صفحة الكاتب : نزار حيدر

عَلَّمَتْنا كَرْبَلاءُ (5)
نزار حيدر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

انّ الهدف الكبير بحاجةٍ الى تضحيةٍ كبيرةٍ، سواء كان ذلك على المستوى الشّخصي او على مستوى الامّة.

   وتعظم التّضحية اذا كانت من أجل الإصلاح، خاصّة إصلاح القيم والمفاهيم والرّؤى عندما تتعرض للتّشويه والتّحريف والتّضليل.

   وتعظم التّضحية أكثر فأكثر اذا كانت من أجلِ إصلاح القيم السّماوية العظيمة التي تطالَها البدع التي يخترعها الحاكم لخدمة سياساته وأجندته الخاصّة، وتحديداً اذا كان يسمّي نَفْسَهُ خليفةً يحكمُ باسم الله وباسم رسولهِ وباسم دين الله، ويدَّعي انّهُ وليّ الامر، وهو لا يُحسنُ قراءة آية من كتابِ الله العزيز، فعندها يصدقُ لسان حال سيّد شباب أهل الجنة الامام الحسين بن علي عليهما السلام {إن كانَ دينُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَستقِمْ الا بقتْلي، فيا سُيوف خُذيني}.

   لقد تعرّضت أقدس قيم الرّسالة الى التّحريف والتّزييف والتّغيير والتّبديل باعتلاءِ الطّاغية الارعن يزيد بن مُعاوية الطريد ابن آكلة الأكباد السلطة.

   والمشكلةُ كانت أعظم لانّهُ اعتلى السّلطة كخليفةٍ لرسولِ الله (ص) وصدق الحسين السّبط (ع) عندما وصفَ الحالُ آنئذ بقوله {إِنّا لله وإِنّا اليهِ راجعون، وعلى الاسلامِ السّلامِ إِذ قَدْ بُلِيَت الامّة بِراعٍ مِثْلَ يَزيدٍ} فَلَو انّهُ كان قد اعتلاها باسم الدّنيا وليس باسم الدّين لهانَ الامرُ، فلا الحسين (ع) كان يصرّ على فضحهِ وتعريتهِ، ولا هو كان يصرّ على أخذ البيعة من الامام، لانّه إنّما اصرّ على ذلك خوفاً على شرعيّة خلافتهِ وسلطتهِ ونظامهِ وليس لأي شَيْءٍ آخر، فإذا لم يكُن يحتاج مثل هذه الشرعيّة لما أصرّ على انتزاعِها من الحسين عليه السلام بإصرارهِ على ان يُبايع فوراً كما جاء في كتابهِ لوالي الأمويّين على المدينة المنورة، الوليد بن عتبة بن ابي سفيان (أمّا بعدُ، فخُذ حسيناً بالبيعةِ أخذاً شديداً ليست فيه رُخصة حتّى يُبايع والسّلام).

   وتقفُ الكرامةُ الإنسانيّة على رأس هذه القيم العظيمة؛ والتي جعلها الله تعالى لعبادهِ عندما خلقهُم فقال عزّ مَن قائل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} ولذلك لا يحقّ لأحدٍ، مهما كانت صفتهُ، ان يسلُبها او ينتزعها منهم مهما كانت الظّروف.

   ولقد تمثّل السّحق المنظّم الذي تعرّضت لهُ كرامة الانسان في عهدِ الأمويين، بما يلي؛

   ١/ لم يعُد المواطن يأمن على نفسهِ ومالهِ وعِرضهِ، فقد كان النّاس يتعرّضون للغارات المسلّحة في كلّ الأوقات، فيما يعتبر الاسلام انّ الأمن يمثّل حجر الزّاوية لتحقيق كرامة الانسان، ولذلك أمر الله تعالى رسولهُ الكريم (ص) بقوله {وَإِنْ أَحَدٌ

مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}.

   لنقرأ ما يقولهُ الامام أمير المؤمنين (ع) يصف حالة انعدامِ الأمن في المجتمع بسبب سياسات طاغية الشام مُعاوية بن هند الإرهابية؛

   وَهذَا أَخُو غَامِد قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الاَْنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا.

   وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالاُْخْرَى المُعَاهَدَةِ، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً.

   ولانّ الكرامة هي أعظمُ قيمةٍ في كلّ المفاهيم ولذلك اعتبر الامام أمير المؤمنين (ع) انّ مهمّة الحاكم هو العمل على كلّ المستويات لتحقيقها وصيانتها من العبَث والعُدوان، فكتبَ في عهدهِ الى مالك الأشتر لمّا ولّاه مِصر:

   بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاَْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْوةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا.

   فالكرامةُ تتحقّق على أربعةِ مستويات؛ الأمن الاقتصادي والأمن المجتمعي والسّلم الأهلي والرّفاهية التي تحقّق السّعادة، والى ذلك أشار قول الله تعالى {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.

