صفحة الكاتب : د . عبير يحيي

قراءة نقدية تحليلية برؤية براغماتية لديوان/ الأخير الأخير/ للشاعر الأردني محمود أبو الهيجاء
د . عبير يحيي

 أولاً: مقدمة :

إذا كانت الموسيقى لغة عالمية تفهمها وتتفاعل معها كل مخلوقات الكون من بشر وحيوان ونبات وجماد, وإن كان الأدب انعكاس وجدان الأديب على مرآة من ورق, يحدد ملامحه بقلم من فكر ، يستمد مداده من روحه ومعتقده, جاعلاً من تجاربه الشخصية والعامة مخزوناً لا ينضب , يضخّه كلما ضغطته الحياة, فإن الشعر تحديداً هو متنفس النفس و حديث الروح للروح ,والقلب للقلب, والعقل للعقل, حديث محمول على بساط من الخيال, يطير بنا عبر الأثير, ينقلنا عبر الأزمان والأماكن والأكوان , فنهيم مع قائله في كل وادٍ, نتقافز مع بطولاته, ونتأوه مع آلامه, ننتشي بانتصاراته, نتأجج بحماسه, ونجاريه في عشقه وولهه...

والشعر هوية, إن لم نقل أنه بصمة يتفرد بها كل شاعر, تتضافر في صنعها عوامل شتى, أو خلفيات مختلفة تنبت في تربة الشاعر الرسالية و النفسية والتربوية والإنسانية والأخلاقية, وتشكل بالمجمل شخصية الإنسانية  والفكرية التي توسمه كبصمة تمييز , ومنه ينطلق  نحو الانتشار والشهرة ً, لذلك ليس من السهل أن نقيَم أي عمل أدبي بمعزل عن هذه البصمة, وهذا ما يسمى بالتكنيك  ،أي بصمة الشاعر التي يتميز بها عن الآخرين , فإن لم تكن موجودة فيه , فهو ، إذاً يقلّد  , كما أنه ليس أن نقييم العمل الأدبي مَا لم نمتلك قاعدة نقدية عريضة, تمكّننا من الغوص في عمق أعماق العمل الأدبي دون وجل , و فيها نتمكّن من استخراج ما غاب عن النواظر من مخبوءات من تلافيف وجدان الأديب عموماً, أو الشاعر خصوصاً, آخذين بعين الاعتبار أن الشاعر قد ائتمننا على دواخل الحشا, وعيَننا حراساً على نبضات وجدانه, ووضع بين أيدينا عصارة  فكره ومشاعره, فلا نستسهل ولا نستهين بما بين يدينا, بل علينا أن نحمله بمنتهى العناية, ونتفحّصه بكل اهتمام وعناية, ونتعامل معه بكل احترام وتقدير .... 

وقد اتجهت المناهج الأدبية الحديثة الغربية وما بعد الحداثة اتجاهاً مادياً بحتاً مع الأدب ونقده, لم تجد فيه إلّا عملاً لغوياً, لم تعبأ بما يحمله النص الأدبي العربي الرصين من قيم و فكر أو فلسفة أو رسالة, ولم تعد تهتم بوظيفته ودوره في التعبير عن هموم المجتمع العربي , ولا صلته بالناس والحياة...وهذا انحراف خطير لا يتفق مع المنهج الإسلامي الذي يقدر الأدب بما يحمله من رسالة وخصوص النصوص القرآنية المقدسة والكتب السماوية الأخرى, حيث أن قيمة الكلمة في المنهج الإسلامي , موظفة بما يخدم رسالة إنسانية بقيمتها و مدلولها, إذ لا يكفي أن تكون جميلة الإيقاع, رنانة , باهرة مدهشة وممتلئة, بل يجب أن يقترن الدال والمدلول فيها, والجوهر والمظهر, وقيمة الأدب في مادته وأدائه, وفي مضمونه وشكله, ولا يجوز بحال من الأحوال إسقاط إحدهما أو إيثار الآخر, لا عند الشاعر ولا عند الناقد .....

وقد كثرت الممارسات السلبية, ومارس الكثير من النقاد ظلماً كبيراً بحق  المبدعين, حيث جلدت سياطهم نصوص العديد من المبدعين, إلى أن ظهرت في النصف الثاني من القرن المنصرم, أفكار وأيديولوجيات ونظريات تنصف الأديب وتعطيه الحق بالدفاع عن نفسه, حينها ماتت البنيوية التي كانت تتعمد التدخل في أحاسيس الأديب, وتوجيه إحساسه مادياً نحو آراء متبعيها في  الفردية المبنية على الجهل والتسلط والأنانية والتشدق, بعدها جاءت النظريات التفكيكية التي أنصفت الأدب, وسلّحته بمنهجية علمية في التقييم وهو النقد  التفكيكي , وأنقذت الأديب من نهش ذئاب النقد المتبنين للنظرية البنيوية والنظريات الأخرى التي تركز على الأخطاء اللغوية , والأخطاء التعبيرية, وتهمل مكنونات النص , ونذكر من النظريات التي أنصفت الأديب النظرية السيميائية, التي أعلنت موت الأديب بعد نشر نصه, واعتبرت النص نقدياً ملكاً للمتلقي والناقد, وليس ملكاً للأديب, والمتلقي يفهمه كيفما شاء, حسب وعيه وثقافته ومخزونه الإنساني والثقافي, بشرط أن يكون النص مستوفياً لمبدأ التنصيص   Texualization  بشرط أن يحوي النص الميزات ا السبعة ، الربط  Cohesion  والانسجام  Coherence  , القصدية intentionality  , الموقفية   situationality  ,  الإخبارية informality  ,المقبولية  acceptability و التناص  intertextuality ,,,,

ويذكر أندرسن إمبرت في مقدمة كتابه ( مناهج النقد الأدبي ):" الأدب تعبير والنقد دراسة", ودون شك حركتي الروح هاتين, التعبير والدراسة, تلتقيان في الشخص الواحد نفسه , ففي كل شاعر ناقد يساعده على أن يعنى ببناء قصيدته, وفي الوقت نفسه يوجد في أعماق كل ناقد شاعر يعلمه من الداخل كيف يتعاطف مع ما يقرأ, والأديب الجيد يبقى في تجديد مستمر, لا يرضى عما يكتب بسهولة , بل يبقى يعدّل وينقد ويبدّل كل كلمة في كل قراءة من قراءاته لنصه, وقد يستمر في ذلك عدة أشهر أو حتى عدة سنوات, حتى يشعر أن النص قد استقر تماماً...... 

 

ثانياً : توطئة :

 

لما ذا اخترت الرؤية التحليلية الذرائعية (البروغماتيكية) في قراءة هذا العمل الادبي:

 

وأنا هنا في نقد  هذا الديوان سأتبع/ الرؤيا النقدية الذرائعية في تحليل النص الأدبي /

 

Pragmatic Opinion in Analyzing the Literary Text

 

يذكر الناقد العراقي ،الأستاذ عبد الزراق عوده الغالبي ، من خلال متابعته لمدة عشرة سنوات تقريباً وأكثر خلت , للمسيرة النقدية في العالم  :" خرجت بفهم يقر أهمية النص الأدبي العربي الإنساني للمجتمع ، مقابل النظريات النقدية المادية التي تغطي المنظومة الفكرية والادبية العالمية , وهو شيء غائب عن ذهن المتلقي العربي الذي لا يعي معطيات تلك النظريات التي لا تلائم الدين الإسلامي , ويعتبر التفكيك أهم نظرية حديثة تحترم النص المبني على اللاغوس , والذي لا ينسجم مع الرؤية العربية الإسلامية , لكون التفكيك)  (قاد تياراً نقدياً عرف ( ما بعد البنيوية ), وهو ضد النظرية البنيوية ، التي استكانت لافتراض التناسق في بنية النص الأدبي بناء على ما ينطق , وقوانين لغوية صارمة وحاسمة لا تقبل النقص أو التغيير أو التعديل , ولا تتأثر بشيء خارج نطاقها , لذلك لجأت النظرية التفكيكية إلى التشكيك بالعلاقة اللغوية ذاتها , وفي منطق اتساقها وقوانينها, إذ لم يعد النص - في نظرها - يمثل بنية لغوية متسقة منطقياً, تخضع لنظم دائمة وتقاليد ثابتة يمكن رصدها , بل يمثل النص تركيبة لغوية تنطوي في داخلها على تناقضات وصراعات وكسور وشروخ وثغرات عديدة , تجعل النص قابلاً لتفسيرات وتأويلات لا نهاية لها, وليس هناك من نص يستعصي على التفكيك كي يخرج من باطنه ما يخفيه , لذلك تبدأ النظرية التفكيكية بتكسير السطح اللامع للنص الأدبي لكي تبلغ أعماقه المعتمة والتي لا يبوح بها , ومن هنا تختلف الرؤية البراغماتية في تحليل النص الأدبي , فهي تحترم الظاهر والباطن معاً, خصوصاً للنصوص القرانية والكتب المقدسة الاخرى ، فبعضهما يكمل بعض , والكثير من النقاد والمتلقين لا يعرفون مضمون تلك النظريات وخطورتها على النص الأدبي العربي , ولا ماهية النص الأدبي العميق , بشكل حقيقي ، فاتباع تلك النظريات، يقود نحو الهرطقة ، وتهديم الشكل الجميل للنص الأدبي العربي , لذلك حاولت الرؤية النقدية الذرائعية(البروغماتيكية) تعديل هذا المسار الجائر و التعريف بالنص العربي ، من أرض ولادته وحتى نضوجه ونشره بعد خروجه من تحت قلم النصّاص أو الأديب, ومعرفة ماهية النص أمر مهم , ليتسنى للقارىء او الناقد قراءته وإقرار أهميته .....

 

لذلك انفردت تلك الرؤية بالخروج على تفكيك  دريدا النقدي ، لكونه تهديم للنص ، نحو رحاب التحليل الذرائعي , من خلال بوابة الاختلافات التي تعد نقصاً وثغرة في جوهر التفكيك الموجهة ،بشكل خاص ، نحو النص الأدبي العربي ، وهو دفاع مشروع عن النفس والمقدسات ،على الاقل .... بذلك خرجت الرؤية الذرائعية عن التفكيك ، بالجانب الذي لا ينسجم مع التفكيك او التهديم ، و الوقوف بجانب عمق النص وظاهره الأدبي العربي وخصوصياته التجنيسية والبصرية والسردية التي تعد خصوصية منفردة ، تميز النص العربي عن باقي النصوص في اللغات الاخرى , والتي تقود الى خصوصية وعظمة اللغة العربية وقوتها في التعبير.

  فقد تعتمد الرؤية الذرائعية تلك ، على الجانب التحليلي للنص الأدبي العربي وليس التقكيك وذلك لعظمة شكل النص العربي واعادة بناء مفاصله مرة اخرى بعد التحليل ، ضمن معطيات نفسية وسلوكية تتحكم في عقل الأديب العربي والقارئ في نفس الوقت ....."

من خلال هذه الرؤية ، سأبدأ بدراستي النقدية لديوان / الأخير الأخير / للشاعر محمود أبو الهيجاء .

 

ثالثاً : تعريف بالشاعر:

الشاعر محمود أبو الهيجاء, شاعر أردني, من الشعراء الشباب, يكتب الشعر العمودي والحر, والنصوص النثرية, له دراسات صوفية في المعرفة الصوفية والتصوف كمنهج فكري ومعرفي وديني, له اهتمامات بالحكمة و ومطالعات بالفلسفة و مثله الأعلى وقدوته العملاق / محمود درويش /.

مجموعة / الأخير الأخير/هو اول إصدار ورقي له, وهناك أخرى بصدد النشر هي / رؤيا الغريب /

رابعاً– مبحث الشكل اوالتكوين البصري

لا يمكننا بحال من الأحوال فصل النقد عن الأدب, فالعلاقة بينهما علاقة أبوية روحية , حيث يعتبر النقد عراب الأدب بشكل عام , لا يمكن لأي جنس أدبي أن يستقيم بمعزل عن النقد, فالنقد هو الذي يضع الأنظمة والقوانين والمصطلحات التي تجعل الأدب ينتظم في طريقه, والنقد الأدبي فن وعلم معقد يستلزم أدوات يجب أن تتوفر لدى النقاد والأدباء من كتاب وشعراء , ونقد الشعر تحديداً ، أكثر تعقيداً من باقي أجناس الأدب بالشكل , كون الشعر من أهم الأجناس الأدبية وأكثرها انتشاراً, وأوسعها معنى وتعبيراً ، ولا يقتصر النقد فيها على المبنى والمعنى, بل يتعداها إلى دراسة وحدة المبنى والموسيقا, والغوص في العاطفة والحالة الشعورية للشاعر, وهذا يقتضي من الناقد أن يفرد بحثه التحليلي على كل جوانب ومفاصل النص الشعري لإعطاء التحليل الشكلاني الأولي المستوفي لجميع الشروط النقدية من خلال النقاط التالية :

1- الموسيقي الشعرية :

إن المطّلع على ديوان ( الأخير الأخير ) للشاعر محمود أبو الهيجاء, يمكنه أن يلحظ بسهولة أن القصائد فيه تنتظم بتنضيد سليم, حرص عليه الشاعر, وأولاه عناية فائقة. 

والموسيقى نوعان , داخلية تخص الشعر والنثر , وخارجية خاصة بالشعر فقط . 

الموسيقى الداخلية : وهي ذلك النغم الخفي الذي تحسه النفس عند قراءة أو إلقاء النص الشعري أو النثري, نغم يشعرنا بالحزن والكآبة, وآخر بالحماس , ومصدر هذا النغم هو حسن اختيار الأديب لكلماته بدون تنافر بين الحروف وسهولة بالنطق ، وقد لاحظ النقاد أن حروف الهمس ( السين والصاد والزاي ) تناسب أوساط الفخامة كمجالس الملوك التي يغلب عليها الهدوء والاحترام ,حروف المد ( الألف والواو والياء )تكثر في أدب الرثاء لأن طول الصوت يناسب الحزن . 

 

الموسيقى الخارجية :

وهي المتولدة من الأوزان، والقوافي وهي خاصة بالشعر وتشمل الدراسة العروضية والتفعيلة، موسيقى اللفظ والتأليف ، من ضمن الأدوات التي يجب على الشاعر أن يحرص عليها ويوليها اللاهتمام اللازم، ويتجلى ذلك في جرس الكلمات والوزن والقافية والسجع والتفعيلات، وفي الموسيقى الداخلية المنسجمة المناسبة لمضمون النص، وقد لمسنا ذلك عند شاعرنا، استخدم ألفاظاً فصيحة مناسبة لمواضيعه ، بعيدة عن الابتذال، ما دلّنا على ذائقته العالية وتمكنه اللغوي وثقافته الواسعة ، امتزج فكره بالعاطفة ،واستعان بالخيال والصور الكثيرة التي نقل لنا من خلالها أحاسيسه ومشاعره بأناقة وتنسيق لافت، أظهرتها عباراته وألفاظه المشرقة 

 

تنوعت القصائد في الديوان بين شعر التفعيلة والنص النثري, وجدت قصيدة واحدة شعر قريض   أي شمل كل الحالات الموسيقية ، وبدأ  ديوانه  بقصيدة قريض عنونها ب / تجليات/:

 

ألا في سجود الروح سرٌ  لرؤيتي 

                                  ورؤيا بسري بين روحي ولذّتي

وغيّبت نفسي عن هواها فما قضَت

                                  إلا  لسرّ القرب من  سرّ غيبتي

سلام على قلبٍ  أصابته   صعقةٌ

                                 فيا أيها الحبّ  رفقاً   بصعقتي 

وما اخترتُ وصلَ الروح إلا بمذهب

                                سبيل في الجمال مذهب صحوتي 

 

  

وكثر في الديوان قصائد التفعيلة أذكر منها قصيدة / حالة حب عذرية/ والتي يقول :

 

إنه يحبها بوضوح النصف الأول من

عواطفه

ويغني الليلَ قصيدةً للحياء

والنصف الآخر لا يُرى من

فرط الشفافية

كشجرة ثابتة حبُّه

فرعها هنا .. وأصلها في السماء

 

النصوص النثرية كان لها نصيب لا بأس به, وأشير هنا إلى/بصر وبصيرة  /

 

أيها الحب أرني أنظر إليك

إنك لن ترى – قال الحب واحتجب –

سأمسح البصر بعرق السر منك لعلي أرى

تجلّى الحبّ على بصري 

فخر قلبي صعقاً 

 

الموسيقا الداخلية في القصائد موجودة بدون كسور تذكر, وهذه نقطة هامة تُحسب للشاعر , تصب في ميزان قدراته الشعرية.

 

أما التفعيلات ، وجدتها في بعض القصائد موزونة بتفعيلة على حرف واحد ، بتفعيلات  متقاربة  ومتباعدة في نفس القصيدة وبتناسق موسيقي جميل مع الموسيقى الداخلية الشاملة للنص وبجمل أدبية شعرية قصيرة .

 ومثالي على ذلك قصيدة / ترتيب الوجع/  

 

سأعيد ترتيب المساء

هنا حلم

وهنا أنا

وهنا ما لا أريد

 

سأعد ترتيب ثقافتي المسائية

بعبثية جديدة

هنا حب

وهنا موت بحياة

وهنا ربما المزيد

 

سأشتق من أنايَ 

معنى آخر لمعناي

هنا خطاي

تلك رؤاي

وهنا في الذاكرة ..

وجع جديد

...........

ونثرت قصائدي في وجه الريح

جهة الأرض المدنسة

كيف ستسعني الحياة

الليل أقصر من حلمي

سأرتب حلمي الليلة بعد الفجر

سأحلم من غير خجل ..

سأجتهد بتأويل ما أرى

سأجتهد وحدي

أنا هو المتعدد..

وأنا

هو الوحيد.

 

وبعدها تتباعد التفعيلة حتى نظن أنه قد أغفلها ليفاجئنا بها تعود في نهاية القصيدة بجمل متكاملة طويلة كتدوير , ليدوّر القصيدة موسيقياً على حرف الدال من خلالها , وهذه نقطة تحسب للشاعر بحصر القصيدة موسيقيا بتفعيلتين و استهلالية ونهائية على حرف الدال , كأنما حصر القصيدة بين قوسين موسيقيين جميلين .

 

وهنا أخذ مداه في مساحات بصرية أتاحت له حيزاً معقولاً من الحرية لإغناء النص بالمزيد من المعاني والخيال , وليتمتع بدرجات انزياح مناسبة, تبعده عن المباشرة في التعبير في الجمل الشعرية المحبوكة , ليلقي بالمفردات من خارج جدار النص, ما أكسب النص أبعاداً رمزية تضيف للشاعر نقطة بالتفوق النصي, وجمال بياني وبديع , بمفردات جسّد فيها الغير ملموس ملموساً , فرافق المساء من كل جهاته وكأنه يحتضنه, وجعل الليل يؤذي ليله, وأعطى لليل أرضا مقدسة , وهنا نرى عبقرية الشاعر بالتلاعب بالمفردات وإعطائها عمقاً دلالياً رمزياً خيالياً, وبذلك تفوق الشاعر برسم صور شعرية جميلة, وكأنه رسام يرسم بالكلمات بدلاً من الألوان , أو عازفاً يعزف بالكلمات بدلاً من الأنغام , كما نرى بالمقطع التالي... 

 

سأرافق المساء من كل جهاته

لعلي أرى ما فعل الليل بليلي

اخلع نعليك قبل أن تطأني

إن أرض الليل مقدسة

فكلما عجلت لتلك الأرض

تركت خلفي جسداً يلهو بسحر الفتيات

فإن عدتُ غضبتُ

 

هناك قصائد كانت فيها التفعيلة على حرف واحد لكن متقاربة جداً , بجمل قصيرة   كما في قصيدة    / كناية الحب/ وهذا ما جعلها تقترب من الغنائية بالمجمل :

 

إذ أكون

ترافقني كظلي

أخبئ نصفي مني

فتسرقني كلّي

تناجي أكثري

فيخجل أقلّي

هي مناسك عشقي

حين يداعبني التجلّي

فتفنى مني الروح

ويختلط آخري بأولي

أصوم عن ذكر وجودي

وأذكرها

حين

أصلي

 

2- شكل اللغة أو الألفاظ :

 

تراوحت بين كلمات مبسّطة- لكنها سهل ممتنع-  وبين كلمات عميقة, لم أجد مفردات قديمة, لا يحتاج من يقرؤها إلى فتح القواميس , مبتعداً عن فوضى السريالية وغموضها, ما جعل شعره في متناول شريحة واسعة من المتلقين, بمستويات ثقافية متباينة, وفئات عمرية مختلفة, إذ أن حرصه على الوصول إلى النفوس والقلوب جعله يتحرّى في البحث وانتقاء الألفاظ والجمل, مستخدماً الأسلوب الأدبي المبسط دونما إسفاف أو سطحية , أسلوب سهل ممتنع وعميق المعنى, أجراه على كلا النوعين, شعر التفعيلة وقصيدة النثر يشكل نغمي مموسق , الموسيقا الداخلية حاضرة فيهما كليهما .

 

في نص صوت وصوت :

يرتدّ إليّ صوتي من الصدى

ويعانقني

عناق الورد للندى 

هنا ثمة شيء 

 

وقد حرص الشاعر على الإتيان بالفواصل وعلامات الترقيم أو أدوات التنقيط ما أعطاها الشكل الطبيعي الأنيق للنص العربي، كما حرص الشاعر على ترتيب جمل القصيدة والنص النثر بأعمدة وتنسيقات بصرية تلاءمت مع الألفاظ والسياقات الشعرية واللغوية ، والتي منحت النص الشكل الذي يجب أن يكون به متكاملاً شكلاً ومضموناً وموسيقياً، حتى يتخذ موقعه المحدد من الشعر المحسوب ، وعلى هذا الاساس ، يمكننا أن نجنس النصوص الواردة في الديوان بصرياً بأنها (مسلينيا ) تنوعت بين شعر حر بتفعيلة, وقصائد نثرية و شعر قريض.

 

3- درجة العمق والانزياح نحو الخيال:

 

تنطوي قصائد الشاعر محمود أبو الهيجاء تحت نظرية الفن للفن في معظم قصائد العشق التي حفل بها الديوان, رأينا فيها المدرسة الرومانسية بوضوح  وطغيان بيان التشخيص (personification) بصور واضحة حين جعل من الطبيعة والجمادات مجسدة وناطقة .

جاء الانزياح بدرجة عالية في الكثير من القصائد أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر قصيدة/  حالة حب عذرية /

 

كان ينتظر قمراً يسقط في حضنها

لينكسر ظلُّها وتظهر كالنور بلا ظلّها 

كان ينتظر قدراً يكشف نومها المغطى 

بغمامة بيضاء 

كان ينتظر مطراً جديداًيغسل قمرها

المعتّق بالعاطفة 

 

والحال هو ذاته في معظم القصائد .

 

أما أسلوب المباشر والتقرير فجاء جزئياً و بخيال بسيط كالحال في قصيدة / عذرية القهوة /

وحدها لي

كلما استطاعت إليّ سبيلا

وحدها لي 

كلما استطعتُ

أن أعلّق هزائمي التي انتصرتُ بها في 

الحبّ 

على جدران قهوتي

 

*أسلوب مختلط, مباشر وخيالي ( درجة الانزياح نصف)

ومثال عليه قصيدة /حديث الحب/

 

كلما غفوت مشت النجمة على قلبي

لتصوّب أخطاء الحلم 

وترتب حديث الحبّ في المنام

كلما صحوتُ أبصرتُ النجمة 

كيف تصعد بسري

لتروّض التأويل هناك 

حيث يبتعد بعيدُها عن اليعيد

أصدّق_ أحياناً_

أن الحبّ مكان مجازي

قرب نجمةٍ مجازية 

 

 

 

الخيال هو الملكة التعبيرية التي يسبح فيها الإنسان في أثير السحر اللامحدود ، حيث يسافر الشاعر قاطعاً المسافات متجها نحو النجوم والقمر والشمس , وهو جالس على كرسيه ماسكا قلمه,  وهو عنصر أصيل في الأدب العميق الآخاذ بالسحر وفي الشعر بوجه خاص , و يقلَ في شعر الحكمة والموعظة, ويكثر في الأغراض الوجدانية , تتجلى أهميته عندما نرى إبداع الأديب في تصوير مواقف مألوفة  ومعتادة في حياتنا, لكن الشاعر يبث فيها حياة  وحركة ووجدان ، تضفي عليها الإثارة والطرافة, والشعر الخالي من الخيال لا يعد شعراً ، فهو قليل التأثير في النفوس, لذلك كان لزاماً على الشاعر, ولضمان أن تبقى قصيدته –إن لم نقل خالدة , نقل مؤثرة- في نفس المتلقي, وهذا بحد ذاته هدف أسمى يسعى إليه الشاعر, عليه أن يجيد الكتابة بالأسلوب الأدبي العميق والأسلوب الأدبي ، الذي يعتمد الممازجة بين الأسلوب الخبري والانزياحي (الخيالي) ليأتينا بلهجة حيوية حميمية, يستعين بالصور والأخيلة التي تجعل المتلقي يسرح بالخيال, فتشارك الطبيعة وتحيا الجمادات, وتبرز ذاتية الكاتب بكل أفكاره وعواطفه و رؤاه ..

وفي معرض ذلك, لابد من استخدام المحسنات البديعية كالجناس والطباق والمقابلة والتورية ..

 

4- التكوين الجمالي والبلاغي :

إن المكون الجمالي والبلاغي للقصيدة أو النص النثري, يتحقق من خلال استخدام الشاعر للمحسنات البديعية ( طباق , سجع , مقابلة , تورية , تصريح , ترادف ,جناس,اقتباس , حسن تقسيم , ازدواج , مراعاة التنظير ....)

بالإضافة لاستخدام علم البيان ( التشبيه_ الاستعارة _ الكناية _ المجاز المرسل )

 

ولم يفت شاعرنا ذلك , بل اعتمده في جميع نصوصه, فكثر فيها الجناس ,الطباق والمقابلة والسجع,  وإليكم بعض الأمثلة: 

 

الجناس: يتشابه ويتفق اللفظان في النطق ويختلفان في المعنى

 

في قصيدة للنهر ضفاف جديدة :

 

كيف تكون قُبلتي باتجاه قِبلتي

 

الطباق: هو الجمع بين الشيء وضده في الالكلام ( الكلمة وضدها )

أمثلة عن الطباق :

في قصيدة ( كهف جديد ):

مستيقظ , نائم وجريح 

وصية الحياة والموت هناك 

 

في قصيدة ( ترتيب الوجع ) 

أنا هو المتعدد..

وأنا 

هو الوحيد 

 

في قصيدة ( أرض السكينة )

 

أتعبت الحياة 

وأرحتها بي 

 

في قصيدة/ عذرية القهوة/ :

 

فتبصرني قهوتي حيا وتبصرني قتيلا 

هذا الصراخ الصامت المتطاير من غليانها 

 

في قصيدة /الأخير الأخير /

 

حيث يجتمع الليل والنهار يأخذني 

 

في قصيدة ( من أنا .. يا أنا )

أظهرني قاتلاً..وقتيلا

حياً وشهيدا

 

قصيدة ( كناية الحب ) معظمها طباق

 

وأمثلة كثيرة أخرى 

 

المقابلة :أن يؤتى بمعنيين ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب 

أمثلة عن المقابلة :

 

في قصيدة ( سرقة مشروعة ) 

 

سأصعد أنا .. وتهبط جنتاي

 

في قصيدة ( من أنا .. يا أنا )

 

يمتد اسمي جوار هزائم البر وانتصارات البحر

 

حين يكون ليس لي كل ما هو لي

 

لي ما أريد ولا أريد

 

السجع : هو توافق الفاصلتين ( الحرفين الأخيرين ) في الجملتين المتجاورتين ,في الحرف الأخير, ويوقف عليه بالسكون حتى يظهر السجع.

ملاحظة : السجع لا يكون إلا في النثر 

أمثلة عن السجع :

نص/ سرقة مشروعة / 

 

لا تقتربي 

اذهبي 

 

أما عن استخدامه علم البيان فنستعرض بعص الصور البيانية التي استخدم فيها التشبيه: والتشبيه أسلوب يدل على مشاركة أمر لأمر آخر في صفته الواضحة ليكتسب الطرف الأول ( المشبه ) من الطرف الثاني ( المشبه به ) قوته وجماله 

 

في قصيدة /كناية حب /: 

إذ أكون 

ترافقني كظلي 

 

في قصيدة/ من أنا حين أحبها /:

أنا أشبه الموت 

أنا أشبه الحياة 

كأني كنايات 

 

في قصيدة /من أنا يا أنا : 

أو تصدق في كذب عشقها فأجد صورتي 

الأخرى 

كصورة المنفي من العدم لوجود مؤقت 

 

في قصيدة /حالة حب عذرية /: 

والنصف اللآخر لا يرى من 

فرط الشفافية 

كشجرة ثابتة حبّه

 

في قصيدة/ حديث الحب/ :

 

كشاعر وهمي , أنا رسول نفسي 

أحمل الرسالة لي وحدي

كأنك القصي العصي

كأني ظل آدمي 

كأني الواضح الخفي

 

في قصيدة /غريب/ :

كأنك لست ظل القدر

كأنك غيب يحمله لرسولك 

فتنسى كنسيان الغيب حين يصبح الغيب 

ذاكرة النسيان 

 

في/ تضاريس امرأة/ :

كيف أصدق أن بياضها 

يشبه شفافية الدمع ولون ملحه 

كهيئة طير مخلوق من زمن الرومان 

كأنك تلك الحمامة المعجزة 

 

في قصيدة /الأخير الأخير: :

يعتصرني 

كاعتصار الحكمة من الكلام 

 

في قصيدة: مسافة الأنين: :

المسافة بيني وبينها أبجديات قصيدة   (تشبيه بليغ) 

المسافة بيني وبينها 

كالمسافة بين الضمة والضمة في التنوين 

 

الإستعارة :

تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه.

التشبيه البليغ : هو ما حذف منه وجه الشبه والأداة , وبقي الطرفان , المشبه والمشبه به .

وقد كثر الاستعارات في الديوان حتى عمّت , ألبس غير المحسوس ثوب المحسوس, والعكس ,   أذكر بعضها :

 

في قصيدة ترتيب الوجع:        وكأن المساء طفل يُرتُب ويُرافق 

سأعيد ترتيب المساء  

سأرافق المساء 

سأرتب حلمي 

كيف ستلسعني الحياة       شبه الحياة بالنار أو أي شيء يلسع 

 

في قصيدة/ أرض السكينة/ : 

كنا نراود الثبات بسر الثبات           كأن الثبات امرأة تُراود عن نفسه أو شاب يُراود 

رؤى الأولين تطفو على الماء الغريب 

 

في قصيدة /قدسية الروح/ :

 

أقف عند حافة شٍعري 

حين وضعت أقدام حب قديم على القصائد

 

في قصيدة /حالة حب عذرية/ :

ويغني الليل قصيدة للحياء

كان ينتظر قدراً يكشف نومها المغطى

بغمامة بيضاء

كان ينتظر مطراً جديداً يغسل قمرها

المعتق بالعاطفة

 

في قصيدة /سيدة الحضور في الغياب /: 

دعيني أسرق وضوحاً من ليلك

دعيني أشعل الماء بالماء

دعيني أسرق سر الضد فيك

دعيني أنتصر على ضدي

 

في قصيدة/ حديث الحب /:

يسمع الليل تمتماتي

 

يقول الليل لي

تتسع ذاكرتي لأقرأ ذاتي

كلما غفوت مشت نجمة على قلبي

تخطفني النجمة من جديد لتتسع ذاكرتي

 

في قصيدة عذرية القهوة :

فتبصرني قهوتي حياً وتبصرني قتيلاً

 

في قصيدة /الموعد الأخير/ :

 

أطفئ نورك أيها الليل وترجّل عن قمرك البعيد

ربما تجف اللغة وقتاً من أثر الوضوء فينا

كم قمراً سرق الحروف منا

في منتصف الليل

كم مرة اشتاق الليل ليتسع فينا

وينام النهار بالنهار

 

في قصيدة /مرض الشمس/ :

الشمس تمرض في المساء

 

الكناية :

وهي تعبير لايقصد منه المعنى الحقيقي , إنما يقصد به معنى ملازم للمعنى الحقيقي 

 

في قصيدة /وحي الروح: :

يا أيتها الممتلئة بالبياض

حمرة اللون تسرق من بياض وجنتيكِ

 

كناية عن شدة بياضها واحمرار وجنتيها 

 

في قصيدة /حديث الحب /: 

أملأ  العواطف بالندى

أفرغ العواصف من الصدى

مثل طير اشتق من غيمة ضبابية

 

كناية عن غزارة العاطفة 

 

في قصيدة / تقديس /

أملأ التراب قسطاً وعدلاً 

  

التراب كناية عن الأرض 

 

5- الصور الشعرية   

 

لا يعد النص شعراً إذا لم تحوِ القصيدة صوراً ، رسمها الشاعر بالحروف والكلمات, و هي هدف الكاتب الذي يسعى إليها بكليته , ليثبت تمكّنه وقدراته, يقرأ القصيدة مرات متتالية بتأنٍ, وينظر نظرته الثاقبة نحو مخبوءات النص , يحيط بالعلاقة التبادلية بين الألفاظ والبيئة الاجتماعية للشاعر, ونميز في النصوص بين نوعين :

النوع الأول تقريري مباشر :  

يميل إلى العقل , وأفضله السهل الممتنع نراه في قصيدة /تراتيل/ :

استرقوا السمع

إذا دخلتم علي المحراب

واقرؤوا السلام على المدفونة

بحنجرة السماء وتستعصي على الكلام

سأقرأ السلام على من تعشقُ روحها

وتعشقُ فيّ التراب

 

 النوع الثاني عاطفي بانزياح كبير : 

تطغى فيه الصور الشعرية والإضاءات الجميلة , يميل إلى العاطفة والخيال بدرجة انزياح عالية و وفيه تكون تجربة الشاعر الشعورية جلية واضحة , انتقي قصيدة 

/ مرض الشمس / :

الشمس تمرض في المساء

يصفر لونها

نصفها غائب

أرى نصفي , يحيرني وصفي

أرى نصف السماء ونصفها الآخر بات

مفتوحا

فلا حجاب يحجبني

ولا ألم يؤلمني

غير أني لم أرتب بقيتي بعد

سأترك ألم الجسد يوجع الجسد

وابقى قليلاً فيما تبقى لي

من آخر البقاء

6- البيئة الشعرية في النص : 

 

ونعني بها المحيط أو الحيز المكاني  بكل موجوداته , والذي يؤثر على فكر وعاطفة الشاعر, وقد يكون المحفز على نظم ما يكتب , ومنه نعرف الحالة النفسية للشاعر, إذ فيها تولد الارهاصات نواة الإبداع,  وقد كان للطبيعة ومكوناتها من سماء  وتراب وماء , أشجار وأزهار, شمس وقمر , ليل ونهار, حب وعشق , بالمختصر بيئة عابقة بأجواء رومانسية خلابة ,عكست جمالها تعابير وألفاظ لغوية خطها قلم الشاعر بتمكن ومقدرة تحسب له, وكان صادقاً وأميناً في التحدث عنها ونقلها لنا, أكثر من ذكر ثنائية التراب والماء ليذكرنا بأصل الإنسان ( طين ) ,وبدورة الحياة المتعاقبة ليل ونهار , موت وحياة , مطر وقحط .

 

خامساً:المبحث النظري التحليلي البراغماتي ( الذرائعي ) للنصوص

 

عند التحليل الاستهلالي للنص حسب المفاصل البنائية والجمالية, ومن خلال النظريات النفسية والسلوكية والإدراكية التي تضمنته الرؤيا الذرائعية  ، يستطيع الناقد أن يختار أي بوابة علمية يخوض وبأي زورق يدرك المعنى ، وينطلق للغوص في مجاهل النص بعد فتح القشرة الجمالية المغلفة للنص الأدبي بدقة ، وهدوء دون ان يشوه جماليتها للنفاذ لمخبوءات النصوص الداخلية ليتفق الشكل مع المضمون بنسق متوازٍ .

بعد أن ألقينا الضوء على كل مفصل مسموع ومنظور ومحسوس ، قمت بتفكيك قشرة النص بدقة وحذر لكي لا أشوه تلك القشرة الجمالية، التي تعكس جمالية الشكل العربي للحرف والتنصيص ...

تأتي المرحلة التالية وهي الغوص عميقاً بقصد صيد اللؤلؤ المخبوء في محارات تستقر عميقاً في قيعان النصوص...وقد اخترت أن أدخل هذا الديوان من بوابات ثلاث , تعتمد العلم من بمناظير مختلفة ، يمكننا تبيانها تباعاً  :

 

1-المنظور السلوكي                                                                               

هو مجموع التساؤلات التي يحويها النص وقد تكون تساؤلات فلسفية , جدلية , أو اجتماعية أو سياسية ، وقد تلقي شباكها على الناقد وتستفزه بمفاتن النص الخارجيةstimulate) )تستميل الناقد ، وهذا ما يتوجب على الأديب فعله ، يحاول الناقد الإجابة على تلك التساؤلات, بشرط أن تكون تلك الإجابات موسومة  بالوضع أو البيئة الاجتماعية أو الأدبية أو الفلسفية التي أثيرت فيها تلك التساؤلات , وهي عبارة عن صراع أو تشابك بالأيدي بين الفعل ورد الفعل للظواهر الإنسانية من ظلم وجوع وكفاح يومي  مستمر , وهنا وجدت الأديب قد أثار تساؤلات فلسفية راقية وبدورها تثير جدليات كثيرة حول أصل الإنسان و الديومة والصراع الإنساني الذي يخوضه الإنسان في معترك الحياة بشكل قاسي من أيام قابيل وهابيل إلى عصرنا هذا عصر الانهيار ، وحاولت بكل جهدي كاستجابة سلوكية(response) أن ارد الفعل واعلن الاستجابات المعقولة برايي وهذا قابل للنقاش ونورد بأمثلة :

 

في قصيدة /قدسية الروح /: تساءل تساؤلات عديدة 

ماذا عساي أفعل

إذ أنتبه لصورة عن موتي المصغر هناك

حيث يتبصّرني ذاك الوجه الغريب للغراب

 

 

يجيب :

أقف على حافة شعري 

على طرف هاوية التراب 

لاشكل عندي للموت .. ولا شكل لشعري 

 

يعاود الأسئلة متضمنة إجابات إنسان مستسلم :

ماذا عساي أفعل غير تأويل الرؤى

وتصديق وجود حوريات في البحر البعيد

وتكذيب وجود عاشق غيري 

يتقن جمال لعبة حب لولبية 

ليس لدي غير كلمات ألقيها 

 

وفي /تضاريس امرأة /تساءل عن ماهية الذكر والأنثى كضدين , ونلاحظ كيف ضمّن الإجابة بتناص مع قصة سيدنا موسى, ,لتأتي الإجابة من جنسه, معجزة الله لسيدنا موسى,فكيف لا يصدق ؟  :

 

كيف أصدق أن نقيض الذكر 

هو أنثى .. كل أنثى 

لأنكِ أنثى بيضاء من غير سوء 

أهذا كلك أم تملكين سبع آيات أخر 

كيف أصدق ما أرى وما يصنعه خيالي

في فوضى النهار 

كيف أصدق أن بياضها 

يشبه شفافية الدمع ولون ملحه

كهيئة طير مخلوق من زمن الرومان 

على يد نبي 

 

في قصيدة /تقديس/ , يتساءل عن الطهر والقداسة مستحضرا قصة سيدنا نوح , ويجيب العدل والقسط :

قلت

كيف لنا أن نغسل شرايين الهواء بماء

النهر المقدس 

قلتُ ما قلت عن سر الطوفان 

الذي يسبق سفينة التراب المدنَس

عن الحب , عن وديان لا تعصم الماء من

طوفان الغرابة 

ماذا يليق بي ,

غير أن أملأ التراب قسطاً وعدلاً

 

 

2-المنظورالاستنباطي : ونعني به نقدياً مجموعة العبر والحكم والدلالات الإنسانية التي نستشفها من خلال جوانب النص وأركانه التعبيرية أو السردية , وعلى الناقد أن يقف طويلاً على تلك العبر ليحدد مقدرة الكاتب الفكرية والأدبية بناءً ومضموناً ونورد بعضها .....

 

في قصيدة /أرض السكينة /نراه يذكر الكثير من العبر,  ثنائية الذنب والتوبة, وعقبى التوبة   :

 

قلت : - أنا العاشق الذي لا يلدغ 

من حجر مرتين 

أذنبت مرة ثم أعلنت توبتي 

فاصطفتني الحياة 

كي أشق تراب الصحراء بعصا الحياة

وألملم الضياع 

 

في قصيدة /قدسية الروح/ يأتي أيضاً على ذكر المعصية والتوبة , وأجر التائب :

سأتقمص وأقول :-

هو ذا أنا قد تُقبِّل مني 

فخر مني القلب ساجداً.. وأناب

 

في قصيدة/ ربيع القيامة/ :دعوة إلى ترك ما مضى 

 

اتركي الرجوع ,

فليس في الأمس إلا الأمس

 

تبدل حال الإنسان في الجنة , النورانية تغلب ترابيته .

 

القيامة مجاز والرض مجاز 

وهذا السفر هو الرحيل إلينا

والقيامة أمامنا تفتح أبواب الجنة 

الطيور تبصر توأمة النور فينا 

ولا ترى فينا التراب

 

في قصيدة /الأخير الأخير/ : عبرة البدايات والنهايات 

 

حيث بدأت انتهيت 

أنا خلاصة ذاتي

 

الندم على التفريط في الدنيا وتمني العودة ليحسن العمل : 

 

كم أحتاج لطقوس الأولياء والعارفين 

كم أحتاج لوحي طيف يعلمني كيف أحيا

كيف أختار موتي 

بيضاء سريرتي في السماء

خضراء منزلتي بطقوس النساء

 

 

 

3-المنظور العقلاني : ونقصد به هو تجربة الأديب السابقة واتجاهاته من خلال التأثيرات الأدبية الفكرية التي نالها من قراءاته وثقافاته السابقة وتأثيره في كتاباته بشكل متواز أو متناص مع الأدباء والكتاب الآخرين , مضافا لها ما نجده حديثا من إرهاصاته الإنسانية , وسنغني تلك النقطة بالتناص الذي كان للشاعر معه شوطاً كبيراً.....

كل من تسنى له الاطلاع على ديوان / الأخير الأخير / للشاعرمحمود أبو الهيجاء, أدهشه الزخم الكبير من التناص الذي ازدحم به الديوان, حتى ليظن أن الشاعر قد أنشأ ديوانه على أعمدة من تناص , بل وجعل كسوته من تناص أيضاً....

حتى أنني أميل إلى جعل هذه السمة بصمة واسمة وتكنيك يلتصق بالشاعر , يخصه جداً, سأعرض لبعض الشواهد كإضاءة بسيطة , إذ قد لا يسعني لا الوقت ولا الورق لحصر كل صور التناص ...

نراه في الكثير من القصائد يتعمد أن يتناص مع القرآن الكريم , ننظر في قصيدة تراتيل , تناص مع قصة قابيل وهابيل :

 

استرقوا السمع

إذا دخلتم عليّ المحراب

واقرؤوا السلام على المدفونة

كانت تتوه بأرض آدم فانتبهتُ لولادتها

حين حفر عليها الغراب

 

ثم يتناص مع سورة مريم  في نفس القصيدة :

 

سأبشرها

السلام عليك يوم ولدتِ

السلام عليكِ يوم تبعثين

ليس من عدم

ليس من قِدَم

يوم تتجسّدين في ذاكرتي

جسداً للحلم

 

في قصيدة/ الموعد الأخير/ كأن حبيبته في كل القصائد بتولاً , لايراها إلا عذراء طاهرة بطهر مريم البتول :

 

قولي :- إني نذرت للحب صوماً

حتى أدوس العشب بيننا

وأتوج انتظاري

 

/حالة حب عذرية / نراه آدم وهي حواء , لاأدري لم ابدل ورقة التوت بورقة التين :

 

يقول أنه يحبها بنصف عواطفه

و ورقة التين

تتستّر على نصف عواطفه الأخرى

فإن بدت سوءة الحب إذا انكشف الحب

سيسقط الحب من جنته العليا

على أرض تدعى أرضَ الشقاء

 

الإنجيل كان مصدر تناص عنده أيضاً في قصيدة / ربيع القيامة /

 

هذا السفر الأخير لقيامتنا

هذا السفر الأخير لقيامنا

 

القيامة مجاز والأرض مجاز

وهذا السفر هو الرحيل إلينا والقيامة أمامنا تفتح أبواب الجنة

الطيور  تبصر توأمة النور فينا

ولا ترى فينا التراب

 

وكان لأحاديث الرسول الأعظم نصيب كبير كمصدر غني تناص معه الشاعر في مواضع عديدة , نذكر منها في / حالة حب عذرية / :

 

النصف الآخر لا يرى من

فرط الشفافية

كشجرة ثابتة حبُّه

فرعها هنا .. وأصلها في السماء

 

ومن السهل جداً أن نلمح معالم التصوف كمنهج فكري ومعرفي, وتعبَدي في الكثير من النصوص التي اختار الشاعر أن يجعلها مصدرا ً رابعاً يتناص معه, و نرى في قصيدة / وحي الجسد / العديد من التعابير التي تتناص مع بعض قواعد العشق الأربعين لشمس الدين التبريزي المتصوف الأكبر والمعلم الروحي لجلال الدين الرومي , نقرأ ما جاء بالقصيدة :

 

أنت ليس في العشق سواك

اقرأ ما يمليه عليك وحي قلبك

المتسع في ضيق الأخريات من العاشقات

من عرق الروح

بلّل الحروف الأولى في قصيدتك

فك لغزها

اقرأ ما أحكمت من الشعر والغناء

اقرأ مَن أنت المتشابه في ظل ذاتك

وفوضاك

 

انتظر

بعيداً عن ليل الغياب للجسد

انتظر

غض بصرَك عن مناسك الروح

رافقني أيها الروح وقل لي

أهي هنا ... أم هناك .

 

ويطل علينا عبق  الشاعر الفذ ( محمود درويش ) ونجد الشاعر محمود أبو الهيجاء مترعاً به في معظم نصوصه الصغيرة , لكني آثرت أن أستشهد بقصيدة / غريب / الذي يتناص مع نص / كأنك لم تكن / لدرويش :

 

تُنسى ,

كأنك لست ظلَّ القدر

كأنك وهم الرؤيا ,

وتُنسى

كأنك غيبٌ يحمله رسولك ويلقيه عليك

سراً .. وهمساً

فتُنسى كنسيان الغيب حين يصبح الغيب

ذاكرة للنسيان

أو قضى .. أمسا

تنسى

كأنك الغريب العاشق لأنثاه

كأنك الغريب عن قصيدة العشق

كأنك لست خبراً

أو نثراً

أو حساً

  

 

سادساً : المبحث العلمي :( المضمون)

 

البؤرة الاساسية الثابتة للنص(static core):

من صفات النص الرصين المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية ، احتوائه على إستاتيكية وديناميكية التنصيص(texualization motion) في الأفكار والأيديولوجيات الانسانية وحتى في الشكل البصري ، فتلمس تلك محطة البؤرة الثابتة للنص(Static Core) ، ايديولوجية الكاتب الأدبية والفكرية ، ونظرته نحو مجتمعه ، وتلك رسالة إنسانية يتميز بها الكتاب ، وبالخصوص ، الأدباء الكبار حيث تشكل تلك النقطة مرتكزاً ثابتاً ، و بؤرة لا يمكن تغيرها أو التلاعب فيها نقدياً ، فهناك من يكتب للفقراء, وهناك من يلاحق الظلم وهكذا... وقد أمكن لي تحديد هذه البؤرة في نصوص هذا الديوان, واتضح لي أن الشاعر محمود أبو الهيجاء يركز اهتمامه الرسالي بمنطق معقول من الرومانسية المترعة بالحكمة, والأمثلة والشواهد التي سقتها في معرض ما سبق, تشير تماماً إلى ما ذكرت ، بالإنطلاق من هذه البؤرة , إلى مخبوءات النص من دلالات سيميائية ورمزية , وتفصيلات أخرى تقع تحت مسمى المتغيرات المتحركة وهي المحطة التالية :

 

 

 

الاحتمالات المتحركة في النص(dynamic possibilities):

 ومن تلك المحطة ، ينطلق الناقد المتبصر بمجريات النص الداخلية وملاحقة حلقات الأفكار المتصلة فيما بينها بالتحليل ، واللهاث خلف الدلالات والرموز والأفكار المتعاقبة والمكملة لبعضها ، فيسلك سلوك صياد اللؤلؤ، كلما غاص عميقاً كان صيده وفيراً ودسماً ، لذلك يعثر على الأفكار المتدرجة والتي لا تفضي للتناقض كما يظنها دريدا ، فلو كان الأديب صاحيا لما يكتب رمزياً من دلالات ، فحتمية الوعي النصي تقتضي ألا يقع في شرك التناقض في الأفكار في نص واحد داخلياً، بل يكون التلاحق النصي يسير بين مسلكين متوازين و بحبكتين كما يحدث في النصوص المدروسة رمزياً ، الحبكة الأولى : إخبار صريح ، والأخرى: دلالية مخبوءة ، وهذا معنى ما يقصده دريدا ، كسر التوازي بين الحبكتين يقود نحو التصادم فيما بينهما وهو ما أسماه بالتناقض الفكري، فالاستمرار بتحليل جزئيات النص يقود نحو الخروج من النص نحو صحراء العدم ، وهذا شيء مناقض للواقع العلمي المادي ، ودخوله في ميتافيزيقية النص، فلا شيء يفضي إلى العدم , ولا شيء يخلق من من العدم ، وإنما ممكن أن تتغير الأشياء وتتحول من حالة إلى أخرى ، حتى الإنسان, يخلق طيناً ثم لحماً ودماً وبعدها يعود إلى الأرض من جديد ،فالعملية هي بحد ذاتها ، ليس استهلاكاً للمادة بل تغيير في حالاتها, فلو استهلكت المادة لانحسرت الأرض وأخذت الدنيا شكلاً مغايراً لهذا الشكل, وتغيرت كل الظواهر الطبيعية في الحياة ...

 

وبذلك دخل النص الأدبي تحت خيمة :الميتافيزيقا(Metaphysics) أو ما وراء المنطق والطبيعة ، وهي شعبة من الفلسفة, تبحث في ماهية الأشياء, وعلة العلل, أي القوة المحركة لهذا العالم , فقد تبدّى للإنسان منذ القدم , أن الكون بمخلوقاته المتعددة وعناصره المادية, لم يوجد بذاته , وأن وراءه قوة مطلقة هي التي أوجدته وهي التي تسيّره , ومع الأيام أخذ الإنسان يفكر في هذه القوة العليا تفسيراً فلسفياً ومنطقياً ,وعن هذا التفكير الفلسفي ,نشأت الميتافيزيقا, والتي تتألف بالأصل من لفظتين يونانيتينmeta  ومعناها وراء ،و physika ومعناها الطبيعة أوالواقع ، أن إطلاق اسم الميتافيزيقيا على هذا الجانب من الفلسفة ، و الباحث في علة الموجودات مردّه إلى المصادفة , وذلك بأن مصنفي مؤلفات أرسطو وضعوا رسائله الخاصة بهذا الموضوع , بعد رسائله الخاصة بعلم الطبيعة , فعُرفت هذه المباحث منذ ذلك الحين بالميتافيزيقيا أو ما وراء الطبيعة أو بالماورائيات, ولعلهم فعلوا ذلك عامدين , فالمرء لا يتحدث عما هو كامن وراء الطبيعة, إلا بعد كلامه عن الطبيعة أولاً ، سواء أكان الأمر مصادفة أم لم يكن , فإن لفظة الميتافيزيقيا تلخص في ذاتها جوهر البحث عن  علة الموجودات ، باعتبار أن هذه العلة كامنة وراء الظواهر المادية .....

 

من خلال تمحيصي في نصوص الشاعر محمود أبو الهيجاء, ومحاولاتي الدؤوبة للغوص في أعماق حروفه ومعانيه, وجدت الكثير من المخبوءات التي كان لزاماً علي أن أكشف سترها , دون أن أمس بجمالية النصوص الرومانسية ، غزلية الاحتمالات المتغيرة فيها ، مع أنها تتجاوز الماديات المحسوسة سواء الطبيعة أم الجسد ، بإتجاه أبعاد روحية تتسامى مع المورانيات ، فيغدو الجسد عندها ملائكي البنية, يحفه الحب بمفهوم صوفي , يتجلى بقواعده التي وضعها شمس الدين التبريزي ()، ولتتحول مجسدات الطبيعة إلى خيالات تقفز إلى ما وراء الطبيعة, والعكس وارد , إذ تتجسد الأخيلة الغير محسوسة بمجسمات حية  محسوسة, أما النصوص التي اعتمدت الفلسفة والحكمة , فقد خرجت بتساؤلات  عن التكوين الروتيني نحو المصير , و الثواب والعقاب, القيامة والجنة والنار ، والاستسلام لقدر محتوم لا نملك أمامه تفسيراً في أحيان كثيرة ، لذلك تكون الراحة بتمام الاستسلام والتسليم ، ومن خلال ذلك وجدت أن الشاعر يستند إلى خلفية أدبية وثقافية ودينية  من المستوى الرفيع ، تجلت واضحة في استخدامه الألفاظ الفصيحة المدروسة, والمنتقاة انتقاءً دقيقاً , وكأنه قام بتنقيتها من على منضدة نشر عليها صفوة الألفاظ والمفردات , ثم نضدها, ووظفها في مواضعها بحرفنة جعلتني متنبهة وفي أتم أوضاع التيقظ كيلا تفوتني شاردة عابرة, أو واردة متوارية, وكان استخدامه التناص القرآني خير دليل , ومفردات المنهج  الصوفي يعكس عمق ثقافته , ما ساعده على سوق  معانيه بمنتهى الحذاقة ...   وكأني كتبت النصوص من جديد برايي  , وقد أختلف مع آلاف النقاد بالرأي , وهذه نقطة جميلة تحسب للرؤية البراغماتيكية ,من عقلانية وتلاقح في الأفكار

 

ولو افترضنا ، استمراري باللهاث خلف الأفكار وتحليلها, سأبلغ حتماً صحراء العدم, وأنفذ اخيراً نحو اللاشيء أو اللامعنى ، وإذا كان العدم ملموسا، فهو إذاً شئ يدخل حيز الماورائيات الميتافيزيقية ، وبذلك أجد نفسي ، في فراغ وأدور في حلقة مفرغة ، ولذلك أكتفي بما تصيّدته من الأفكار، وأترك الباقي للماورائيات ، فالأهم أن أبلغ كمية من الاحتمالات الأيديولوجية الرسالية، التي أبرز فيها النص وأختلف او اتوافق فيها مع الآخرين من النقاد والمتلقين ، تحسب معها شكلانية النص ، وهذا يكفي ان أضع النص نقديا ،في تدرج الفائدة الإنسانية ....

 

 

 

 الخلفية الأخلاقية للنص أو الثيمة Moral Background or Theme: 

وتمتاز كل النصوص و الأعمال الأدبية الرصينة برمتها على موضوع خاص يبنى عليه النص بشكل كامل ، كأن يكون سياسي أو اجتماعي أو إنساني ، يلاحق السلبيات ويثبت القوائم الأخلاقية في المجتمع, وذلك هو واجب الأدب والأديب الحقيقي الرصين ، ويشترط أن يلتزم الأديب بقوائم الأخلاق والمثل الإنسانية العليا ، ولا يحق له التعرض لمنظومة الأخلاق العامة والأديان والأعراف والقوانين بشكل هدام ، حيث يشترط أن ينضوي الأديب الرصين تحت خيمة الالتزام الأخلاقي ويخضع لمقومات مذهب التعويض الأدبي (Doctrine of Compensation) وهذا المبدأ يفرض على الأديب الالتزام بالقواعد الأخلاقية المنظمة في المنظومة الأخلاقية العالمية ، ولا يسمح ،على سبيل المثال ، أن يشيع في نهاية عمله الأدبي نفاذاً للمجرم من العقاب أو ينزلق من طائلة القانون مهما كانت شدة ذكائه ، او يؤيد مصطلح الجريمة الكاملة ، بذلك يكون الادب قد ساهم  بإشاعة الفوضى والإرهاب في المجتمعات ، وهذا منافٍ تماماً لأهداف الأدب الإنسانية السامية العامة ، بل يبحث عن ثغرة ليجعل الرجحان دائماً لكفة العدالة والمثل ، ولا يجوز أن يتعرض نص من النصوص ، لكاتب في أقصى الشرق لعرف يحكم ، ولو مجموعة صغيرة من الناس تسكن في أقصى الغرب من المعمورة ، لذلك يجب أن يكون النقد هو الحارس الأمين لمنع تلك التجاوزات الأدبية الهدامة ، التي تخترق بنية الأعراف والقوانين والأخلاق لعالمنا بكل طوائفه وأجناسه ولا يعد أديباً من يخترق منظومة الأخلاق والأجناس والطائفية ، وينشر العداء والفرقة  بين الناس...

 

 

  

وهنا نجد أن الشاعر قد نجح في تثبيت المظاهر الأخلاقية للمجتمع, رغم أن مجمل النصوص نصوص عشقية وغزلية مؤدبة, بمقبولية متقدمة, لكنه أطَرها ضمن أخلاقيات مجتمعه المحافظ , بل والمتديّن, بما لا يمس التقاليد والأعراف, أو يجرح جلدة الإنسانية والعادات , ملتزماً بالأخلاق الإنسانية , دون أن يحاول إشاعة الفوضى الأخلاقية والإسفاف الفكري والأدبي.... وعلى الناقد ان يحدد في هذا الجانب الخاص بالمضمون والمعنى من خلال مناقشة تلك المعاني ودرجة العاطفة التي لمسناها انفاً بالتفصيل  بإستخدام المقاييس  التالية ليثبت فكر الكاتب بشكل نقدي علمي لا يقبل الشك  وكما يلي :

 

حركة المعاني في المضمون

تأخذ المعاني في المضمون النصي  للعمل الادبي و في دواخل النص اتجاهات مختلفة تحددها مقايس محدد وكما يلي :

 

مقياس الخطأ والصواب

على الشاعر الالتزام بالحقائق سواء كانت تاريخية , أم لغوية , أم علمية , لم نلحظ في الديوان خروج عن هذا المقياس كل الأفكار التي أوردها في النصوص متناصاً فيها مع القرآن الكريم لا تقبل الخطأ, وكذلك الأفكار الفلسفية المطروحة كانت تناقش جدليات تم إثباتها, لا إشكاليات ما تزال موضع شكوك وغموض, حيث أن معظمها يدور حول أصل وبنية الإنسان المادية ( تراب +ماء = طين) ثم نفخ الله فيه الروح, هل في ذلك شك ؟ جدلية الموت والحياة بتعاقبهما منذ بدء الخليقة, فكرة القتل ثم الحيرة بكيفية الدفن, ليأتي الغراب ( الذي تكرر ذكره في العديد من القصائد ) ليعلم الإنسان ( قابيل ) كيف يدفن أخيه ليعود إلى أصل بنيته ( تراب), بتدوير عجيب نجح الشاعر في إدراجه بثنائيات مقترنة مع بعضها البعض ( موت - حياة, تراب- ماء, طين – روح), وكلها حقائق مثبتة الصحة علمياً وتاريخياً .

  

مقياس التجديد والابتكار  

ليس شرطاَ أن يقدم الشاعر معان جديدة غير مسبوقة , لكن المطلوب أن يبتكر الشاعر بأسلوبه شيئاً جديداً من صور وافكار , حيث يمكنه أن يتناول معنى مفيداً من المعاني فيقدمه بأسلوب يبدو فيه جديدًا أو كالجديد, وقد أتجرأ وأقول أن الشاعر قد أتانا بمعان جديدة في بعض القصائد, لفتتني معانيه في قصيدة / وحي الجسد / وفيها صراع بين الروح والجسد , أراد فيه الشاعر أن يبرز الجسد كقيمة عظمى, لا تفوقه الروح قدسية وسمو , يقول :

 

شق روحي عن جسدي 

أسقِط ماء الصور القديمة وقل :ـ

انظر لذاتك القديمة 

أنت لست في العشق سواك 

 

اقرأ ما يمليه عليك وحي قلبك 

المتسع من ضيق الأخريات من العاشقات 

من عرق الروح 

 

اقرأ مَن أنت المتشابه في ظل ذاتك

 وفوضاك

 

 كما أنه طور معان أخرى وقدمها لنا بأسلوب شيق, ننظر كيف يدعونا لاحترام الجسد وتقديره  كموجود راقٍ مُكرّم بحد ذاته: 

 

دع وجود الوجود ينتظر 

انتظر 

بعيدأ عن ليل الغياب للجسد

انتظر 

غض بصرَك عن مناسك الروح

ورافقني أيها الوحي وقل لي

أهي هنا... أم هناك

أليس هذا الطرح للجسد كقيمة طرحاً جديدأ مبتكراً ...؟

 

مقياس العمق والسطحية 

المعنى العميق هو الذي يذهب بنا بعيداً في دلالات رمزية ومعنوية عالية , تثير في النفس خواطر كثيرة تجعل الناقد يشير إلى الأعمدة والرموز السيميائية التي يستشفها من خلال موجودات ومخبوءات القصيدة , وكلما كانت المعاني عميقة كلما حكمنا على الشاعر بأنه يتمتع بقدرة عقلية وملكة ذهنية وثقافة عالية , وتكون الأبيات عميقة إذا اعتمدت على الحكمة التي هي اختزال لقدر كبير من التجربة الإنسانية مقدمة في عبارة موجزة بليغة, وقد كانت المعاني الشعرية في هذا الديوان بهذا القدر من العمق الذي جعلني أحاول أن أغوص عميقاً جداً وسط بحر من الحكمة غارت فيها الرموز والأعمدة السيميائية في أعماق سحيقة . 

يقول في قصيدة / للنهر ضفاف جديدة / مستعرضاً الحياة كما ينبغي أن تكون في كل آدم وكل حواء, يقبلها بكل ألوانها ووجعه, لا يذكر منها إلا الجمال( الشال ) , وتقبله بالحب الذي يجعل للنهر ( الحياة ) ضفة واحدة لينة هانئة ....

 

يفتنني تفاصيل اللون في شالها المنعكس

على الماء

والمسروق لذاكرتي

يوجعني اللون في الذاكرة 

ويوجعني الأثر

سأتزوج وجعي

سأفض بكارة ذاكرتي 

سأجعل للنهر ضفة واحدة 

أنا والشال وفتنة الذاكرة

لن تكون ضفة النهر حجرأ أو تراباً

للنهر ضفة واحدة 
انا وهي والحب وفتنة ماء النهر 

وماء النهر فينا انحسر 

 

درجة العاطفة في القصيدة الشعرية :

 

اما درجة العاطفة التي تتحكم بحرارة النص الحسية و الوجدانية التي نشعر بها في القصيدة والتي تعتبر نقطة انجذاب تأخذ بالمتلقي نحو التمسك بالنص وقرار قراءته لها مقاييس نقدية هوكما يلي :

الكذب والصدق والتصنع بالعاطفة 

الدافع الذي جعل الشاعر يقول القصيدة , هل هو حقيقي أم زائف, لم يكن زائفاً أبداً بل حقيقياً صرفاً, وإلا ما اضطر لكتابة ديوان كامل يحكي به قصائد عديدة يحكي بها لواعجه ويبثنا فيها مشاعره بأريحية وانطلاق, بدون كلل أو مللو وبأفكار مبتكرة, بعيداً عن التأكيدات المشكِّكة, التي يتعمّدها الكاذب ليقنعنا بادعاءاته, وتأكدت من ذلك بعد اطلاعي على جانب من تجربة الشاعر الحياتية, واهتماماته الثقافية التي تركزت على دراسة التصوف وما يحتويه من حكمة وفلسفة عشقية خاصة .

 

مقياس الضعف والقوة في العاطفة

تعتمد على تأثير القصيدة في نفس قارئها , فإن هزت وجدانه , كانت قوية وإن لا, فضعيفة , وهذا يتبع لطبائع وأمزجة الناس فمنهم من يتأثر بالرثاء ومنهم من يتأثر بالغزل ومنهم من يتأثر بالفخر والمدح , لكن بشكل عام تعتبر قصائد الحزن والألم الأكثر قوة كونها موضوعات يعبر عنها بكلمات حميمية رقيقة. 

شخصياً أحكم على القصائد بالمجمل بالقوة بدرجات متفاوتة , بالمجمل أميل إلى القصائد العشقية ذات الطابع الرومانسي والتي تحمل العمق الفلسفي, وقد تحقق لي ذلك في هذا الديوان……   

 

:التحليل الرقمي الذرائعي الساندSupporting Digital Analysis:

 

ولأسند تحليلي للنص على جدار نقدي علمي قوي ، علي ان أختبر(test) هذا التحليل, بجمع جميع الدلالات الحسية والأعمدة الرمزية وتحليلها, ثم حسابها رقمياً, لأثبت رجاحة الدلالات وموازنتها مع بعضها البعض, وتحديد درجة الميل لكل واحدة منها، بذلك أكون قد أسندت آرائي النقدية رقمياً وحسابياً , بأحكام رقمية بحتة, لا تقبل الشك وتزرع اليقين لدى كل متلق أو ناقد....ومن خلالها نحدد هوية الكاتب وهوية النص ( تجنيس النص ) , ونعني به فعالية استنباط هوية الكاتب والنص أدبياً وإنسانياً وجمالياً,  ودراسة عمقه الأدبي ودرجة انزياحه الخالي ورمزيته , وهنا نقوم باستخراج جميع الأعمدة اللسانية والدلالات الحسية وحسابها ودرجة تكرارها في النص ,أو ما ينوب عنها من مرادفات ومعاكسات وتحويلها إلى أرقام بطريقة حسابية , وكانت النتيجة ما يلي :                    

 

الدلالات الحسية  الإيجابية 

 

حب وعشق : 45

حلم : 14

حياة :11

ماء  :11

نور : 5

سلام : 4

فخر: 11

فجر: 15

جمال : 4

شوق:6

 

المجموع=126

 

 

الدلالات الحسية السلبية

 

موت :16

غراب: 5

ليل :26

حيرة :30

غربة :12

غياب :4

ألم :10

نار :10

 

المجموع= 113

 

وبعملية حسابية بسيطة : 126-113 =13 

هناك غلبة للدلالات الإيجابية على الدلالات السلبية بفرق 13 وحدة حسية بينهما 

 

وجدت تكرارات كثيرة للفظة قصيدة وشاعر ونشيد بلغ مجموعها:

قصيدة وشعر :39 

 

وهذا ما يحملنا  على القول بكل ثقة أن كاتب هذا الديوان عاطفي متفائل يميل إلى الشعر والقصيدة ميلا كبيرا    ..

 

 

 

كما وجدت تكرارات كثيرة لمظاهر الطبيعة وظفها الشاعر ضمن أجواء رومانسية تنوعت بين ذكر الشمس والقمر والسماء والنجوم والبحر والنهر والزهر والشجر .... بلغ تعدادها :

 

دلالات رومانسية

 

طبيعة: 65

فالشاعر عاطفي متفائل يميل بشكل كبير إلى الرومانسية والجمال 

 

كما تكررت بالديوان ألفاظ دينية 

 

دلالات التديّن 

 

مناسك وعبادات :15

قيامة , ملائكة , أنبياء:29

 

المجموع: 44

 

 

نحكم عليه أيضا بأنه شاعر عاطفي رومانسي  لكنه يميل إلى التدين 

 

 

وقد حفل الديوان بتكرارات ودلالات فلسفية كثيرة تراوحت بين الحكمة وفلسفة الخلق والتكوين 

 

الدلالات الفلسفية :21

 

يستقيم لنا الحكم الأخير كما يلي :

 

شاعر عاطفي رومانسي متدين يميل إلى الفلسفة والحكمة 

 

إن التحليل الرقمي الساند يقطع الشك باليقين, بحكمنا على الشاعر, وكذلك على نصوصه, فهو شاعرعاطفي رومانسي بامتياز , تغشى  نصوصه الرومانسية بالدرجة الأولى فكانت نظرية/ الفن للفن / تحكم تلك النصوص , يميل نحو التدين ثم نحو الحكمة والفلسفة , ونصوصه تلك منضوية تحت نظرية / الفن للمجتمع / 

هو شاعر الإحساس والعشق العذري المغلف برومانسية الجمال الطبيعي , المترع بالحكمة والتقوى, والثقافة الدينية الصوفية الراسخة في فكره وقلبه , تنعكس على جوارحه فيهطل قلمه حروفاً من ماء على تراب القصيدة, فيتشكّل كهيئة الطين ينطق قائلا : أنا العاشق .. أنا الإنسان 

 

خامسأً : الخاتمة 

 

بالنهاية : أتمنى أن أكون قد أخلصت بدراستي هذه , فأي عمل من المستحيل أن يكون كاملاً, بل وحتى من الصعوبة بمكان أن يكون متكاملاً , لكني وفي هذا الحيز أقول أنني بذلت قصارى جهدي في محاولة مني لتطويق جميع أركان الديوان بما يستحقه من دراسة و قراءة نقدية  حاولت فيها أن أوازي الثقة التي وضعها فيّ الناقد الكبير الأستاذ الفاضل /عبد الرزاق عوده الغالبي /, الذي سمح لي متفضّلاً بسماحته المعهودة أن أكون أول من يستنير برؤيته النقدية العربية الموحدة هذه , و التي ارتأى أن يطلق عليها اسم/ الرؤية النقدية البراغماتية أو الذرائعية /

وله أرفع أسمى تحيات الاحترام والتقدير, وكلي أمل أني كنت على قدر المسؤولية التي ألقيت على عاتقي من قبله, من منطلق ثقته الكبيرة التي أعتز وأفخر بها .

 

تحياتي للشاعر الكبير محمود أبو الهيجاء, وأبارك له هذا الإصدار الجديد, الذي أمتعنا به, وأبحروغاص بنا في غياهب بحار ومحيطات من رومانسية وحب , و..فلسفة وحكمة .... 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبير يحيي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/02/26



كتابة تعليق لموضوع : قراءة نقدية تحليلية برؤية براغماتية لديوان/ الأخير الأخير/ للشاعر الأردني محمود أبو الهيجاء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net