حين انتحاري
ألّا تحِلّ الطمأنينة
خلف الحواس المطفأة.
فالشبهات حول حياتي هذه
بحاجة لإكتمال نِصاب القطيعة ،
أن اوقّف هذيان برج السرطان
وان أزيل مجسّات الاصدقاء التي تسوّستْ اخيراً،
أن املأ رأسي بأزيز هبوط قلبي وارتفاعه في محطّات الشطب.
أن ألقي بالأرانب المحشورة في شراييني .
أن أردم
الخنادق التي باركتْ قفزاتي فيها لتزيد نفسها عمقا
و تزيدني قرفصاء .
حيث مثلت هذه اللازمة السدى الذي بني عليه النص، وانطلقت منه دلالاته وعلاقاتها التركيبية، وقد وردت تلك اللازمة بصورة غير مباشرة، ولكنها مقاربة، حافظت على دلالتها الأصلية وهي (لابأس حين تتحسن الحياة بعدي)، اذ اكتفى النص بكلمة (بعدي) عن كلمة الانتحار:
لا بأس حين تتحسَن الحياة بعدي
أن تغرقَ دقيقة في بكاء رقم صامت فائِتْ.
هي روح أُخرى في نيّتها البقاء أطول مني ،
ستقلع الروح الثانية عن إدارة شؤونها ،
وتميل الى الحدّ من كوابيس كورال الموتى ،
ومخاض الفصول
وقيامة البشاعة
وانسحاب اللمعة الاولى من أطراف الفرح
ومثول الفشل على ضفة السلامة.
الجمر واحد قبل الانتحار وبعده
لكن الدهشة أقل توفرا –لا بأس ثانية
فالانتحار قصيدة مليئة بالحياة .
والوسواس أضعف في الذاكرة الميتة .
لِمَ امدّد بكائي إذن
بينما كل خلايا لله تعانق نظرتي.
الانتحار كما هو معروف فعل فردي، وقد بدى واضحاً داخل النص بأرتباطه بصوت (انا النص)، (انتحاري، حياتي، أوقف، أزيل، أملأ.... الخ)، لذلك فالانتحار يقسم النص الى قسمين هما؛ انا والاخر، حيث ظهر الاخر بصفات عامة مثلت الوجود والحياة، وصفات اخرى مرتبطة بأشخاص ومواقف كـ(الاصدقاء، الخنادق... الخ)، وايضا صورته المختفية خلف دلالات النص وعلاقاته.
لابد من الاشارة هنا الى ان العنوان الفرعي للنص اعطانا توصيفا لهذا الانتحار بأنه لم يكتمل بعد، والذي لم نلاحظ حدوثه داخل النص ولو مجازياً، انما هي تهويمات حول هذا الفعل، وكما هو ظاهر بأرتباطه بظرف الزمان (حين)، مقيدا البنية الدلالية في ظرفية زمانية محددة بالانتحار، اي لاقبله ولا بعده، إذ انه دلالة على استمرارية الفعل الانساني تجاه الحياة/ الوجود، وخرق بنيتها الخطية.
* نسق القصيدة
النسق الثاني الذي تطرحه الجملة هو نسق القصيدة، الذي يتقارب مع النسق السابق باعتبار ان كليهما بنيتين اجرائيتين تجاه الحياة/ الوجود، فالاول وهو الانتحار فعل مواجهة مباشرة واقصاء للحياة، بينما الثاني؛ القصيدة هي فعل مواجهة غير مباشرة وتماهي مع تلك الحياة ومحاولة تطويعها واختزالها اوفهمها، او حتى الوقوف ضدها.
لذلك كانت القصيدة/ النص ككل واحد، موقفا صريحا تجاه الحياة من خلال فعل الانتحار، متأثرة بالوصف الذي فرضته هذه الدلالة، ولم يكن النص إلا تماهياً معا، ولم يحاول ان يقصيها، بل انساق معها، وربما اخذ منها موقفا مضاداً في قراءة اخرى، ولكنه كما اسلفنا لم يقصها من مدى تشكله وعلاقاته المتنامية مع ذلك الفعل وتمثلاته.
* نسق الحياة
بدى هذا النسق داخل الجملة كبنية لاحقة، لا ترتبط بالنسق المهيمن بصورة مباشرة، لانهما دلالياً متعارضين، ولكنهما يشكلان علاقة بنيوية من خلال وسيط هو القصيدة.
كانت الحياة داخل النص هي الفعل الاخر بمواجهة الانتحار، حيث انه اقصاء لتلك الحياة وخرق بنيتها الخطية، لخلق الانزياح الذي يولد شعريتها، حيث نرى بان كل دلالات النص وعلاقاته هي علاقة حياة وتمثلاتها الوجودية، والذي يقف الانتحار على مشارفها مقيدا بـ (حين) الظرفية..
* استنتاج اخير
تقودنا العلاقة بين هذه الانساق البنائية التي اجترحناها سابقاً وهي (النسق المهيمن "الانتحار"، نسق القصيدة، نسق الحياة)، والمعتمدة على ما اسميناها بجملة الارتكاز التي يستند عليها النص، الى إن هذا الانتحار وبتأويل مبسط وسطحي، هو عملية مجازية يقصد بها كتابة الشعر، الذي هو بنية اجرائية تخل بنظام الوجود المستكين، وهي مملوءة بالحياة التي هي احد تمثلات ذلك الوجود، ولكن بقراءة اخرى يظهر ان هذا الانتحار (النصوصي) ليس اجراءاً مختصاً بالموت كنتيجة حتمية لهذا الفعل، وانما هو فعل حياتي يتماهى ويتشكل من خلال تمظهرات تلك الحياة وعلاقاتها البنائية، كنص وجودي او كتابي.
وربما لا يمكننا تعميم ما اجترحناه سابقا على مجمل تجربة الشاعرة كولالة نوري، ولكن هذه الالية التي يكشف بها النص عن نفسه، تظهر في الكثير من نصوص الشعراء، والتي ربما تتشابه مع ما تعرف بـ(الجملة الثقافية) في منهج النقد الثقافي والتي يصفها الناقد عبد الله الغذامي بانها (في كل نص هناك لحظات تمثل حالة التكوين النووي للنص، وهي بمثابة المطبخ النصي الذي تنصهر فيه القيم السردية وتتأسس عليه ذهنية النص، ومنه سنجد الجملة الثقافية الكاشفة)، ولكنها تفترق عنها بكونها كاشفة للانساق المضمرة لدلالات النص، وليس الانساق الثقافية المضمرة، اي انها تقترب من الادبية اكثر من كونها قراءة ثقافية.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat