العدالة الكاملة
احمد عبد الجليل ظاهر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كتب الكثير عن العدالة واهميتها وقد فهمت العدالة غالبا في الحكم وادارة الامور المادية والسياسية او الادارية بالمعنى العام الا اننا هنا نتطرق الى مفهوم العدالة بالمعنى الاوسع والذي ترجع اليه جميع النفسيرات التي ذكرت والتي لم تذكر, والتي هي بتصورنا القاصر اذا اهتم بها الانسان صلحت جميع احواله واستقامت جميع افعاله , العدالة اشرف الفضائل و افضلها، اذ قد عرفت انها كل الفضائل او ما يلزمها، كما ان الجور كل الرذائل او ما يوجبها، لانها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع الصفات و الافعال، ورد الزائد و الناقص الى الوسطية التي امرنا باتباعها والسير على هديها ، و انكسار سورة التخالف بين القوى المتعادية، بحيث يمتزج الكل و تتحقق بينها مناسبة و اتحاد تحدث في النفس فضيلة واحدة تقتضى حصول فعل متوسط بين افعالها المتخالفة، و ذلك كما تحصل من حصول الامتزاج و الوحدة بين الاشياء المتخالفة صورة وحدانية يصدر عنها فعل متوسط بين افعالها المتخالفة، فجميع الفضائل مترتبة على العدالة وتحققها ، و لذا قال افلاطون الالهي الحكيم: (العدالة اذا حصلت للانسان اشرق بها كل واحد من اجزاء نفسه و يستضىء بعضها من بعض، فتنتهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على افضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب الى مبدعها سبحانه) .
و من خواص العدالة و فضيلتها انها اقرب الصفات الى الوحدة، و شانها اخراج الواحد من الكثرات والتعدد والنظرة الى كل ماهو ليس بواجب ، و التاليف بين المتباينات، و التسوية بين المختلفات، ورد الاشياء من القلة و الكثرة و النقصان و الزيادة الى التوسط الذي هو الوحدة، فتصير المتخالفات في هذه المرتبة متحدة نوع اتحاد، و في غيرها توجد اطراف متخالفة متكاثرة، و لا ريب في ان الوحدة اشرف من الكثرة، و كلما كان الشيء اقرب اليها يكون افضل و اكمل و ابقى و ادوم و من تطرق البطلان و الفساد ابعد، فالمتخالفات اذا حصل بينها مناسبة و اتحاد و حصلت منها هيئة وحدانية صارت اكمل مما كان، و لذا قيل: كمال كل صفة ان يقارب ضدها فلا يتخلى عن الطرفين وان يصل الى حد الوسطيه والاعتدال، و كمال كل شخص ان يتصف بالصفات المتقابلة بجعلها متناسبة متسالمة، و جذب الصور الجميلة للنفوس، انما هو لوحدة التناسب، و نسبة المساواة في صناعة الموسيقى او غيرها اشرف النسب لقربها الى الوحدة و غيرها من النسب يرجع اليها.
و بالتالي فان اختلاف الاشياء في الكمال و النقص يكون بحسب اختلافها في الوحدة و الكثرة، فاشرف الموجودات هو الواحد الحقيقي الذي هو موجد الكل و مبدؤه، و يفيض نور الوحدة على كل موجود بقدر استعداده كما يفيض عليه نور الوجود كذلك، فكل وحدة من الوحدات جوهرية كانت او خلقية او فعلية او عددية او مزاجية، فهو ظل من وحدته الحقة، و كلما كان اقرب اليها يكون اشرف وجودا، و لولا الاعتدال و الوحدة العرضية التي هي ظل الوحدة الحقيقية لم تتم دائرة الوجود، لان تولد المواليد من العناصر الاربعة يتوقف على حصول الاتحاد و الاعتدال، و تعلق النفس الربانية بالبدن انما هو لحصول نسبة الاعتدال، و لذا يزول تعلقها به بزوالها بل النفس عاشقة لتلك النسبة الشريفة اين ما وجدت.
و التحقيق انها معنى وحداني يختلف باختلاف محالها، فهي في الاجزاء العنصرية الممتزجة اعتدال مزاجي، و في الاعضاء حسن ظاهري، و في الكلام فصاحة، و في الملكات النفسية عدالة، و في الحركات غنج و دلال، و في المنغمات ابعاد شريفة لذيذة و النفس عاشقة لهذا المعنى في اي مظهر ظهر، و باى صورة تجلى، و باي لباس تلبس.
(فاني احب الحسن حيث وجدته و للحسن في وجه الملاح مواقع)
و الكثرة و القلة و النقصان و الزيادة تفسد الاشياء اذا لم تكن بينها مناسبة تحفظ عليها الاعتدال و الوحدة بوجه ما، و في هذا المقام تفوح نفحات قدسية تهتز بها نفوس اهل الجذبة و الشوق، و يتعطر منها مشام اصحاب التاله و الذوق، فتعرض لها ان كنت من اهلها.
و اذا عرفت شرف العدالة و ايجابها للعمل بالمساواة، ورد كل ناقص و زائد الى الوسط. فاعلم: انها اما متعلقة بالاخلاق و الافعال. او بالكرامات و قسمة الاموال. او بالمعاملات و المعاوضات. او بالاحكام و السياسات.
و العادل في كل واحد من هذه الامور ما يحدث التساوي فيه برد الافراط و التفريط الى الوسط. و لا ريب في انه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط. حتى يمكن رد الطرفين اليه. و هذا العلم في غاية الصعوبة. و لا يتيسر الا بالرجوع الى ميزان معرف للاوساط في جميع الاشياء. و ما هو الا ميزان الشريعة الالهية الصادرة عن منبع الوحدة الحقة الحقيقية. فانها هي المعرفة للاوساط في جميع الاشياء على ما ينبغي. و المتضمنة لبيان تفاصيل جميع مراتب الحكمة العملية. فالعادل بالحقيقة يجب ان يكون حكيما عالما بالنواميس الالهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة.
و قد ذكر علماء الاخلاق ان العدول ثلاثة: «الاول» العادل الاكبر و هو الشريعة الالهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة. «الثاني» العادل الاوسط. و هو الحاكم العادل التابع للنواميس الالهية و الشريعة النبوية فانه خليفة الشريعة في حفظ المساواة. «الثالث» العادل الصامت و هو الدينار لانه يحفظ المساواة في المعاملات و المعاوضات.
و قد اشير الى العدول الثلاثة في الكتاب الالهي بقوله سبحانه:
«و انزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و انزلنا الحديد فيه باس شديد و منافع للناس»
فان الكتاب اشارة الى الشريعة، و الميزان الى آلة معرفة النسبة بين المختلفات و منها الدينار، و الحديد الى سيف الحاكم العادل المقوم للناس على الوسط. وبالتالي يجب على الانسان ان يختار طريقة حفظ عدالته ان كانت ملازمة له او ايجادها ان كانت مفارقة له وهذا هو حال العامة من الناس وحالنا .وان الاهتمام بها يؤدي الى صلاح جميع الاحوال لان العدالة التي تنبع من الذات والتي يكون اساسها الانسان ترقى به الى مستوى الانسانية والخلافية التي اختارها الله سبحانه له(واستعمركم فيها)
الناشر