   وإذا أردنا ان نتخيّل مدى سحق الطّاغية يزيد لكرامةِ الانسان، بتضييع الأمن وعلى مختلف المستويات، يكفينا ان نعرف انّهُ ارتكبَ في كلّ عامٍ من أعوام سلطتهِ الظّالمة التي استمرّت ثلاث سنوات فقط، ثلاثة من أعظم الجرائم البشعة، والتي تقف على رأسها قتله لسبط رسول الله (ص) الحسين الشهيد بن علي (ع).

   أمّا في وقعةِ (الحَرّة) التي استباحَ يزيدٌ فيها المدينة ثلاثة ايام فقد سُئِل عنها الزّهري: كم كان القتلى يَوْمَ الحرّة؟ قال: سبعمائة من وجوهِ النّاس من المهاجرين والأنصار، ووجوهُ الموالي وممّن لا يُعرف من حُرٍّ وعبدٍ وغيرهم عشرة آلاف، وقال المدائني: أباحَ مسلم بن عقبة، وبأمرٍ من يزيد بن مُعاوية، المدينة ثلاثة أيام يقتلونَ النّاس ويأخذونَ الأموال ووقعوا على النّساء حتّى قيل: إِنَّهُ حبَلت ألفُ إِمرأةٍ في تِلكَ الأيّام.

   كلُّ هذه الجرائم ارتكبها يزيد بصفتهِ الحاكم بأمر الله تعالى وخليفةِ رسول الله (ص) فشرعنَ الجريمة وسَحْقِ الكرامةِ لمن جاء من بعده ممّن سار على نهجهِ الى اليوم، ولذلك فليسَ مستغرباً أبداً ان نرى الإرهابيين التكفيرييّن المدعومين بفتاوى فقهاء البلاط ووعّاظ السّلاطين من الحزب الوهابي المحميّين بسلطة نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية، انّهم يتعبّدون بقتلِ الأبرياء وحزّ الرقاب وحرقِ ضحاياهم وتفجير السّيارات المُفخّخة والاحزِمة النّاسفة في الأماكنِ المزدحمةِ وفي المساجد والحسينيّات وفي مواكبِ العزاءِ ومسيراتِ عاشوراء.

   انّها السّياسة والوسائل والاساليب الأمويّة التي غذّى بها الأمويّون الامّة بالتّفسير المضلّل والحديث المكذوب والعقيدة الفاسدة والفهم المنحرِف.

   لذلك كانَ هدفِ الحسين (ع) عظيماً جداً تمثّل بالإصلاح على مستويين؛

   الاوّل؛ هو فضح الأموييّن لعزلهم عن الدّين وقيمهِ ومبادئهِ.

   الثّاني؛ هو تصحيح المفاهيم الدّينية الانسانيّة العظيمة التي طالتها يدُ التّحريف الأموي من خلال إلحاق والصاق كلّ انواع البِدع فيها وعلى رأسِها البِدَع على مستوى العقيدة.

   ٢/ سياسات الفرض والاكراه التي مارسها الأمويّون ضدّ النّاس، لدرجةِ سلبهم خياراتهم والسيطرة على عقولِهم وطريقة تفكيرِهم وفهمهم وتبنيهم للمعتقد الذي يرَونهُ سليماً وكذلك ولاءاتهم.

   انّ حريّة الاختيار ابرز مصاديق الكرامة الانسانيّة، ولذلك لم يقبل ربّ العالمين مفهوم (السّيطرة) على العباد لرسوله الكريم فكيف بالأمويين؟ وتحديداً الطّاغية الارعن يزيد؟.

   لقد قال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} وفي آيةٍ أخرى {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فكيف أجاز الأمويّون لأنفسهم فرض سيطرتهم على الامّة بالاكراهِ والعنفِ والارهابِ؟ وكلُّ ذلك بِاسْمِ الدّين؟!.

   لقد علّمتنا كربلاء انّ الجهاد ضدّ البدعة، خاصةً على مستوى العقيدة والمفاهيم والقيم، هو أَعظمُ الجهاد، يستحقّ أعظم التّضحيات، فكانت تضحيةُ الحسين (ع) في عاشوراء من أجل؛

   *شرعنة الخروج على الحاكم الظّالم حتى اذا ادّعى انّهُ ظلُّ الله في الأَرْضِ وانّهُ خليفة رسول الله (ص) وانّهُ وليُّ الامر.

   *شرعنة التّضحية بالنّفس من أجل الكرامةِ الانسانيّة، خاصةً اذا تعرّض لها واعتدى عليها حاكمٌ ظالمٌ باسم الله وباسم رسوله.

   فسلامٌ على الحسينِ (ع) في العالمين.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نزار حيدر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/22



كتابة تعليق لموضوع : عَلَّمَتْنا كَرْبَلاءُ (5)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net