المديح بصيغة الشتائم
كاظم فنجان الحمامي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لم يعد مستهجنا سماع المعلق الرياضي وهو يردد بانفعال عبارات مقتبسة من قواميس الكوارث والفواجع والشتائم في وصف وقائع مباراة كرة القدم, أو عند تقييمه لمهارات اللاعب الذي أحرز الهدف, أو اللاعب الذي تصدى للكرة, نسمعه دائما يرفع عقيرته بالصياح, مستخدماً سيل من الكلمات المتناقضة مع طبيعة المباراة الودية, من مثل: (لاعب رهيب, حكم كارثة, مدرب فضيع, جمهور مصيبة, لقطات مذهلة, ركلة خارقة).
انتشرت مفردات الإرهاب على نطاق واسع في عموم البلدان العربية, حتى صار من المألوف سماع وقراءة إعلانات تستخدم المفردات الكارثية على وجه الاعتياد, من مثل: توجد لدينا برامج رهيبة لتحميل الصور, علاجات رهيبة لإزالة حب الشباب, كتاب رهيب في طب الأعشاب, عطور شرقية رهيبة, حقائب جلدية رهيبة, ألعاب رهيبة, مطرب رهيب, أزهار رهيبة.
يقولون في مدح الأستاذ الموهوب, انه (كارثة), ويصفون الطبيب الناجح بأنه (طبيب كارثة لا يقف أمامه مرض), وينعتون الفتاة الحسناء بأنها (فضيعة), ومذيعة (فضيعة), ويصفون السيارة الحديثة الباهرة بأنها (مصيبة), ويقولون عن التلميذ الذكي انه (بلاء أسود في الرياضيات), وبالعامية (أنهجم بيت أمه أشكد ذكي), والمرأة الرائعة (بلوى سودة), و(مقصوفة العمر فائقة الجمال), و(امرأة مدمرة), و(فتاة زلزالية), و(نساء مرعبات), وقولهم (الله يخرب بيت أهلك يا أخي), فالرعب والخراب والدمار والزلازل والمصائب والفضائح وغيرها من الألفاظ صارت هي المفردات الشائعة عند عامة الناس.
كنت أشاهد مباراة لكرة القدم بين البحرين والكويت, كان البحرينيون يلعبون فيها باللون الأحمر, والكويتيون باللون الأزرق, فإذا المعلق يقول: (نشاهد اليوم مواجهة مصيرية بين كتبة الشياطين الحمر, وكتيبة العفاريت الزرقاء, وسيتفجر الملعب بصواعق محرقة من الأهداف الصاروخية العابرة للقارات من نوع توما هوك, وستكون النتيجة نكسة كبيرة للفريق الخاسر في هذا النزال المميت).
فاللغة من الناحية الشعورية والوجدانية تمثل روح الأمة, وتمثل الوعاء والوسيلة الناقلة للمشاعر السائدة في المجتمع, فالأفراد عادة لا يستسيغون, ولا يستعملون من الألفاظ إلا ما يعكس أمزجتهم, ويلاءم روحهم, وخصوصا إذا كانت هذه الألفاظ من رواسب الظروف القاسية التي مرت بهم, وزعزعت استقرارهم, فقلبت كيانهم رأسا على عقب, حتى صار عندهم النقص كمالاً, والخلة مجداً, والذم مدحاً, وهذه عادة لغوية قديمة عند العرب.
يقول صاحب الأغاني أن أحدهم أنشد شعراً فأعجب به الحاضرون, فصاحوا: (أحسنت قاتلك الله), وقال بعضهم: (قاتلك الله ما أظرفك), فالمدح في صيغة الذم باب من أبواب البلاغة, كقول الشاعر في مدح قومه:
ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفهُم
بهنَّ فُلولٌ منْ قِراعِ الكتائِبِ
فرب منقصة تعد فخراً, ورب عيباً يعد فضلاً, كقولهم:
وجوه كأزهار الرياض نضارة
ولكنها يوم الهياج صخور
لكننا نقف اليوم على أعتاب مرحلة مؤلمة, صارت فيها مفردة (طز) من المفردات الأساسية في خطابات بعض الزعماء والساسة العرب, وصارت فيها الشتائم والألفاظ النابية أمراً طبيعياً, ومنهاجاَ لا غبار عليه, وصار السب والشتم من الطرق المألوفة في التحاور بين الشباب, يستخدمونها بشكل دائم وكأنها لغة مكملة لتواصلهم.
ختاما نقول: ربما أسهبت كتب اللغة, وأطالت في شرح الأبواب الغريبة والدخيلة, وتعمقت في مجالات المبالغة في التعبير, وحلقت بعيداً في الفضاءات التي صار فيها الذم مدحاً, لكنها مازالت بحاجة إلى تسليط المزيد من الأضواء على هذه الظاهرة السلبية, التي تنطوي على أساليب لغوية مقتبسة من حالات الضياع والقلق والتفكك, وما رافقها من اضطرابات وكوارث متعاقبة, ومواجهات عسكرية ساخنة, ومواقف سياسية متأرجحة في عموم الوطن العربي. . . . .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
كاظم فنجان الحمامي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat