يا لها من ساعات مضت، وأيام انصرمت، وسنوات مرت كمرور السحاب في عنان السماء, لم تدم فيها سوى الذكريات التي بقيت لا تبارح المخيلات, اذ التقطتها القلوب قبل العيون، لتشعر بها مع كل نبضة في الصميم من افراح واحزان ومشاهد جميلة مرت كالدخان...
كم هي مليئة بالبراءة والجمال تلك ايام الطفولة الرائعة التي تلاشت سريعاً, فمذ كنت طفلا صغيرا لازمت أبي كثيرا من الاحيان, وعند مرافقتي له بالتجول من مكان الى مكان, سألته عن كل شيء بدا لي غريبا في الاذهان, كان يملي علي اسهل العبارات لتصل وتطبع في مخيلتي. ذات يوم كان الهواء قارصا من شدة البرد, واذا بالشمس قد تلبدت خلف الغيوم الداكنة, خرجت برفقته مجددا لنركب في تلك الحافلة التي اخذت بالاكتظاظ, ومن بين الركاب الذين لحقوا بنا رجل طاعن في السن, بينما كانت جميع المقاعد مشغولة, همّ احد الجالسين - وكان شابا – بالوقوف، قلت في نفسي: ربما وصل الى مبتغاه, لكنه سرعان ما أمسك بذلك الرجل الكبير واجلسه في مكانه, بينما ظل واقفا على قدميه، فاستغربت مما رأيته..!, التفتُ الى والدي الذي كان مشغولاً بقراءة احدى الجرائد اليومية آنذاك, اخبرته بما جرى مع اشارة تعجب لاحت على عينيّ!, ابتسم ثم قال: ان ما قام به ذلك الشاب انما هو دين سيوفى به عندما يكبر، وذلك الرجل الكبير استوفى ما فعله في شبابه, بينما كان والدي يواصل حديثه كنت انظر الى الشاب والرجل تارة اخرى الذي راح يشكر الشاب على ايثاره الرائع.
اكمل والدي حديثه قائلاً: فعليك يا بني ان تقدم كل ما بوسعك لترفع عن كاهل المحتاج ولو الشيء القليل, لكي يكون عندك رصيد كبير تحتاجه في احلك الظروف. اكمل ابي قراءته للجريدة بينما نظرت الى الشيخ الكبير لأجد ابتسامة لاحت على محياه, وكأن الدنيا قد ابتسمت معه في تلك اللحظة, ليكون ذلك درسا خالدا في مخيلتي ما حييت.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat