صفحة الكاتب : الشيخ ليث الكربلائي

الطبقة المثقفة بين شاغرية المكان وضُعف العُدَّة
الشيخ ليث الكربلائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


عندما نتصفح اوراق تاريخ الحظارة الانسانية منذ مهدها الاول وحتى يومنا هذا نلاحظ ان جميع الحركات النهضوية التمدنية الواعية انطلقت من بين احضان الطبقات المثقفة لدى مختلف شعوب العالم وكل بحسبه .. ومن النادر ان نجد حركة اصلاحية علمية تمدنية انطلقت من مواقع سياسية سلطوية محضة فحتى لو بدى ان بعضها كذلك ففي الواقع لو بحثنا في خلفياتها لوجدنا طبقة واعية لمرحلتها تقف وراء حث او اجبار دار السلطة على الانصياع لمطاليبها ، اذ دوما يرغب الحكام في ابقاء الاشياء على ماهي عليه بسبب خوفهم من ان تغييرها قد يصحب معه تغييرهم وبالتالي فالتغيير يمثل مجازفة من النوع الخطير بالنسبة لهم .. هذا اذا لم يفكروا بطريقة دكتاتورية تعتمد على زرع الفقر والتخلف اوالطائفية والاثنية والعرقية في البلاد لاشغال الناس عن مواجهة استبدادهم وطغيانهم
بعد هذا من حقنا ان نتسائل في اي زاوية مظلمة من العالم تقف الطبقة العربية المثقفة حتى تجري كل هذه الويلات على شعوبها ولا تحرك ساكنا ؟!!
في الواقع ابغض المنطق القومي واتطلع الى منطق الامة الاسلامية المتراصة (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) ولكن هذه المرة اجدني مضطرا للحديث عن العروبة لا غير لأنا نجد دولا اسلامية غير عربية بفضل محاولتها تطبيق النظام الاسلامي راحت تعد في مصاف الدول العظمى مما يكشف عن ان الازمة ازمة هوية ضائعة وبالتالي ازمة عروبة لا ازمة اسلام
ونحن كعراقيين على وجه التحديد من حقنا ان نتسائل ما هو المشروع النهضوي الذي قدمته الطبقة المثقفة في العراق لاجل النهوض بواقع البلد المرير مع انه امس ما تكون الحاجة لهذه الطبقة في هذا الظرف الحرج؟!
الحق انه لا يمكن وضع جواب شاف لهذا التساؤل مالم نضع جوابا لسؤال هل البسيطة اعني السؤال عن اصل وجود الطبقة المثقفة من عدمه في البلدان العربية عموما ومن بينها العراق ! فهل فعلا هناك طبقة مثقفة حتى نتأمل في انجازاتها وحراكها ام ان القضية صارت سالبة بانتفاء الموضوع ؟!
قد يبدو هذا التساؤل الاخير للوهلة الاولى ساذجا ولكنه في الواقع تساؤل مهم اريد ان اتوصل من خلاله الى طرح سؤال اخير واهم اذ لا يمكن ان نضع جوابا لسؤال هل البسيطة الا بعد وضع جواب لتساؤل اخر يقول : ما هي الضابطة والمعيار في تحديد الطبقة المثقفة وتمييزها من غيرها ؟
في الواقع قد وضعوا لهذا الاخير عدة اجابات ابرزها واكثرها شهرة هو التعويل على المرحلة الدراسية ومكانها  وكذا الالقاب العلمية التي نالها الشخص وبالتالي فان كل من وثيقة التخرج والشهادات التقديرية والانتماء للمؤسسات المدنية بصورة عامة فضلا عن البحوث العلمية المنجزة كلها عوامل مهمة تلعب دورا هاما في تحديد الطبقة المثقفة , ولكن الواقع يشهد بان هذه الضابطة عبارة عن ميزان قد اختل ناظمه فكم من دارس وجدناه مهوسا بعشق الاحزاب والسلاطين وكم من دارس صار عبئا على الامة و غدا يهتف لفلانا وعلانا ( بالروح بالدم... ) , فالحق اقول اذا كان هذا هو المعيار في تحديد الطبقة المثقفة فعلى الثقافة اذا نقرأ السلام.
ان المعيار والضابطة الاجدى والانفع في المقام تتمثل في " مقدار فهم الشخص لمرحلته ومتطلبات عصره وقدرته على مواكبتها والتفاعل معها فالمثقف من كان خبيرا باهل زمانه " ان هذا المعيار هو الوحيد الكفيل بتحديد تلك الطبقة التي يمكن ان نعول عليها .. وكما هو واضح ان هذه الضابطة غير مختصة بدارس او غيره ولا برجل او امرأة نعم الانخراط في المؤسسات التعليمية الدينية او الاكاديمية له دوره الفعال في صنع اشخاص يتسمون بهذه الصفة ولكنه ليس كل شيء وايضا ليس بقاعدة كلية خصوصا مع هذا الوضع الذي صار الناس فيه يتسابقون الى الدراسة لا لأجل النهوض بالواقع العلمي وانما لاجل تحصيل لقمة العيش او بحثا عن مكانة اجتماعية فحسب.!
لذا لو اعملنا تلك الضابطة فلا اتصور ان احدا يجرؤ على القول بانها تنطبق على خلق كثير انما هي ثلة من اقل القليل اذ سنلاظ في الواقع العملي شبه غيبوبة تامة لنشاط وفاعلية هذه الطبقة ولعله من ابرز العينات التي تؤشر على ذلك :
1-    تفوق الولاء الحزبي الاعمى على حساب الدين والوطن والامر الذي يجعل هذه الظاهرة في غاية الخطورة هو عدم اقتصارها على اعضاء المنظمات والمؤسسات الحزبية فحسب بل امتدت لتطال عامة الجمهور ايضا فباتت الجماهير تمارس نشاطا حزبيا من حيث تشعر او لا تشعر ( العقل اللاواعي = خوارق اللاشعور ) وهذا امر في غاية الخطورة اذ يهدد استقرار البلد ويكشف عن غيبوبة المنطق المثقف الذي يستهدف محاسبة الاحزاب وتقييدها بدلا من اتباعها اتباعا اعمى.
2-    وجود ارضية خصبة لسريان الاشاعات لا سيما تلك التي تنسجم مع الميول العاطفية والمذهبية منها حتى وصل الامر بها ان تكون بمثابة المحرك الفعال الذي يعمل على سوق الجماهير وبالتالي البلد باتجاه معين وفق اهواء واضعيها مما يكشف عن شرخ ثقافي فاضح ومن امثلة هذه الاشاعات فكرة مختار العصر ذات الطابع الديني وفكرة القائد الضرورة او صاحب الرؤية العريقة ذات الطابع الحزبي وكذا فكرة حامي المذهب وان جميع الاخرين ليسوا بكفء لها وما شابهه فقد كان لها دور المحرك الفعال في حسم الانتخابات النيابية الاخيرة لصالح الحزب الحاكم.
3-    الظاهرة الاجتماعية - السلوك الجماعي - الغريب المتمثل بانحياز الطبقة الاكبر من الجمهور وراء الحاكم كائنا من كان سواء في عصر الدكتاتور المقبور ام بعده اذ نلاحظ ان كل من يصل الى رئاسة الوزراء يعاد انتخابه بأغلبية ساحقة بغض النظر عن انجازاته واخفاقاته وبغض النظر ايضا عن هويته وانتمائه علمانيا كان ام اسلاميا ام ليبراليا ام غيرها وبالتالي لا يمكن اقتلاع جذوره الا بالتفاف سياسي او تدخل ديني او ما شابه ذلك
ان هذه الظواهر وغيرها على الرغم من استهانة البعض بها لكنها تشكل دليلا مهما على غياب الفكر الثقافي الواعي وبالتالي غيبوبة فعالية ونشاط الطبقة المثقفة التي كان ينبغي ان تأخذ دور المحرك الفعال للمجتمع وسوقه لما فيه صلاح البلد واستقراره.
ان هذه الغيبوبة يكمن وراءها عدة امور لعل ابرزها :
1-    قلة عديد الطبقة المثقفة اذ كما لاحظنا ان تطبيق الضابطة الانفة الذكر سيخرج به الكثير ممن يحسب الناس انهم مثقفون وبالتالي لا يبقى بين ايدينا الا ثلة قليلة وربما تكون مستضعفة آثرت الصمت والانعزال ايمانا منها بان (لا رأي لمن لا يطاع).
