العرب والموالي في نهضة المختار - الحلقة الرابعة
محمد الحميداوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الحميداوي

تعقيبات حول نهضة المختار
-------
الاول - اعتمد المختار على أمرين أساسيين في إيجاد تاثير له في نفوس اتباعه والمعجبين به ( السجع والانباءات الغيبية) ،حتى أتهم على اثر ذلك بالكهانة وادعاء النبوة !
واغلب الظن ان الرجل قد تعمّد ذلك في محاولة واضحة منه للتشبه بأمير المؤمنين -ع- الذي تسيل سيرته الشريفة بلاغةً واخبارات مغيبة .
اذا تجاوزنا الامر الاول أعني البلاغة والسجع ،فلابد ان نتسائل : هل كان المختار مدعيّاً في الامر الثاني او انه كان يُخبر عن واقع تلقاه من ذي علم ؟ وان كان هناك ذو علم فعلاً فمن هو ؟
يذكر الدينوري في الاخبار الطوال ص٣٠٠ محاورة فريدة بين المختار وقائد جيشه ابراهيم بن مالك الاشتر ،قال فيها المختار )... ايها الرجل انما هو انا وانت فسر اليهم فوالله لتقتلن الفاسق عبيد الله بن زياد ولتقتلن الحصين بن نمير وليهزمن الله بك ذلك الجيش ،اخبرني بذلك من قرأ الكتب وعرف الملاحم ....).
ان هذه المحاورة ربما تكشف مصدر استقاء المختار معلوماته وتسلط الضوء على وجود شخصية فاعلة زودته بهذه الاخبارات الكثيرة التي أدت الى وصمه بالكهانة وادعاء النبوة ،لكن من هي هذه الشخصية ؟!
ان استقراء تاريخ المختار بحسب المستندات التاريخية المتوفرة لدينا تُثبت انه لم يلتق بشخصية يمكن ان تكون بمستوى الاخبار بالملاحم والاطلاع على الكتب كما جاء في حديثه مع ابن الاشتر الا شخصية واحدة هي :
ميثم التمار !
هذه الشخصية الفذة التي بلغت من يقينها حداً ان امير المؤمنين -ع- اخبره بمقتله بل وأراه الشجرة التي يصلب عليها وتفاصيل موته البطيء ،وكان موضع اهتمامه ووصية الرسول -ص- لعلي بن ابي طالب -ع- دون ان يراه كما يظهر من خبر ام سلمة مع ميثم التمار :(وحج في السنة التي قتل فيها فدخل على أم سلمة - رضي الله عنها - فقالت له: من أنت؟ قال: عراقي. فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب.
فقالت: أنت هيثم؟ قال: بل أنا ميثم. فقالت: سبحان الله، والله لربما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يوصي بك عليا في جوف الليل. فسألها عن الحسين بن علي، فقالت: هو في حائط له. قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله ولا أقدر اليوم على لقائه وأريد الرجوع.......) ابن ابي الحديد ج٢ ص٢٩٢
هذه التفاصيل وغيرها يذكرها ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة ج٦ص٢٥٠
ويورد فيها فقرة- تذكرها مصادر كثيرة- تتعلق بحبس التمار تسلط الضوء على موضوعنا الأساس (... وحبس معه المختار بن عبيد فقال ميثم للمختار إنك ستفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين فتقتل هذا الذي يريد أن يقتلك ...)!
و الطريف ماذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج - ج ٢ - الصفحة ٢٩١عن كتاب الغارات :
(.....فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد الثقفي فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد: إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين عليه السلام فتقتل هذا الجبار الذي نحن في حبسه وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه..).
ويبدو ان هذا الامر تحقق بالتفصيل المذكور ،ففي الأمالي للشيخ الطوسي - الصفحة ٢٤٢
(....وبعث ابن الأشتر برأس ابن زياد إلى المختار وأعيان من كان معه، فقدم بالرؤوس والمختار يتغدى، فألقيت بين يديه، فقال: الحمد لله رب العالمين، وضع رأس الحسين بن علي (عليه السلام) بين يدي ابن زياد (لعنه الله) وهو يتغدى، وأتيت برأس ابن زياد وأنا أتغدى......... فلما فرغ المختار من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله ثم رمى بها إلى مولى له وقال: اغسلها فإني وضعتها على وجه نجس كافر)!
نعم ربما كانت هذه الاخبارات تخطأ واقعها في بعض تفاصيلها ولعل مرد ذلك الى كونها شفاهيةً قد مرت عليها سنون عديدة كما يظهر ذلك مما ذكره الطبري - ج ٤ - الصفحة ٥٥٧ عن الشعبي في حواره للرجل الهمداني (....فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمدانيين أتؤمن الآن يا شعيى قال قلت بأي شئ أومن ؟أومن بأن المختار يعلم الغيب؟ لا أومن بذلك أبدا قال أولم يقل لنا إنهم قد هزموا؟ فقلت له إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة وإنما هو بخازر من أرض الموصل فقال والله لا تؤمن يا شعبى حتى ترى العذاب الأليم ...... ).
التعقيب الثاني
---------------
كان لسياسة المساواة بين العرب والموالي التي انتهجها المختار لا اقل من جهة المشاركة في الفيء مضافاً للمطالبة بثارات الحسين -ع- الأثر الأبلغ في نفور المجتمع الكوفي بلونه العربي منه ومن دولته على الإجمال .
يسجل بعض ارباب التاريخ تضخم التذمر من السياسة الاولى قائلاً :
" ولم يكن فيما أحدث المختار عليهم شئ هو أعظم من أن جعل للموالي من الفئ نصيبا " تاريخ الطبري - ج ٤ ص ٥١٨
وقد تقدمت نصوص متعددة تسجل مبلغ تذمرهم وتجعل ماذُكر آنفاً في مطلع طعونهم على المختار .
صحيح ان أساس ثورة المختار كان يقوم على المطالبة بثارات الحسين -ع- بحيث يندر او ينعدم وجود اي أساس آخر حتى ولو كان ثانوياً يمكن الإشارة اليه في هذا الصدد،ومن هنا ربما تكون ثورة المختار من الثورات النادرة في تاريخ الاسلام التي انطلقت ونجحت وشيدت دولة على أساس ديني خالص!
رغم الذي تقدم قبل قليل الا ان الظاهر من احوال المختار هو عدم استعجاله الطلب بثأر الحسين -ع- او الاصطدام بالارستقراطية العربية اول الامر .
يقول فلهوزن :( ووفى بعهده للأشراف بالأمان، بل رغب إليهم أن يجالسوه وينصحوه كما كانوا يفعلون من قبل مع من سلفه من الولاة، وسر الحريصين على مصالح الكوفة الأصليين أن المختار فكّر في أن يجعل الكوفة مركز اً للخلافة الإسلامية مرة أخرى. واختار الموظفين والقواد من بين الطبقة العالية من النبالة الحربية العربية).
الخوارج والشيعة ص٢١
يبدو ان جملة امور ساهمت في تعجيل هذا الصدام ،فقد عرفنا سابقاً ان فرسان العرب هم قتلة الحسين -ع- وهولاء كانوا متكاثرين في الكوفة الى الحد الذي خاف معه سليمان بن صرد الخزاعي زعيم التوابين من اجهاض تحركه فيما لو كان في الكوفة ،الامر الذي دفعه لاختيار الشام بديلاً عنها ،ومن هنا فمن المنطقي ان يشعر هولاء بتوجس وريبة بل ورعب من دولة المختار ،كيف لا وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ان ثأر الحسين -ع- هو لونها وطعمها ورائحتها؟
لم يكن هذا الشعار وحده كفيلاً بان يقض مضاجع مناؤي المختار بل نفس مقومات هذه الدولة وذاتياتها كانت بالضد من توجهاتهم ونفسياتهم ،تلك المقومات التي اراد لها المختار ان تكون تجسيدياً لمباديء علي بن ابي طالب -ع- ،وهذا ما أعلنه في اول خطبة له في الكوفة برواية ابي مخنف:
" ان المختار جاء حتى دخل القصر فبات به و اصبح اشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر وخرج المختار فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ........الا فادخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا والارض فجاجا سبلا ما بايعتم بعد بيعة علي بن ابي طالب وآل علي اهدى منها " مقتل الحسين ( ع ) -ص 343 .
ومعلوم ان سياسة علي -ع- كانت تقوم في بعدها الاقتصادي على المساواة بين العرب والموالي وزعماء القبائل بآحادها وانها خلفت تذمراً واسعاً في صفوف غالبية العرب الى الحد الذي نصح فيه عبد الله بن عباس الامام الحسن -ع- بعدم تكرار سيرة والده -ع- هذه فانها السبب الأساس في انفضاض الناس عنه :
"......واعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه أساء بينهم في الفئ، وسوى بينهم في العطاء، فثقل عليهم ....." شرح النهج لابن ابي الحديد ج٦ص٢٣
يقول فلهوزن " والحق أن المختار خليق بالمديح لكونه أسبق من غيره في إدراك أن الأحوال القائمة آنذاك لا يمكن أن تبقى كما هي ، إذ لم يكن الإسلام بل العنصر العربي هو الذي يتمتّع بالحقوق المدنية الكاملة في الحكومة الدينية» الخوارج والشيعة / ص ١٥٢.
بالعودة الى شعار الثورة ( ثارات الحسين-ع-) فان تطبيقه لايمكن ان يمر دون حساسيات قبلية او قومية بعد ان نعرف ان القبائل العربية انشطرت على نفسها في دعم المختار ومعارضته وان كانت الكفة تميل لصالح المعارضين بما لا يمكن مقارنته بالمؤيدين فضلاً عن ان جلّ انصار المختار الذين يفترض تطبيق هذا الشعار على أيديهم كانوا من الموالي ،وقد تقدم بعض فعالهم تجاه قتلة الحسين -ع- عند الحديث عن كَيسان ابي عمرة وعدد المقتولين والهاربين ،لذا فمن المنطقي ان يكون للامر ارتداداته وتداعياته الاجتماعية العميقة وصلت في بعض الأحيان الى انشقاق ولاة المختار وبعض الشخصيات النافذة دينياً واجتماعياً عليه كما تقدم .
يحدثنا التاريخ ان من أخذ الأمان لعمر بن سعد (وهو قائد الجيش الذي تسبب في مذبحة كربلاء ) من المختار هو عبد الله بن جعدة بن هبيرة ( كتاب الفتوح - أحمد بن أعثم الكوفي - ج ٦ - الصفحة ٢٤٥)
وعبد الله بن جعدة هو سِبْط امير المؤمنين -ع- بحسب نقل الحاكم النيسابوري عن مصعب الزبيري صاحب ( نسب قريش) !
( قال مصعب : و مات هبيرة بنجران مشركا و أما جعدة فإنه تزوج ابنة خاله أم الحسن بنت علي و ولدت له عبد الله بن جعدة بن هبيرة الذي قيل فيه بخراسان :
( لولا ابن جعدة لم يفتح هنبركم و لا خراسان حتى ينفخ الصور )
مستدرك الحاكم ج٤ ص٣٦٠
يظهر ان ام الحسن هي شقيقة ابي الفضل العباس -ع- بنص السيد المقرّم عند حديثه عن شقيقات العباس -ع- ( وأُمّ الحسن خرجت إلى جعدة بن هبيرة المخزومي).
كتاب العباس -ع- للسيد المقرم ص١٠٩
وفي نفس الاتجاه نجد ان صحابياً كبيراً معدوداً في طليعة صحابة امير المؤمنين -ع- من مثل عدي بن حاتم الطائي يتشفع في احد قتلة الحسين -ع- ،الامر الذي اثار تعجب المختار واستغرابه فقال له ( اتستحل يا ابا طريف أن تطلب في قتلة الحسين ؟)!
يقول ابو مخنف :
"....ثم ان المختار بعث عبدالله بن كامل إلى حكيم بن طفيل الطائي السنبسى وقد كان اصاب ...العباس بن على ورمى حسينا بسهم فكان يقول تعلق سهمي بسرباله وما ضره فأتاه عبدالله بن كامل فأخذه ثم اقبل به وذهب اهله فاستغاثوا بعدي بن حاتم فلحقهم في الطريق فكلم عبدالله بن كامل فيه فقال ما إلى من أمره شئ انما ذلك إلى الامير المختار قال فاني آتيه قال فأته راشداً فمضى عدى نحو المختار وكان المختار قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع لم يكونوا نطقوا بشئ من امر الحسين ولا اهل بيته . فقالت الشيعة لابن كامل انا نخاف ان يشفع الامير عدى بن حاتم في هذا الخبيث وله من الذنب ما قد علمت فدعنا نقتله قال شأنكم به ......"
مقتل الحسين -ع- ص 378 -
ويبقى الغريب هو ماذكره الزمخشري والمرزباني في شأن عدي بن حاتم الطائي واللفظ للثاني :
" وبلغ عشرين ومائة سنة ووقع بينه وبين المختار بن أبي عبيد لما غلب على الكوفة أمر تشاجرا فيه فهم عدي بالخروج إليه ثم عجز عن ذلك لكبر سنه وضعف جسمه فقال:
أصبحت لا أنفع الصديق ولا ... أملك ضراً للشانئ الشرس
وإن جرى بي الجواد منطلقاً ... لم تملك الكف رجعة الفرس ".
معجم الشعراء للمرزباني ج١ص٢٥١
ولم يقف الامر عند هذا الحد بل وصل الى اقرب مقربي المختار واخص خاصته كما تقدم في إجارة عبد الله بن كامل الشاكري لقيس بن الأشعث !
ولا شك ان هذا النوع من المواقف كانت تقف خلفها ميولٌ قبليةٌ لم يكن يُستساغ معها ان يقاد القريب النسبي ولو بجريرة دينية كبرى من مثل الاشتراك في دم الحسين -ع- واهل بيته واصحابه - رضوان الله تعالى عليهم - ،ان تلك الميول كانت تشكل عاملاً ضاغطاً حتى على من يُعرف بالصلاح فان من الاعراف كالاجارة والدفاع عن حريم القبيلة بحق وباطل وغيرها ما يكون سبة الدهر على من لم يأخذ بها ويعمل بمقتضاها !
كان النجاشي شاعر علي «عليه السلام» بصفين، فشرب الخمر بالكوفة، فحده أمير المؤمنين «عليه السلام»، فغضب، ولحق بمعاوية، وهجا علياً «عليه السلام».
الغريب في الامر انه (... لما حد علي "عليه السلام" النجاشي غضب لذلك من كان مع علي من اليمانية و كان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب بن أسامة النهدي فدخل على أمير المؤمنين "عليه السلام" فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية و الطاعة و أهل الفرقة و الجماعة عند ولاة العدل و معادن الفضل سيان في الجزاء حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا و شتت أمورنا و حملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار فقال علي "عليه السلام" إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يا أخا بني نهد و هل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته يا أخا بني نهد إن الله تعالى يقول وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. فخرج طارق من عند علي و هو مظهر بعذره قابل له .......) الغارات الثقفي ج٢ص٥٣٩
ويبدو ان ذلك لم يدم طويلاً فان طارقاً هذا لحق بمعاوية على اثر مشادة كلامية بينه وبين الاشتر - رحمه الله- بعيد هذه الحادثة، فركب الجادة التي كان يرى انها سبيل من ركب النار ،كل ذلك أنفةً وعصبية !
اقول : اذا كان هذا حال امير المؤمنين -ع- مع شريحة اجتماعية تضم غالب أنصاره ( اليمانية) فكيف يكون الانطباع عن المختار الذي استئصل شأفة الكثير من القبائل ( المشتركة في قتل الحسين -ع-) بقتل الآلاف من ابنائها وهدم دورها واضطرار آلاف اخرى منهم للهجرة ؟!
تُظهر ابيات أعشى همدان التالية حجم الشرخ الاجتماعي الذي خلفته حركة المختار حتى بين القبيلة الواحدة التي قُتّلَ اشرافها وأبطالها بيد أبناء جلدتهم ( تقدم ذكر بعض من ذلك) فاستمع له وهو يقول :
ولـم أنسَ هَمْدَاناً غداةَ تـجوسُنا بأسيافِها لا أُسْقِيَتْ صَوْبَ هَاضِبِ
فَـقُـتِّـلَ من أشرافِنا في مَحَالِهِمْ عصائبُ منهم أردفت بعصائبِ
فـكم من كميٍّ قد أبارت سيوفُهم إلى اللهِ أشكو رزءَ تلك المصائبِ
يـقـتِّـلُنا المختارُ في كلِّ غائطٍ فيا لك دهرُ مرصدٌ بالعجائبِ!
الاخبار الطوال ص301
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat