صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

مقدمة تفسير (الميزان) ومؤشرات على منهج الطباطبائي التفسيري
علي جابر الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

(الميزان في تفسير القرآن) للسيد محمد حسين الطباطبائي (رض)، من مراجع التفسير الحديثة المهمة في المكتبة الإسلامية، ويُعَد من التفاسير الجامعة المعتمَدة في كثير من المراكز والأوساط الدينية والعلمية والثقافية على مستوى العالم الإسلامي تميّز (الميزان) بمنهج تفسير القرآن بالقرآن، وفي مقدمة  (الميزان) مؤشرات على هذا المنهج، قبل المقدمة كتب آية الله جوادي آملي التقديم بعنوان (دفاع عن الميزان) جاء في نهايته: ((وما أجدر المتأخرين والأنسب للمتنعمين أن يجلسوا على مائدة الميزان ومأدبته الغناء ب((ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين))1، والتمتع بهذه الجنة التي ((أكلها دائم))2، وهذه الشجرة المباركة التي ((أصلها ثابت وفرعها في السماء))3، والاغتراف من هذه الموسوعة التي ((فيها كتب قيّمة))4 ، وإن استبطن النقد الحكيم ما لا يحصى من الدروس والعبر للباحثين والمحققين)).

 (الميزان) مأدبة غنّاء مفتوحة للجميع، وخصوصا للباحثين والمحققين، عرّف الطباطبائي التفسير:((وهو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها))، ومن الآية ((كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة))5، استظهر الطباطبائي أن تفسير القرآن الكريم بدأ منذ عصر الرسالة، وأن الصحابة أخذوا عن النبي (ص)، وذكر أن الطبقة الأولى من المفسرين جماعة من الصحابة كأبن عباس وعبد الله بن عمر وأبيّ وغيرهم واستثنى الإمام علي والأئمة المعصومين لخصوصية في التكليف والمسؤولية لم يتطرق لها في المقدمة إنما ذكرها في محلها من تفسيره الميزان، وكان موضوع التفسير في عهد الصحابة ((لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط من الآيات بجهاتها الأدبية وشأن النزول وقليل من الاستدلال بآية على آية، وكذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة عن النبي (ص) في القصص ومعارف المبدأ والمعاد وغيرها)). 

وأضاف الطباطبائي في مقدمته، أن هذا النسق من التفسير استمر في عهد التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبي والسدّي وغيرهم في القرن الأول والثاني الهجريين، وتميّز عهد التابعين التفسيري عن عهد الصحابة بزيادة التفسير بالروايات، مما سمح بتسلل الإسرائيليات في التفسير، وإن كان الطباطبائي لا ينفي بشكل قاطع رواية الإسرائليات من قبل بعض الصحابة، ولكن بنسبة أقل، خاصة فيما يتعلق ((في القصص والمعارف الراجعة إلى الخلقة كابتداء السموات وتكوين الارض والبحار وإرم شدّاد وعثرات الأنبياء وتحريف الكتاب وأشياء أخر من هذا النوع))، إذ روى مثل هذه القصص والمعارف بعض الصحابة عن اليهود وبنسبة أكبر رواها بعض التابعين، وهذا يؤشر على تسلل الإسرائيليات منذ عصر الرسالة وازداد فيما بعد، وبلغ الحد الأعلى في العصر الأموي، بعد شيوع ظاهرة الوضع في الحديث بتشجيع ودعم من السلطة الأموية القائمة. 

استمر منهج التفسير الروائي في العصرين الأموي والعباسي، وظهر إلى جانبه اتجاهات تفسيرية جديدة، إشار إليها الطباطبائي في المقدمة (( فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، وكل يتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب والطريقة)). فالمحدّثون توقفوا عند الرواية عن الصحابة والتابعين، وأهملوا دور العقل في فهم الآيات وأبطلوه، وقد رفض السيد الطباطبائي هذا الاتجاه الذي يبطل دور العقل ((وقد أخطاوا في ذلك فإن الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته إنما تثبت به! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش ... ))، وشاع أيضا اتجاه تفسير المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، وكل مذهب سلك طريقا واتجاها تفسيريا بما يتناسب والمذهب الذي يدين به، وعدّ السيد الطباطبائي اتجاهات هؤلاء تطبيقا وليس تفسيرا، أي يقوم الباحث بحمل وتأويل معنى الآية القرآنية لتتناسب مع مذهبه، وقال منتقدا أصحاب الكلام في التفسير حسب هذا الاتجاه: ((  ففرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ماذا يقول القرآن؟ أو يقول: ماذا يجب أن نحمل عليه الآية؟)). 

وتطرق السيد الطباطبائي إلى الفلاسفة وقال عن اتجاههم في التفسير أنهم كالمتكلمين وقعوا (( في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة ... وخاصة المشائين ... حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة التي نجدها في العلم الطبيعي )). 

كذلك فعل المتصوفة فقد ذهبوا في ميدان التأويل بعيدا (( حتى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل )). واتجهوا في تأويلاتهم إلى الباطن وأهملوا ظاهر القرآن الذي تؤيده السنة القطعية وحكم العقل، وهذا لا يعني أن الطباطبائي ينفي العلم الباطن:(( نعم قد وردت روايات عن النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع) كقولهم: إن للقرآن ظهرا وبطنا...لكنهم (ع) اعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن)).أي أنهم لم يهملوا شأن التأويل، بل ((اعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل ... وأن الذي يريده القرآن من التأويل فيما ورد من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم )). 

وتكلّم الطباطبائي عن مسلك جديد في التفسير، مبينا خطأ هذا المسلك الذي يعتمد على الحس والتجربة تأثرا بمذهب الحسّيين في أوربا، وذكر جملة من أقوال الحسيين ((أن المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم ... وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية...وما يتكئ عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنما هي أمور روحية، والروح مادية ونوع من الخواص المادية، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبني قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.)) هذا ما يدعيه الحسّيون وهم قد طعنوا أيضا في مسألتين: ((الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب)) و ((الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بيّنه العلم)). 

عدّ السيد الطباطبائي تفسير الحسّيين تطبيقا وليس تفسيرا ((الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجته الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقا وسمي به التطبيق تفسيرا، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات.))، وتمنينا لو ذكر لنا السيد الطباطبائي أسماء بعض التفاسير التي سارت بهذه الاتجاهات لتعم الفائدة وتتضح الصورة للجميع، وإن كانت إشاراته تكفي الباحث والمحقق ليهتدي ويتعرف على نماذج تفسيرية لهذه المذاهب، ومن الإشارات إضافة لما ذكر قوله: ((ليس بين آيات القرآن آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحيّر الذهن في فهم معناها، وكيف!؟ وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام من الإغلاق والتعقيد...وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها، وفي المدلول التصوري والتصديقي.)) 

وفي هذا المحور يشرح السيد الطباطبائي العلاقة بين المفهوم والمصداق للآيات القرآنية، وفق منهجه في التفسير، فألفاظ مثل السراج والميزان والسلاح، تغيّرت مصاديقها بمقدار التطور العلمي في الأزمان المختلفة فمصداق السراج قديما هو غيره اليوم، وكذلك الميزان والسلاح، ((المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل، كما أن السراج أول ما عمله الانسان كان إناء فيه فتيلة وشيء من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستفادة به في الظلمة، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم الى السراج الكهربائي ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بإزائه لفظ السراج شيء... وكذا الميزان المعمول أولا، والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا... والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم، والسلاح المعمول اليوم... فالمسميات بلغت في التغيير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلا لأن المراد في التسمية إنما هو من الشيء غايته، لا شكله وصورته))، وهنا يأتي دور منهج المفسر في التعامل مع القرآن، ظاهرا ولفظا ومصداقا، هل هو منهج جامد أم يتعامل بتطور وإيجابية وواقعية مع التطور العلمي، ذكر السيد الطباطبائي أن من الاتجاهات التي تعد تطبيقا وليس تفسيرا اتجاه الحشوية والمجسمة في التفسير إذ جمدوا ((على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والأنس في تشخيص المصاديق)).

في رأينا أن من آفات جمود الفكر في التعامل مع القرآن ما يتعرض له المسلمون اليوم من إرهاب من قبل الوهابية والسلفية الذين يتعاملون مع القرآن بتحجيم العقل والفكر، ويفهمون الاسلام بالعقلية الاعرابية التي ترفض لغاية هذا اليوم الاعتراف بكروية الارض، بل بكل ما حقق العلم من إنجازات، وتكّفر من يقول بالتطور العلمي، هذه الافكار الجامدة على مصداق اللفظ غير القابل للتطور والتغيير، من ابتلاءات التفسير بالرأي وتحميل معنى الآيات على المصداق الأول الذي لا يقبل التغيير عند معطلي العقل، فهم لا يفسرون القرآن، بل يطوعون الآيات ويحملونها على ما عندهم، وهذا الاتجاه في تفسير القرآن أطلق عليه السيد الطباطبائي تطبيقا وليس تفسيرا. وللتخلص من الانحراف في التفسير علينا ((أن نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق بالخواص التي تعطيها الآيات وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكل شيء ولا يكون تبيانا لنفسه)). قال تعالى: ((ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء))6 .

 يرى الطباطبائي أن منهج تفسير القرآن بالقرآن هو منهج النبي (ص)، ((الذي علّمه القرآن وجعله معلما لكتابه)) قال تعالى: ((يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة))7، ومن بعده أهل بيته الأطهار الذين جعلهم النبي (ص) الثقل الثاني للقرآن في حديث الثقلين ((المتفق عليه بين الفريقين))، ((وصدّقه الله تعالى في علمهم بالقرآن))، قال تعالى: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا))8 وقال تعالى: ((إنّه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسّه إلّا المطهرون))9 يقول السيد الطباطبائي: ((وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير... هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلمو القرآن وهداته)). 

هذا ما استوحيناه من مقدمة الميزان والمؤشرات الرئيسة على منهج السيد الطباطبائي في التفسير، وأشار في نهاية المقدمة إلى المحاور التي تناولها بالبحث وفق منهج تفسير القرآن بالقرآن، وتجنب تناول الجانب الأدبي في سياق الآيات، لأن ذلك حسب اجتهاده ((يحتاج فهم الإسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو عملية لا يختلف فيها الأفهام)) أما آيات الأحكام، فلم يفصل الكلام فيها وأرجع موضوعها إلى الفقه، ومسلكه في التأويل: ((ارتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، وأما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، أنه ليس من قبيل المعاني))، وعنده (( الروايات المنقولة عن النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع) أجمعين من طرق العامة والخاصة)) حجة إن كانت منقولة بالتواتر وسليمة السند والمتن وفق معايير علم الدراية وعلم الرجال، ((وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين. فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم.)) وقد عدّ السيد الطباطبائي منهجه في التفسير، هو المنهج المأثور عن النبي (ص) والأئمة الأطهار (ع)، هذه أهم مؤشرات ما استوحيناه من مقدمة ( الميزان في تفسير القرآن)، والله تعالى ولي التوفيق.        

1 – سورة الزخرف: 71                         7 – سورة آل عمران: 164 

2 – سورة الرعد: 35                            8 – سورة الأحزاب: 33 

3 – سورة إبراهيم: 24                         9 – سورة الواقعة: 77- 79 

4 – سورة البيّنة: 3 

5 – سورة البقرة: 151 

6 – سورة النحل: 89 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/01/29



كتابة تعليق لموضوع : مقدمة تفسير (الميزان) ومؤشرات على منهج الطباطبائي التفسيري
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net