2-    ضعف العُدَّة وعدم توفر الامكانات الكفيلة بالتمكن من خوض غمار ميدان عسير كالميدان العراقي بل العربي بصورة عامة ويتمثل هذا الضعف بشكل اساس في غياب الركيزة الإعلامية المثقفة الواعية الداعمة للحركات المدنية العلمية النهضوية وحلول الاعلام الحزبي المنافق والدكتاتوري المتفرعن والعلماني المتحلل محلها وهيمنته على الساحة التي بات يقبضها بقبضة فولاذية وهذا امر في غاية الخطورة فمرارا ذكرت ان الحرب في عصرنا باتت حرب اعلامية اكثر مما هي حرب مسلحة او فكرية تحررية.
3-    غياب العمل المؤسساتي المنظم بسبب تحول المؤسسات الفكرية المدنية الثقافية من كونها مؤسسات عامة تستهدف خدمة المجتمع الى مؤسسات محتكرة على افراد معينين لهم ارتباط بالمؤسس اوما شابهه فلا تتعامل مع غيرهم وبالتالي غياب المرجحات العلمية وحلول المرجحات الاجتماعية محلها في التحكم بطبيعة عمل هذه المؤسسات وهذا ان دل على شيء فانما يدل على غياب الفكر الثقافي التحرري المنفتح وسيادة ضرب من ضروب الدوغمائية والشخصنة بل في تطور غريب كثيرا ما تتحول هذه المؤسسات الى مجرد مؤسسات ربحية متخلية عن هدفها الاساس.
واخيرا في لمحة سريعة الى الحلول وان كان الامر يحتاج الى بحث مفصل ولكن اقول على عجالة لابد من تفعيل دور المؤسسات المدنية الفكرية في البلد وعلى الاخوة الذين يجدون في انفسهم القابلية ان لا يعولوا كثيرا على الجهود الفردية التي يبذلونها هنا وهناك فهي وان كانت مشكورة لكنها ذات امكانات محدودة .. عليهم ان يتحملوا المسؤلية ويفعلوا الروح الجماعية ليعيدوا فاعلية العمل المؤسساتي المنظم والهادف فهذه الطريقة تبدوا وكأنها الطريقة الوحيد الكفيلة بالتغلب على عاملي ضعف العدة والعدد وبالتالي وضع حلول ناجعة لهذه الازمة فنحن لا نتعامل مع ظاهرة عابرة حتى نعول على الجهود الفردية انما نتعامل مع ظاهرة اجتماعية راسخة ينبغي ان توضع لها حلولا يمكن تسويقها وتطبيقها على نطاق واسع ولنا في التاريخ خير العبر ولا اذهب بعيدا ففي فترة عبد الكريم قاسم ومن سبقه تعرضت البلاد الى موجة شيوعية و علمانية الحادية اجتاحت البلاد طولا وعرضا فانطلق الجميع للمواجهة باستغلال المناصب السياسية السيادية وتحويل المعركة الى معركة سياسية ادارية بحتة ولكن سرعان ما انذهل الجميع من الصفعة التي وجهتها العلمانية لهذه الانطلاقة وحينها فكروا بالعمل على الإعداد لمواجهة فكرية ثقافية فانبثقت في النجف الاشرف رابطة جماعة العلماء التي عمل فيها خيرة العلماء واعيانهم من امثال الآيات العظام السيد محمد باقر الصدر و الشيخ مرتضى ال ياسين والسيد اسماعيل الصدر والشخ محمد رضا المظفر وغيرهم وكلهم مشهود لهم بالغزارة العلمية والتجديد والابداع واستيعاب ثقافة العصر ومتطلباته فضلا عن كونهم من ابرز المجتهدين في العلوم الاسلامية وقد نجحت هذه الجماعة في التصدي للمد المذكور وسحقه  واحراز نتائج بعيدة المدى بفضل عملها المؤسساتي المتكاتف وكادوا ان يشيدوا صرح دولة اسلامية لا تقهر لولا مفاجئة وصول الدكتاتور المقبور الى دفة الحكم ووقوف الجماهير مساندة له وبالتالي سيق اغلب اعضاء هذه الرابطة الى مقاصل الاعدام وفر آخرون بارواحهم خارج البلد اقول الذي نمر به اليوم يحتاج جهودا جبارة من هذا الطراز والله تعالى هو ولي التوفيق


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ ليث الكربلائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/09/08



كتابة تعليق لموضوع : الطبقة المثقفة بين شاغرية المكان وضُعف العُدَّة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net