صفحة الكاتب : صالح الطائي

نبينا في قرآننا
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لم يسمى العصر الجاهلي بهذا الاسم نتيجة الجهل ضد العلم كما هو شائع وإنما نتيجة الجهل ضد الحلم، فالحلم كان مفقودا في ذلك المجتمع الذي كان يرتكب جميع أنواع الموبقات من عبادة الأصنام إلى وأد البنات والسرقة والغش والكذب.
كان المجتمع الجاهلي غير حكيم بالمرة، وكانت هذه الصفة ملازمة لأغلب أعضائه يشتركون بها لا يشذ عنها إلا قلة، وهذه القلة لم تكن تشذ عنهم كليا وإنما جزئيا، إما عن طريق إتباع أحد الأديان السابقة للإسلام وترك جزئية عبادة الأصنام، أو الامتناع عن الوأد مع البقاء على عبادة الأصنام... الأنموذج الإنساني الأرقى كان غائبا في ذلك المجتمع إلى أن ولد الرسول المصطفى حيث فتحت ولادته الباب لميلاد قيم جديدة وآدميين جدد كان على رأسهم علي بن أبي طالب الذي ولد بالكعبة المشرفة.
لم يكن محمدا قد جاء من كوكب آخر أو جاء هجين الأصل نتيجة زواج بين عالمين مختلفين، فهو بشر كسائر بشر ذلك المجتمع وكسائر البشر الآخرين، وفي الحديث أنه (ص) كلم رجلا فأرعد الرجل، أي خاف وأرتبك، فقال له النبي: ((هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)). وفي الذكر الحكيم: {{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}}
لكنه مع ذلك وبأمر الله تعالى وكما هم الأنبياء السابقون، سما ببشريته، وشب عن طوق البشرية المعروفة بالرغم من ثبات هذه الكينونة في شخصيته، فهو لم يقل: إني مَلك أو أنزلت من السماء، أو ولدت من غير نسل آدم وحواء، لكن روحه كانت تتألق في ملكوتها البشري لتكون لها صفاتها الفريدة المتميزة حتى من قبل أن يكلف بحمل رسالة السماء للبشرية جمعاء، ولذا أراد الله تعالى من الناس أن ينظروا إليه من هذه الزاوية، زاوية التفرد، فأنزل عليهم: {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}}
وبعد البعثة، امتحن الله تعالى نبيه بمهمة إصلاح أهله أولا كما في قوله تعالى: {{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}}
ومن ثم إصلاح مجتمعه المحيط به ثانيا: {{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}}
وبعدها إصلاح البشرية جمعاء ثالثا: {{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}}
هذه المهمة التي تبدو مستحيلة في ذلك المجتمع غير الحليم، وصفها الله تعالى بقوله: {{إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا }} وما أثقلها من مهمة، إنها ميثاق الله الذي أخذه من النبيين من قبل، وهو ميثاق غليظ، قال تعالى: {{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}}
ومهمته هنا ليست من قبل الحث على الاجتهاد بل هي مسيرة واحدة خطتها إرادة السماء للأنبياء من قبل: {{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}} وهي مهمة تواصل بين الرسل: {{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}}
مهمة أن يكون المنذر: {{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ  نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ  عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}} ولينذر العالم الغافل عن ربه: {{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}}
 مهمة أن يحمل الكتاب العظيم لينقل الناس من حال إلى حال؛ هذا الكتاب الذي وصفه الله تعالى بقوله: {{الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}}
أما خلاصة المهمة فهي الحكم بين الناس بما أطلعه الله تعالى عليه من الحق، قال تعالى: {{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}} والحكم هنا ليس القضاء في الخلاف والمشاكل العامة، وإنما في مشكلة الإنسان مع ربه الخالق، ليكون البشر شهداء على أنفسهم وعلى غيرهم، ويكون النبي على ذلك شهيدا: {{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}}

من هذه المقدمة ندخل إلى أصل موضوعنا وهو (النبي في القرآن) وستكون البداية مع عدد المرات التي ذكر فيها اسمه الشريف، إذ ورد اسمه في القرآن الکریم أربع مرّات فقط، وفي السور الآتية:

1ـ آل عمران، الآية 144:  {{وَمَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ }}.

2ـ الأحزاب، الآية 40: {{مَّا كاَنَ محُمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ}}.

3ـ سورة محمد، الآية 2: {{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلىَ‏ محُمَّدٍ وَهُوَ الحْقُّ مِن رَّبهِّمْ كَفَّرَ عَنهْمْ سَيِّئاتهِمْ وَأَصْلَحَ بَالهَم}}.

4ـ سورة الفتح، الآية29: {{محُّمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلىَ الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنهَمْ}}.

فضلا عن ذلك ذكر النبي (ص) بأسماء وألقاب أخری، کقوله تعالی: {يا أيها النبي} و{يا أيها الرسول} و{يا أيها المدّثر} و{أحمد}. إن هذا الاختلاف في التعبير له أهدافه وأحكامه المختلفة، والسبب الحقيقي لاختلاف التعبير أن النبي يتوفّر على بعدين الأول: بعد سماوي. والثاني: بعد مادي أرضي، وبعبارة أوضح وأكثر تخصيصا بعد باطني وبعد ظاهري، ومن هنا أطلق الباري سبحانه وتعالی عليه بلحاظ كل بعد من تلك الأبعاد اسما خاصا، فلكل بعد من هذين البعدين أحكامه وضوابطه الخاصة.
ومع ذلك لم يؤرخ القرآن لحياته الشخصية ولم يذكر سيرته أو أسماء آباءه أو أولاده وأقرباءه إلا أبي لهب، مع أن الإشارة إليه في القرآن تكاد توجد في كل سورة، وقد تتكرر في السورة الواحدة عدة مرات.
ومن هنا يأتي اختلاف القرآن عن الكتب السماوية التي سبقته، فالكتب الأخرى تبدو قريبة الشبة بكتب التاريخ، فالتوراة مثلا من بدايته وإلى نهايته يتناول تشجيرات نسب الكثير من رجالات اليهودية وبالتفصيل الدقيق. والإنجيل في بدايته ينحو المنحى نفسه ولاسيما في حديثه عن بولص الرسول وباقي الرسل.
إن القرآن جاء ليبقى إلى الأبد دليلا وهاديا للبشرية، ولا أخفيكم أن الله سبحانه وتعالى اختار نبينا محمدا(ص) ليبقى هو الآخر إلى الأبد ليس من خلال ذكره أو الصلاة عليه فحسب، ولا من خلال أداء الطاعات والعبادات فقط، وإنما في حقيقته الجوهرية، ونحن حينما نستذكر ذكرى وفاته فإنما نستذكر يوم انتقاله من مرحلة إلى أخرى.
أما علاقتنا به فهي كما كانت في حياته، فهو اليوم إن لم يكن يرانا بعينه يسمعنا بأذنه، وهناك عشرات الأحاديث الصحيحة التي تدل على أنه يسمع من يصلي عليه ويسمع من يسلم عليه فيرد عليه السلام، جاء في الروايات قوله(ص): ((ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه)) وهناك روايات تقول: إن النبي (ص) وهو في قبره مستغرق في عبادة الله عز وجل، كما هو الشأن في موسى(ع)، فقد رآه النبي (ص) يصلي في قبره، وهذا من التلذذ، فيكون رد الروح ليس معنى أنها كانت مفارقة له، ثم رجعت، وإنما رد الروح هو إيقاظه وتنبيهه إلى أن هناك ما يستوجب أن ينتبه إليه.

إن الاعتقاد بأن الميت يعلم بعمل الحي، يدفع الحي إلى أن يحسن العمل إذا ما أراد أن يزور قبر ميت يخصه، سواء كان الميت أبا أو أما أو أخا أو صديقا، وسواء كان نبيا أم إماما أم معلما، فكيف ونحن لا نزور نبينا وأئمتنا إلا لأننا تبع لهم، وتربطنا بهم علاقة عقائدية، ونعلم علم اليقين أنهم يعلمون بأعمالنا، تبعا لما شاع بين المسلمين أن العلاقة بين إنسان وآخر لا تنقطع بالموت، فالموت حاجب لا قاطع، ونحن لا نبالغ بذلك ولا نرتكب جرما، لأنه إذا ما كانت العلاقة بين عبدين من عامة الناس لا تنقطع بعد موت أحدهما، فمن الأحرى أن تكون علاقتنا بنبينا وأئمتنا دائمة لا تنقطع بموتهم، ولدينا أكثر من دليل على ذلك، يتفق بها معنا أتباع المدارس الإسلامية الأخرى، بل تتفق بها معنا حتى مدرسة ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، بدليل أن ابن قيم، قال: ((إن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه)).
وأورد عن أبي أيوب، قال: ((تُعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سوءً، قالوا: اللهم راجع به)).
وأورد عن أحمد بن أبي الحواري، قال: ((دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح فقال: عظني؟ قال: بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فأنظر ما يعرض على رسول الله (ص) من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته)).

كما أورد البيهقي حديثا يثبت أن الله تعالى رد على الأنبياء أرواحهم بعد موتهم، فقال: ((إن الأنبياء بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء كالشهداء))، ونحن بالنسبة لنا نؤمن أن الأئمة (عليهم السلام) بمصاف الأنبياء، وكلهم شهداء، فجمعوا الحسنيين، وزيارتنا لمراقدهم لا تختلف عن زيارتنا لجدهم النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)؛ في حياتهم قبل موتهم،
بمعنى أن الأئمة المعصومين في موتهم أحياء كما في حياتهم، مثلهم كمثل رسول الله (ص)، وما كان يقوم به المرء عند زيارتهم في حياتهم يجب أن لا يختلف عما يقوم به عند زيارة قبورهم. وقد أكد القرطبي أن: ((الموت ليس عدما محضا، يدل على ذلك أن الشهداء أحياء، فالأنبياء أولى، وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء)).
ونستنتج مما تقدم أن الذين يحرمون السلام على الأموات وزيارة قبورهم إنما يريدون منع الناس من زيارة قبور الأنبياء والأئمة والسلام عليهم، أو في الأقل التشكيك بمشروعية الزيارة والأعمال التي تؤدى خلالها. وهنا أطمئن الزائرين أن النبي والأئمة يسمعونهم ويردون عليهم سلامهم ويشكرونهم على مساعيهم سواء بالذهاب سيرا إلى أبي عبد الله الحسين في زيارة الأربعين، أو بإحياء ذكرى وفاة النبي، أو باقي الزيارات المخصوصة والعامة، وذلك هو الفوز العظيم، لكن علينا أولا أن نراقب أنفسنا وسلوكنا لكي لا نغضبهم علينا.
والحمد لله الذي هدانا إلى حب محمد وآل بيته(عليهم الصلاة والسلام أجمعين).


 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/10



كتابة تعليق لموضوع : نبينا في قرآننا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net