صفحة الكاتب : عيسى الشارقي

مملكة دستورية أم جمهورية؟
عيسى الشارقي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

هذان نظامان في الحكم أحدهما طارئ على الإنسانية والآخر معروف منذ أن عرف الإنسان الدولة، فالملكية الوراثية هي النظام الذي ساد التاريخ حتى لا يكاد يذكر الناس غيره، وأما النظام الجمهوري فهو نظام حديث عرفته أوروبا في العصور المتأخرة مع انتشار مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة على أساس المواطنة.

ولقد أمكن لكلا النظامين الملكي الدستوري والجمهوري تكوين دول ناجحة ذلك لما تمكّنا من إنشاء ديمقراطية حقيقية يتم على أساسها تداول السلطة وفقا لاختيار الناس عبر دورات انتخابية منتظمة ودستور توافقي، فالملكية الدستورية هي جمهورية بشكل مخصوص.

ولقد تمسكت بعض الدول بملكيتها الدستورية كالمملكة المتحدة (بريطانيا)، وتحوّلت أخرى من الملكية الدستورية لنظام الجمهورية ككندا، وقريبا صوّت الاستراليون على التحوّل من التبعية للتاج البريطاني إلى النظام الجمهوري في استفتاء شعبي، وهكذا فالناس يختارون من بين النظامين ما يناسب أذواقهم أحيانا وليس مصالحهم فقط.

في عالمنا العربي عرفنا نظام الملكية المطلقة طوال تاريخنا السياسي تقريبا، فمنذ أن ورث معاوية الخلافة لابنه يزيد والنظام الوراثي المطلق يدور على تاريخنا في متوالية لم تنقطع، فالدولة في تاريخنا مرتبطة حتما بأسماء العوائل والقبائل، ولا غرابة فالنظام الجمهوري لم يعرف إلا حديثا، ونظام البيعة مسخ في مهده وظل مسخا حتى اليوم، فتاريخنا يبدأ بالدولة الأموية، المروانية، العباسية ...

حديثا عرفنا أنظمة جمهورية وليتنا لم نعرفها، فليس للجمهور من حظ فيها سوى الاسم، وبدلا من وراثة العائلة صارت وراثة في الحزب ورجاله أوّلا، ثم مالت نفوس الرؤساء لمذهب التوريث في الأعقاب، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لابتكر العرب نظاما جديدا جمهوريا وراثيا!

هل تعد المطالبة بالتحوّل من نظام إلى آخر منكرا؟ في عالم العصبيات نعم، وكأنّ القائل به قد أنكر ربوبية الله سبحانه عند قوم مؤمنين، وأما في عالم الديمقراطيات فالأمر ليس بمنكر، فهناك اليوم مثلا في العراق - حتى لا نذهب بعيدا - حزبٌ يدعو لعودة الملكية، وكذلك في إيران ولكن من خارجها، لأنّ معظم الناس لم تنس بعد مأساتهم مع الشاه وأبيه، وهناك أيضا من الأفغان من كان يرغب في عودة الملك حتى توفي بلا عقب رحمه الله، ولا يزال وليّ العهد السنوسي الليبي على قيد الحياة ولكن دون أن يرغب الليبيون بالعودة للملكية، ولا يزال في اليمن من يؤمن بعودة الإمام.
 

وعلى الوجه الآخر قد نجد في كل الدنيا من يرغب في التحوّل من الملكية إلى النظام الجمهوري حتى في الملكيات الدستورية، نفرةً منهم من ترف الملوك ومراسيمهم التي تراكمت على مرّ العهود، فكانت الأبهة والفخامة والإسراف قرينة الملوك حتى صارت وكأنها الطبيعة في عقول البشر، فحتى ملوك القبائل الإفريقية يرفلون في المذهّبات من التيجان والكراسي، وذلك قرين بطول المقامة على العروش، ولكن قد تجد شعبا كالإنجليز يحبّون هذا في ملوكهم، وكأنّ أبّهة الملك تغذي في نفوسهم الشعور بالتميّز ورفعة الأنف التي عرفت عنهم.

ليس منكرا في الديمقراطيات إذًا المطالبة بتغيير نظام الحكم من وجه لآخر، وأما في غير الديمقراطيات فقد يُعدّ منكرا عظيما أشبه بالإلحاد والكفر بعد الإيمان، ويعتبر خيانة وطنية، والمطالبة بإسقاط نظام جمهوري فاسد أكثر قربا من عقول الناس من المطالبة بإسقاط نظام ملكي، ذلك أن عمر فترة الرئيس ونظامه الفاسد لا يتجاوز العقود، ولم يتعوّد عليه الناس لأكثر من جيل أو جيلين، ولأنّ طبيعة النظام النظرية تقتضي التغيير، وأمّا الملكية فعمرها في الناس قد يبلغ مائة عام بل مئات، حتى رسخت في ذهن الناس طويلا جيلا على أثر جيل، ولهذا فسقوط الملكيات كثيرا ما كان مكلفا، وكثيرا ما كان بعد تغيّرات ثقافية عميقة، كسقوط الملكية الفرنسية بعد الثورة الثقافية التنويرية، والقيصرية الروسية بالثورة الاشتراكية.

هل تصلح الدعوة للجمهورية في بلاد الخليج العربية؟ أما إن أردنا سلوك الطريق الديمقراطية ففي الخليج لا توجد أرضية ثقافية ناضجة ولا اجتماعية، فالناس في الخليج متخلفون اجتماعيا وثقافيا عن الديمقراطية والمواطنة، وهم جميعا يعظمون القبيلة والمشيخة، فاتّباع رأي الشيخ يحفظ القبيلة ويسدّد خطواتها ويحمي أفرادها، ودخول القبائل في أحلاف مع بعضها بحيث تختار أقواها وأغناها شيخًا للشيوخ أو (ملكا) كما كانوا يسمونه أمرٌ معروفٌ وقديم، ومن أشهرهم في التاريخ الجاهلي كُليب الكندي الذي بمقتله نشبت حرب البسوس، فهذا الذي نراه ونسمعه من المسميات الحديثة كدولة وإمارة ومملكة وما نراه ونسمعه من مؤسسات حديثة كالبرلمان والحكومة والشورى فهي كلها غلالات وأغلفة صالحة للتداول عالميا، ولكن الروح والأخلاق والثقافة قبليّة تقوم على أعراف القبيلة وآدابها ومراسيمها، فالناس في بيوتها لا تزال بدوًا في خيامها، حتى من يحمل منهم أكبر المؤهلات العلمية ويستخدم أحدث التكنولوجيا، فحتى الدين ظل في المرتبة الأدنى من صلة الدم.

وإلى اليوم وفي كل البلاد الخليجية يستنكف البدو من تزويج بناتهن للمواطنين العرب مجهولي النسب القبلي، فالقبليّ لا يرى الحضريّ كفؤا له، بل في بعض البلاد يكون هذا وجهًا صحيحا لطلب الطلاق نظرا لعدم التكافؤ، من هنا فهناك طبقية غير مكتوبة في الخليج، فقد تجد شخصًا يحمل شهادة عليا أو كاتبا معروفا أو تاجرا أو شابا يحمل من الصفات والأخلاق ما يغبطه عليها الناس، ولكنه لو خطب ممّن هو أقلّ شأنا منه في ذلك كله لما زوّجه، لأنّ ذيل الاسم الكاشف عن الأصل يبقى فوق ذلك كله، من هنا فأكثر المجتمعات معاناةً في الخليج لا من ناحية الرخاء أو الثروة بل من ناحية المقام والسلطة هم أهل المدن والقرى الذين ضاعت أصولهم العربية لطول التحضّر، أو لكونهم من أصول أجنبية من فارس والهند وغيرها، كما في حضر أهل جدّة، وأهل البحرين والكويت فمهما علا علمهم وشأنهم فلابد وأن يوجد ابن قبيلة من فوقه عنده تنتهي السلسلة والقرار.

لا يوجد تقدّم في ثقافة السياسة لا في المجتمع القبلي ولا في العوائل الحاكمة كممثل أعلى لسلطة القبيلة يجعلهم مؤهلين لقبول الجمهورية اختيارًا لو حدث استفتاء، فأوّلا لن يقبل حدوثه، ولو حدث فلن تقبل نتائجه، ليس لاستحالة ذلك ولكن لعدم نضوج التحضّر الخليجي بالدرجة التي سمحت لإمبراطور اليابان ابن الشمس ولملكة بريطانيا ابنة السلالة الملكية العريقة قائدة المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، ولسائر ملوك العالم ممّن هم جميعا أكثر تمدّنا من مجتمعاتنا بأن يقبلوا التخلي عن سلطاتهم المطلقة لصالح سلطة الشعب، حين أصبحت هي مصدر السلطات في ثقافتهم، ولكن مصدر السلطات في ثقافتنا ووجداننا - ودع عنك الكراريس- لا يزال بعيدا عن الشعب، فهو إما وراثةٌ من أب، أو وراثة من رب.

إن المطالبة بالجمهورية في الخليج غير مناسب للبنية الاجتماعية ولمستوى النضج السياسي، والأسلم منها المطالبة بالملكية الدستورية، فهي خطوة متقدمة سياسيا ومناسبة اجتماعيا، بل هي فوق المفكَّر فيه في بعض بلاد الخليج، ومن التهوّر تحميل المجتمعات فوق ما تحتمل عقولها، ولقد تأخر تحريم الخمر في الإسلام ستّ عشرة سنة، فكان من المحتمل أنّ بعض المسلمين الأوائل يجاهدون في سبيل الله في بدر وأحد ودنان الخمور في محاملهم، لم يسقط ذلك من شرفهم عند الله.

ويبقى سؤال، هل من الضروري أن يثور الجمهور لكي يبادر الحكام في الإصلاح؟ ألا يمكننا الهروب من الأزمة إلى الأمام؟ فنستبقها قبل أن تحلّ بنا، ونرحم أنفسنا وبلادنا من الاختلال، فنفكر في الحلول الايجابية النافعة للجميع بدلا من التفكير في حلول سلبية تقوم على المغالبة والمكابرة؟!

إنّ كثيرا من التطورات التعليميّة والاقتصادية والعمرانية والمدنية في الخليج كانت بمبادرات حكومية تفوق الوعي الشعبي حينها، فلماذا لا يبادر الحكام إلى تطوير الحالة السياسية والحقوقية كما فعلوا في الحالة العمرانية والاقتصادية؟ لقد سبقهم من ملوك الدنيا من هم أكثر من بلداننا قوة وآثارا وعلما وعمارًا، كملوك اليابان وبريطانيا، فالدعوة إليهم قائمة، والمبادرة منهم واجبة وملحة، وسيسجّل لهم التاريخ هذه اللحظة من الوعي بضرورات المرحلة، وأنهم اغتنموا الفرصة التي أنقذت البلاد والعباد، وسيكون ذلك أدوم للملك، وأرضى للشعوب، وأبيض للوجه، وأجلب للاحترام في المحافل الدولية، فهل هناك ما يعدل جمال هذه الثمرات؟

 

عيسى الشارقي

جمعية التجديد الثقافية - مملكة البحرين
http://www.tajdeed.org/article.aspx?id=11558

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عيسى الشارقي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/04/26



كتابة تعليق لموضوع : مملكة دستورية أم جمهورية؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net