صفحة الكاتب : صالح الطائي

جريمة قتل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 حقائق عن جريمة القتل
الذي أريد قوله عن هذه الحادثة التاريخية أنها بصورتها المشوهة التي أوردتها كتب التاريخ والسيرة تنضوي على خلط تاريخي وسر تآمري كبير، وكذب أكبر، وهناك عدة جوانب ثابتة تؤكد مخالفتها للواقع منها: حقيقة قتل عمر على يد رجل فارسي / أن القاتل لم يكن مجوسيا / أن القاتل كان مولى لصحابي منحرف عن علي عليه السلام / أن دافع القتل يبدو وكأنه إحساس بالظلم الشخصي / أن المغيرة ضغط على عمر بشدة لكي يدخل القاتل إلى المدينة / أنه لم يتبين أن الفرس كان مستعدين لاستغلال مقتل الخليفة لصالحهم. وسنقوم بامتحان كل نقطة منها وتحليلها وتفكيكها بعناية فائقة لاستخلاص النتائج.
حقيقة إن الذي قتل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب (رض) كان رجلا فارسيا حقيقة لا تنكر، ولكن القاتل وبكل التأكيد لم يكن مجوسيا، بل كان مسيحيا، ثم أصبح هو وكافة أفراد عائلته من المسلمين.
 وهذا يؤكده رأي الإمام علي عليه السلام الذي أدلى به إلى خليفة المسلمين عثمان بن عفان (رض) حين استشاره بشأن الحد الشرعي الذي يجب فرضه على "عبيد الله بن عمر" الذي قتل مجموعة من الموالي انتقاما لمقتل أبيه، وتأييد أكابر الصحابة لرأي الإمام، (إذ أجمعت الآراء يومها على قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب قصاصا لقتله هؤلاء المسلمين الأبرياء)[1]
وأشار إلى هذه الحقيقة بوضوح ابن سعد في طبقاته وابن الأثير في كامله، والنص لابن سعد: "فأجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله" [2]أي قتل عبيد الله بن عمر
وفي الكامل لابن الأثير: "فلما أحضره عثمان [ أي عبيد الله بن عمر] قال: أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام  ما فتق؟ فقال علي: أرى أن تقتله"[3] 
وفي تاريخ اليعقوبي إن هناك أسبابا كثيرة دفعت الناس للنقمة على عثمان ومنها إهداره دم الهرمزان، ولم يقتل عبيد الله بن عمر به[4] 
ثم قال اليعقوبي: "وأكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر وخطب الناس ثم قال: ألا أني ولي دم الهرمزان، وقد وهبته لله وعمر، وتركته لدم عمر، فقام المقداد بن عمرو فقال: إن الهرمزان مولى الله ورسوله، وليس لك أن تهب ما كان لله ورسوله! قال: فننظر وتنظرون. ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة"[5] 
صحيح إن هناك من أعتبر أن ضعف الخليفة عثمان وعاطفته الجياشة هي التي منعته من قود عبيد الله بن عمر بالهرمزان أو كما قال الدكتور السيد عبد العزيز: "كان عثمان عاطفيا فهو بالإضافة إلى ضعفه من جهة قرابته رجل شديد التأثر تغلب عليه العاطفة إلى حد أنه أهدر دم الهرمزان الذي قتله عبيد الله بن عمر ظلما، فلم ينفذ فيه الشرع ويقتله"[6] إلا أن ذاك لا يبطل ولا يمكن أن يبطل حدود الشرعيه أو يوقف أو يمنع تنفيذها. 
وفي سابقة جديرة بالاهتمام وضع الخليفة عمر بن الخطاب الحد على ولده عبد الرحمن بخمر شربها فمات بين يديه من جراء الجلد. كما أنه بعد أن سمع بفعلة ولده عبيد الله لم يمنعه ألم ووجع الطعنات أن يأمر بسجنه إلى أن تتبين حاله!
أقف هنا قليلا لأدلي برأيي بصدد حكم الصحابة على عبيد الله بن عمر بالموت لأقول: أخرج ابن حجر العسقلاني عن ابن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعتى الناس على الله ثلاثة: من قتل في حرم الله، او قتل غير قاتله، أو قتل لذحل الجاهلية) أخرجه ابن حبان في حديث صحيح[7] 
 أي أن للإسلام رأيا في مسألة القتل عموما، ومنه مسألة القتل الثأري، هو من أشد الآراء وأكثرها حدية، ولذا يجب التعامل معه بعناية وحذر ومسؤولية، وأرى أن الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) انطلقوا من هذه القاعدة في حكمهم، فحكموا على عبيد الله بالقتل قصاصا.
فإذا أضفنا إلى هذه المعلومة معلومة أخرى تنضوي على رأي آخر للإسلام بخصوص عقل أهل الذمة والموالي أي ديتهم، وقد وردت هذه المعلومة في حديث عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين"[8] بمعنى أن المسلم الذي يقتل ذميا لا يقتل به بل يدفع نصف دية القتل العمد. والذمي: هو من أستوطن من غير المسلمين في بلاد الإسلام. نجد أنفسنا أمام حكمين شرعيين ملزمين تصدر أحكام القصاص الإسلامية بموجبهما.
فهل كان الإمام علي وجمع الصحابة الغفير الموجود عند الخليفة ليخطأوا مثل هذا الخطأ الفاحش الكبير والجسيم فيطالبون بقتل المسلم عبيد الله بن عمر بجماعة من أهل الذمة، أو من الموالي، فيخالفون التشريعات وهم أعلم الناس بالإسلام؟ 
هل يعني هذا أنهم كانوا يجهلون حدود الحكم ساعة حكموا على عبيد الله بن عمر بالقتل وهو الذي لم يقتل إلا رجالا من أهل الذمة والموالي انتقاما لمقتل والده؟ 
أم أن حكمهم يأتي  تأكيدا على أن المقتولين كانوا من الموالي المسلمين الأعاجم  تحديدا وليس من أهل الذمة من غير المسلمين!؟ ويأتي أيضا لأن عبيد الله لم يقتل هؤلاء بشريعة الإسلام وإنما قتلهم "لذحل الجاهلية" الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله.
هنا أريد المرور على حادثة تاريخية مشابهة وقعت في زمن الدولة الأموية وفي أيام حكم معاوية بن أبي سفيان تحديدا، ويبدو من خلالها وكأن حكم معاوية كان أقرب إلى الشريعة من حكم الصحابة بما فيهم علي من الذين اعترضوا على وجوب حد وقود عبيد الله، فهل كان معاوية أكثر فهما للإسلام منهم يا ترى؟ 
تقول الرواية: "استعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله، فأعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف فقتله، فحبسه معاوية أياما، ثم أغرمه ديته، ولم يقده فيه"[9] 
وحقيقة أن قاتل عمر بن الخطاب لم يكن مجوسيا قبل أن يسلم وإنما كان نصرانيا ثم اعتنق الإسلام!
والدليل نجده في الكامل لابن الأثير من حديث المسور بن مخرمة وهو أحد الصحابة الموالين لمعاوية والمؤيدين لمنهجه، قال: "خرج عمر بن الخطاب يطوف يوما في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا ..."[10] ونجده في مستدرك الحاكم عن ثابت عن أبي رافع: "فغضب أبو لؤلؤة وكان اسمه فيروز وكان نصرانيا . . . ."[11] 
ونجده لدى الطبري إمام المؤرخين وإمام المفسرين الذي قال في تاريخه: "خرج عمر بن الخطاب يوما يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا"[12] 
وفي السياق نفسه قال المستشرق هنري ماسيه: "ومات عمر عام 644 [ميلادية] مقتولا بيد مسيحي فارسي"[13] 
ولذا أجد أن من المفروض بمن يكتب التاريخ أن يتجنب الخلط ويشير إلى الحقائق كما هي وأن لا يستغل كره العرب مثلا للفرس فيعتبر كل أهل فارس مجوسا فذلك خلط غير مستساغ. 
وسيتبين من النصوص اللاحقة أن الرجل الجاني كان قد أسلم وتخلى عن نصرانيته!
وهنالك حقيقة أخرى تقول: إن القاتل كان مولى للصحابي المغيرة بن شعبة ذلك الصحابي المعروف والمثير للجدل، الذي يعد واحدا من أكبر دهاة العرب المعدودين، ونص المسور الذي أورده ابن الأثير والذي أوردناه في أعلاه يؤكد هذه العلاقة بين المغيرة ومملوكه كما تؤكدها كل الروايات التي تحدثت عن جريمة القتل.
والمغيرة كما هو معروف كان من المنحرفين عن الإمام علي عليه السلام ولما كان الناس على دين ملوكهم فالقاتل بلا شك كان على دين مولاه المغيرة، يكره ما يكر سيده ويحب ما يحب، وبالتالي كان أبو لؤلؤة أيضا منحرفا عن الإمام علي.
ومع ذلك نجد بعض ـ ولا أقول كل ـ الكتاب والمؤرخين قد حرفوا هذه الواقعة التاريخية ليستنبطوا منها معطيات جديدة تعينهم في دعواهم مع انهم يؤمنون قبل غيرهم أن مساعيهم هذه تمت بوحي من العصبية التي كانت تحرك أقلامهم، وهي لا تقل عن فعلة عبيد الله بن عمر الذي نسى في سورة غضبته لمقتل أبيه كل آداب وتعاليم وأخلاق الإسلام فأقسم على قتل كل الموالي والرقيق في المدينة المنورة على كثرتهم وبالرغم من عدم علاقتهم بالجريمة لا من قريب ولا من بعيد.
 وبهذه المناسبة وجدت بعض الذين لا زالت روح البداوة ثابتة في اعتقاداتهم يبيحون لعبيد الله فعله ذاك مدعين أن الإسلام هو الذي سن قانون "العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص" وغافلين أن الله امتدح من يعف، مع أن عبيد الله لم يأخذ لا بالحكم الأول ولا بالحكم الثاني، لأنه تجاوز حدود القصاص التي حددها الشارع المقدس فشهر سيفه ليقطع دابر المسلمين الأعاجم في مدينة الرسول كلهم، باعتبار أنه كان يستحيل على غير المسلم العيش في مدينة الرسول في أيام عمر بعد أن أخرج اليهود منها، ومنع دخول غيرهم إليها، ولا أدري كيف كان هؤلاء الفرس "المجوس" الذين تتحدث عنهم الروايات يعيشون في معقل الإسلام وفي زمن دولة عمر بالذات وهم على مجوسيتهم يسرحون ويمرحون، في الوقت الذي لا يعد فيه الكثير من المفكرين وعلماء الدين المسلمين أتباع المجوسية من أهل الكتاب!؟ 
نعم هناك بين العلماء من يقول أن المجوس أهل كتاب ودينهم سماوي لكن هناك من يخالفهم ويدعي أن المجوسية ديانة شركية وليست سماوية. أصحاب الرأي الأول يستندون إلى مقدمة الآية المباركة {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة}[14] التي عدت المجوس مع اليهود والنصارى والصابئين دلالة على أنهم أهل كتاب. أما من خالفهم فقد اعتمد على عجز الآية من قوله تعالى: {والمجوس والذين أشركوا} وقد قال ابن حزم: "وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر وقد بيننا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا الإيصال في كتاب الجهاد وفي كتاب الذبائح منه، وفي كتاب النكاح منه والحمد لله رب العالمين، ويكفي من ذلك صحة أخذ الرسول (ص) الجزية منهم وقد حرم عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي"[15] 
إن حقيقة قتل عبيد الله بن عمر للموالي المسلمين الأعاجم أوقعت البلبلة في عقول المؤرخين والباحثين، ولذا راحوا يبحثون لها عن تخريجات غاية في الطرافة وعدم الواقعية، منها قول حسن عبد الله عن عبيد الله بن عمر: "ومضى يبحث عن العلوج في طرقات المدينة فلم يلق أحدا إلا قتله، وكان ممن قتلهم بعض الذين أسلموا"[16] في إشارة منه إلى أن بعض المقتولين كانوا من المسلمين الأعاجم وليس كلهم، ولكن مجرد إشارته إلى وجود مسلمين بينهم يؤكد أنهم لم يكونوا كلهم غير مسلمين كما يدعي البعض!
 وربما السبب العدواني الذي ظهر عليه عبيد الله في تعامله مع مسألة الثأر جعلت عاقبته مشابهة لعاقبة أخيه عبد الرحمن، فإن كان أخوه عبد الرحمن قد مات سكرانا تحت سياط الحد الذي نفذه بحقه والده[17] فأن عبيد الله مات خارجا على إمام زمانه في حرب صفين. وذلك لأن الإمام علي عليه السلام لما ولي الخلافة أراد قتله قصاصا بمن قتلهم فهرب منه إلى معاوية في الشام[18] واشترك معه في حرب صفين وقتل فيها. وأرى أن إصرار الإمام على وضع الحد على عبيد الله يؤكد أن المغدورين كانوا من المسلمين لا من المجوس والمشركين.
لقد حاول المؤرخون لملمة فعلة عبيد الله الدموية والتغطية من جهة على عدد قتلاه الذي يبدو أنه كان كبيرا جدا من خلال ذكرهم لمجموعة أسماء محددة مدعين أن هؤلاء فقط هم الذين قتلوا، هذا من جهة، ونفي أن يكون هؤلاء القتلى من المسلمين من جهة أخرى. فقال ابن قتيبة: "وأما عبيد الله بن عمر بن الخطاب فكان شديد البطش فلما قتل عمر جرد سيفه فقتل بنت أبي لولؤة وقتل الهرمزان وقتل جفينة رجلا أعجميا وقال: لا ادع أعجميا إلا قتلته، فأراد علي قتله بمن قتل فهرب إلى معاوية وشهد صفين فقتل"[19] وقال اليعقوبي في تاريخه: "إن عبيد الله قتل الهرمزان وامرأة وأبنة القاتل"[20] أي أن اليعقوبي اكتفى بذكر هؤلاء الثلاثة فقط، أما الدينوري فلم يذكر ديانة القتيل جفينة!
فجاء حسن عبد الله ليقول عن "جفينة" أنه احد قتلى عبيد الله وكان مدعيا للإسلام: "كان من نصارى الحيرة وأدعى الإسلام"[21] بينما نجد أن ابن الأثير في حديثه عن عبيد الله قال عن جفينة: "وقتل جفينة رجلا نصرانيا من أهل الحيرة"[22] 
فلك أن تتصور كيف شدد المؤرخون على أن القتلى ليسو من المسلمين، فكانوا يتهمون حتى من اشتهر إسلامه منهم بأنه مدع للإسلام وليس مسلما حقيقيا، وكل ذلك إنما جيء به للتشويش على عقلية المتلقي، وهو بمجموعه يحسب على الخلط التاريخي المتعمد.     
ومن جهة أخرى جيء به للتغطية على مكانة المقتولين المجتمعية والتشويش على درجتهم لتخطئة من دعا إلى قود عبيد الله بالمقتولين على اعتبار أنه لم يقتل سوى رقيقا وعبيدا لا يقاد الحر المسلم بقتلهم.
والملاحظ على أغلب أقوال المؤرخين أنها تجنبت ـ لسبب أو لآخرـ الإشارة إلى ماهية أبي لؤلؤة ودرجته الاجتماعية، وأنها لم توضح بشكل صريح فيما إذا ما كان رقيقا أم ذميا أم مولى، أو أنها خلطت بين هذه المسميات الثلاث، ولأهمية هذا الموضوع في تحديد نوع القصاص الذي يجب أن يوقع على القاتل سوف أتوسع به قليلا.
لم يكن وجود الموالي في جزيرة العرب جديدا أو من نتاج التغيير المجتمعي الإسلامي فقد كان المجتمع القبلي الجاهلي على ثلاث طبقات اجتماعية : طبقة القبيل أو جمهور أبناء القبيلة الصرحاء، وطبقة الموالي الذين اندمجوا في القبيلة عن طريق الحلف أو الجوار، والتي كان يغذيها السلوك القبلي العربي يوم كانت بعض القبائل تنبذ بعض أبناءها لأسباب اجتماعية مما يضطرهم إلى جوار قبيلة أخرى أو موالاتها، ثم طبقة العبيد والرقيق[23] 
أما في العصر الإسلامي فقد تغير مفهوم المولى ليشمل المسلمين من غير العرب، وهم غالبا من أسرى الحروب الذين يكونون عند أسرهم بمنزلة الرقيق، فإذا أسلموا أعتقوا وأصبحوا موالي يرتبطون مع الأسياد بحلف كما كان أبو لؤلؤة مع المغيرة بن شعبة، وعن هذا الطريق دخل الموالي ضمن التنظيم القبلي وتأثروا بالعصبية القبلية، فكان موالي كل قبيلة ينتسبون إليها[24] 
ومن الموالي من كان عبدا رقيقا رد له سيده حريته على أن يبقى بعد التحرير على صلة بسيده تسمى (صلة الولاء) فيقال له: مولى المغيرة أو مولى سعد بن أبي وقاص، ومنهم من يسلم على يد رجل من المسلمين ويتعاقد معه فيكون ولاؤه له، كما وتطلق كلمة مولى "على كل من دخل الإسلام من غير العرب سواء أسترق أو لم يسترق"[25] وقد سمى المسلمون كل أهل البلاد المفتوحة عنوة: الموالي.
وقال الدكتور علي حسني الخربوطلي أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة عين شمس في مصر: "وكان للموالي فضل كبير على الإسلام والعروبة  فقد كان ترحيب الموالي بالعرب عاملا هاما في سهولة فتح الأمصار، وكان الموالي يحملون دائما أعباء الحرف والمهن، وقامت على أكتافهم النهضة الزراعية، والصناعية، والتجارية ... وكانت ميادين الحضارة الفارسية منهلا نهل العرب منه الكثير"[26] كما وكان للموالي نصيبا أكبر من نصيب العرب في الوظائف العامة ولاسيما فيما يتعلق بالإدارة المالية في زمن تنظيم الدواوين وباقي التنظيمات الإدارية. وفي العصر الأموي كان عامل خراج زياد بن أبيه من الفرس، وولى مصعب بن الزبير المشهور بكراهيته للموالي أحد رجال الفرس أمر خراجه، وشريح القاضي ظل قاضيا على الكوفة خمسا وسبعين عاما وهو من الموالي.
وقد استخدم العرب مواليهم في الجاهلية والإسلام في حروبهم ولكنهم رفضوا أن يشاركوهم في إمتطاء الجياد[27] كما "وأنشأ عبيد الله بن زياد جيشا من الموالي أسماه المحاربة ليحارب بهم العرب"[28] وهم الذين عرفوا باسم "الكتيبة الحمراء" وكانت مهمتها مطاردة العرب الشيعة بوجه خاص، ولكن الأستاذ الخربوطلي أسقط لفظة (الشيعة) المضافة لكلمة (العرب) وأبقى الأخيرة وحدها!
أما الرقيق: فهم أسرى الحرب الذين يؤسرون فيسترقون ويعتبرون غنائم حرب، والذين كثرت أعدادهم مع توسع الفتوحات الإسلامية، ويقول الخربوطلي: أنه في العراق كان يوجد عند العربي من عشرة إلى مئة أو ألف، بل كان بيت الفقراء من عامة الناس لا يخلو من عبد أو أكثر يقومون بالخدمة بسبب رخص أسعار الرقيق نتيجة تكاثرهم بسبب الفتوح. وكان مسموحا لهم البقاء على اعتناق أديانهم الأصلية والقيام بشعائرها، وقد أعفاهم الإسلام من عقوبة الرجم وجعل عقوبة الجلد نصف عقوبة الحر، والرقيق إذا أجرم قتل ولا يجوز أن يقتل الحر بالعبد. فكيف يطلب أقضى المسلمين علي عليه السلام قتل مسلم حر بعبد مجوسي؟
ومع أن الدكتور الخربوطلي يرى مثل غيره من الباحثين أن هناك فرقا بين الموالي والرقيق، لكنه خلط بين الاثنين عند وصوله بالحديث إلى نقطة اللقاء الحتمي وأقصد بها قضية مقتل عمر بن الخطاب فقال: "إن التعصب ضد عموم الموالي جاء بعد مقتل عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة الفارسي مولى المغيرة بن شعبة، فأثار هذا الحادث عصبية العرب نحو الأعاجم سواء من أسلم منهم أو بقي على دينه"[29] لأنه أشار هنا صراحة إلى أن أبا لؤلؤة كان مولى للمغيرة ولم يكن عبدا رقيقا وبالتالي يجب أن تطبق عليه قوانين الموالي.
هذا الخلط المقصود والمتعمد يأتي غالبا للتشديد على مجوسية أبي لؤلؤة أو محاولة لترسيخها في العقول، وقد يكون سببه العصبية التي أرى أنها لعبت دورا كبيرا في قولبة قضية القتل ضمن هذا الإطار المحدد لتمنع الحديث عن الأطر الأخرى التي وقفت وراء جريمة القتل.
ولا ينكر أن العصبية القبلية كانت فاعلة قبل الإسلام ولها تأثيرها على عموم الحياة المجتمعية في العصر الجاهلي،وأنها لم تنزع من صدور العرب المسلمين رغم المحاولات النبوية المتكررة. وقد نجح الرسول الأكرم في إضعافها وتسبيتها وتضميرها، وعليه يرى البعض أن الردة التي وقعت بعد موت النبي صلى الله عليه وآله كان سببها والدافع لها العصبية القبلية، ومنهم الدكتور السيد عبد العزيز الذي قال: "لم تكن حركة الردة في جوهرها حركة دينية بقدر ما كانت في الواقع حركة سياسية وضحت فيها العصبيات القبلية"[30] ونحن واقعا لا نريد محاكمة عمومية هذا النص أوغمطه لحراك جزء مهم من الذين أطلق عليهم اسم الردة وهم لم يرتدوا وإنما اعترضوا على بيعة الخليفة أبا بكر، ولكن مجرد الحديث عنها يثبت أن هناك من أعطى للعصبية القبلية سطوة لها قدرة تغيير المعتقدات الدينية وغيرها، وأن عناك مؤامرة مسكوت عنها!
هذه العصبية التي تبدو بهذا الشكل المرعب كانت قد أختفت أو سبتت طوال حياة الرسول الأكرم "فالباحث في تاريخ الدعوة ومبادئها يرى أن الإسلام قد أعلن حربا لا هوادة فيها على التفوق السلالي والعنصري والقبلية، ونادى بإلغاء هذه الفوارق في مواطن كثيرة"[31] 
 وأستمر العمل بهذا النهج التسامحي العادل طيلة حكم أبي بكر وجزء من خلافة عمر، ولكنها "عادت إلى الظهور بعد انتهاء حركات الفتح"[32] وكأنها كانت سابتة في النفوس ومع أول دخول للأعاجم إلى بلاد العرب بعد الانتصار في معارك الغزوات مع فارس استيقظت وثارت ونهضت من جديد.
ويقول الخربوطلي: "ساعد عمر بن الخطاب بغير قصد على ظهور روح العصبية فقد كان نظام عطاء الجند الذي سنه دافعا هاما لظهور العصبية القبلية . . . وقد كانت سياسة عمر القاضية بعدم أختلاط العرب بالشعوب الأخرى المتحضرة عاملا على أحتفاظهم بالتقاليد البدوية بما فيها من تعصب"[33] 
ولا يخفى أن الأمويين هم الذين أعادوا للعصبية القبلية أمجادها من جديد، لا حرصا على العروبة والإسلام كما يدعي البعض وإنما لاستخدامها ضمن نسق الخط السياسي الذي كان معمولا به والذي كان يعتمد على مناغمة الأمويين لمشاعر العرب وتحشيدهم لنصرة دولتهم، وربما لهذا السبب دون سواه أعطاها أحمد أمين أهمية كبرى فقال: "وأصبحت العصبية مفتاحا نصل به إلى معرفة كثير من أسباب الحوادث التاريخية"[34] 
وكانت نظرة الأمويين إلى الموالي نظرة فيها شيء من الازدراء[35] وقد اعترف أحمد أمين بدور الأمويين في إذكاء روح العصبية فقال: "ولما ولي الأمويون الخلافة عادت العصبية إلى حالها كما كانت في الجاهلية"[36] 
بمعنى أن إحياء وتنمية روح العصبية كان عملا مقصودا وبدوافع سياسية بحتة، وأنا لا أستبعد ذلك لأن بث العصبية في المجتمع خلال مدة حكم عثمان جعل من السهل على الحكام والولاة ضرب قبيلة بأخرى لإضعافهما واتقاء شرهما، وهو النهج الذي بقي ساريا طيلة أيام حكم الأمويين وقال عنه أحمد أمين: "وأستغلها [أي العصبية] خلفاء بني أمية ومن بعدهم فكانوا يضربون بعضا ببعض"[37] 
والتعصب عند العرب نوعان كما يقول الدكتور السيد عبد العزيز: "عصبية دم تعتمد على أساس القرابة في البيت الواحد، وعصبية الانتماء إلى أب بعيد أو جد مشترك من نسله تكونت القبيلة أو القبائل المنتمية إليه"[38] وقد عادت العصبية في زمن الخليفة عثمان بن عفان إلى الحياة بنوعيها وبدأت تظهر بصورة واضحة بعد أن تغلب العنصر الأموي القرشي على مقاليد الأمور السياسية والاقتصادية والإدارية، ويعزو الخربوطلي سبب ذلك إلى الحسد لأن القبائل العربية الأخرى كانت ترى نفسها مثل قريش في الإسلام والهجرة والجهد الحربي والفتوح، فلماذا تفضل عشيرة الأمويين عليهم؟[39] وأرى أن هذا الرأي يمثل جانبا واحدا من جوانب الموضوع ويغفل الجوانب الأخرى. وممكن أن نستخلص مما تقدم مجموعة حقائق مهمة منها:
1. إن أبا لؤلؤة لم يكن رقيقا بل كان مولى للمغيرة. وحكم المولى يختلف عن حكم الرق وديته تختلف.
2. إن الولاء يخلق عصبية مثل عصبية الدم.
3. إن التغيير الذي حدث بعد سيطرة الأمويين على مقاليد الحياة في زمن عثمان حفز الموالي على الشعور بالإقصاء والتهميش والدونية بما دفعهم لارتكاب الحماقات لتعزيز دورهم الحياتي المهمش.
4. إن بعض ولاة العراق كانوا يجيدون اللغة الفارسية ومنهم  المغيرة بن شعبة مولى أبي لؤلؤة الذي كان يجيد اللغة الفارسية بشكل كامل ولذلك أحبه الموالي كثيرا[40] وقال بروكلمان عن المغيرة: "ولقد أدى أثناء الحروب ضد الإمبراطورية الساسانية خدمات ديبلوماسية عديدة من طريق معرفته باللسان الفارسي"[41] مما جعل تفاهمهم مع الفرس أكثر انفتاحا.
5. إن المغيرة كان يملك ستين أو سبعين أمة أغلبهن فارسيات[42] وهذا يعني أن تواصل المغيرة مع الفرس كان سهلا ممكنا يسيرا، ولا يحتاج إلى جهد كبير ولاسيما أنه يجيد لغتهم ويعاشر نساءهم بشكل يومي فضلا عن توقه للإمرة والسطوة!
وقد أشارت النقول إلى حقيقة أخرى في غاية الأهمية في سياق قصة مقتل الخليفة عمر وهي أن دافع القتل ـ كما يبدو من خلال الروايات ـ كان إحساسا بالظلم والإستغلال  تبعا للمحادثة التي جرت بين الخليفة والمجرم، والتي شكا فيها المجرم إلى الخليفة الحيف الذي لحقه.
فالمولى الفارسي (المجوسي) الذي قتل الخليفة كان حدادا ونقاشا ونجارا حاذقا كما تقول الروايات في وصفه، فضرب عليه سيده ومالكه المغيرة مائة درهم في الشهر وقيل درهمين يوميا، وقيل أربعة دراهم، على اختلاف الروايات، فاشتكى إلى عمر شدة الخراج فقال له عمر: ما خراجك بكثير. فانصرف ساخطا وأضمر لعمر السوء فكمن له وقتله[43] 
والقصة كما أوردها ابن الأثير عن المسور بن مخرمة: "قال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوما في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على المغيرة بن شعبة فإن علي خراجا كثيرا. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم. قال: وأيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت! قال: نعم. قال: فاعمل لي رحى! قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم أنصرف عنه. فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن"[44] 
وهي القصة التي لخصها "إبراهيم بيضون" بقوله: "وكان القاتل شخصا مغمورا لا يعرف الناس من أمره إلا أنه خادم للمغيرة بن شعبة من زعماء ثقيف في الطائف أما اسمه فهو أبو لؤلؤة المجوسي .. فارسي الأصل من نهاوند، وانه كان قد شكا إلى الخليفة ثقل خراجه ... وأما المبلغ موضوع التذمر فلا يتجاوز الدرهمين"[45] 
هذه القصة خضعت كغيرها إلى التزويق والتجميل مرات عدة منها واحدة تتحدث عن عبوس وتجهم أبي لؤلؤة بوجه الخليفة ساعة تهديده له، وتقبل الخليفة لذلك الفعل القبيح دونما اعتراض. كما أن هذه الرواية تذكر أن الخليفة لم يسأله عن صنع الرحى  في نفس اللقاء الحساس هذا، وإنما جاء السؤال بعد مدة من الزمن، وكأن الخليفة توجس من الرجل شرا وأراد أن يمتحنه بهذه المسألة،أو أن هناك من أوغر قلب الخليفة عليه ونقل له هذا القول ضمن أقوال مهيجة أخرى بدلالة أن الرواية تقول على لسان عمر أنه قال للمجرم: ( ألم اخبر؟؟) أي ألم يخبرني من هم بقربي أنك تصنع رحا تطحن الهواء؟ فأرسل إليه أو التقاه ليسأله هذا السؤال المهم.
هذه رواية أخرجها السيوطي عن الزهري وجاء فيها: "فلبث عمر ليالي ثم دعاه فقال: ألم أخبر أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح؟ فألتفت إلى عمر عابسا وقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها! فلما ولى قال عمر لأصحابه: أوعدني العبد آنفا"[46] 
أما الرواية التي أخرجها المسعودي فتقول: إن أبا لؤلؤة هو الذي مر بمكان كان عمر جالسا فيه فسأله هذا السؤال وتلقى منه التهديد، وتقول رواية المسعودي: "ثم مر بعمر يوما آخر وهو قاعد فقال له عمر: ألم أحدث عنك أنك تقول: لو شئت أن أصنع رحا تطحن بالريح لفعلت؟ فقال أبو لؤلؤة:لأصنعن لك رحا يتحدث الناس بها ومضى أبو لؤلؤة. فقال عمر: أما العلج فقد توعدني آنفا"[47] 
لاحظ هنا أن الروايات التي تحدثت عن اللقاء اختلفت في وصف هيئة وسحنة أبي لؤلؤة بعد أن غادر وقالت بعضها أن المحادثة مع الخليفة انتهت بالتهديد المبطن الذي فطن له الخليفة بحصافته وفطنته، وقالت أخرى أن المجرم التفت عابسا إلى عمر، وقالت ثالثة: أنه انصرف ساخطا.
السؤال هنا: إن من المعروف عن الخليفة عمر حدته وشدته وعدم تهاونه، وهذا الحوار منذ بدايته وبكل صوره التي جاء بها يؤكد أنه كان يرى في هذا العبد خطرا ماحقا بل أنه تأكد كليا مما يضمره له الرجل من خلال الحوار المكمل الذي دار بينهما، فلماذا لم يأخذ حذره منه؟ لماذا لم يضع عليه الحد؟ لماذا لم يطرده إلى خارج المدينة في أقل تقدير؟ لماذا أنتظره ينفذ تهديده؟ وهل كانت فصول القصة بهذا الشكل المتباين الذي رواه المؤرخون؟ وهل أنها بكل هذه الأهمية ليقوم الخليفة بمتابعة أخبار هذا العبد واستدعائه من جديد وسؤاله هذا السؤال الذي لا علاقة له بالقضية؟  بل هل هي المظلمة الوحيدة التي أشتكى فيها الناس إلى الخليفة من ظلم الآخرين لكي تبقى عالقة في باله فيرسل بطلب العبد بعد ليال عديدة ليسأله مثل هذا السؤال؟ لقد ورد في الأخبار أن مجرد قدوم شخص ما للشكوى كان يدفع عمر لعزل واليه على البلاد التي جاء منها المشتكي ويطلبه للمحاسبة والعقاب، فهل من المعقول أن يسكت عن نصرة هذا الشخص القريب منه!؟
المهم أن هدف الجريمة ـ في الأقل ـ وكما يبدو من هذه الروايات لم يكن بدوافع سياسية مطلقا بل كان بدافع الشعور بالظلم وعدم إنصاف الحاكم للمظلوم، ورفض المظلوم للاستغلال. وبناء عليه كان من ممكن لمثل هذا الفعل القبيح أن يصدر من أي علج من علوج الأعراب أو المنافقين وأمثالهم وما أكثرهم في ذلك المجتمع، كردة فعل يولدها الشعور بالغبن. 
بمعنى أن غاية القتل في الأقل وكما يتبين من هذه الروايات  كانت دنيوية بحتة لا علاقة لها بالدوافع الدينية أو المذهبية أو العرقية، ولو كان للقاتل أي مقصد من تلك المقاصد التي يتحدث عنها البعض لما كان الإمام علي قد أصر على القصاص من عبيد الله بن عمر بهذا الشكل لدرجة أنه طلبه لوضع الحد عليه بعدما تولى الخلافة، وهو أقضى المسلمين بشهادة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، ولما كان المهاجرون والأنصار قد أجمعوا على قتل عبيد الله قصاصا، ولكان الإمام أول الداعين إلى قتل المشاركين بهذا العمل كلهم.
 لذا أرى أن من يريد استغلال الحادثة بقطع جذورها وتجريدها من أسبابها الحقيقية وعلاقتها بالمؤامرة العربية السرية وإعطائها طابعا سياسيا خارجيا أو طابعا دينيا داخليا إنما يريد التملص من تبعاتها لأنه الوحيد الذي نسق لها وأدار مساراتها، وأرادها أن تبدو بهذا الشكل، وهذا الأمر لا يمكن أن يصدر إلا من جهة واحدة تملك كما كبيرا من الأسباب التي تدعوها لذلك.
حقيقة أخرى تتحدث عن طلب المغيرة بن شعبة من الخليفة موافقته على إدخال أبي لؤلؤة إلى العاصمة، وهي حقيقة لا تقل عن سابقاتها أهمية ولها علاقة كبيرة بهذه الجريمة النكراء وتبين بشكل قاطع أن عملية إدخال أبي لؤلؤة إلى المدينة كانت استعدادا لتنفيذ مؤامرة مبيتة مع سبق الإصرار! فالمعروف أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان قد منع دخول الأعاجم إلى عاصمة الإسلام بعد توليه الخلافة، وهناك روايات كثيرة تقول أنه كان كثير التشدد بشأن دخول الأعاجم إلى المدينة وهو ما نقله الدكتور أحمد صبحي داود عن ابن سعد: "ويقول ابن سعد أن عمر كان لا يأذن للسبي من الأسري من الرجال بدخول المدينة واستأذن المغيرة بن شعبة حتى سمح عمر بأن يأتي للمدينة أبو لؤلؤة فيروز المجوسي ، وكان من سبي نهاوند ، ويقول عنه ابن سعد: كان خبيثا ، إذا نظر إلي السبي الصغار يأتي فيمسح رؤوسهم ويقول إن العرب أكلت كبدي .. وفي النهاية قتل عمر انتقاما"[48] 
وقبل الاسترسال، أود الوقوف عند قول ابن سعد عن أبي لؤلؤة (كان خبيثا) لأن حسن عبد الله  أضاف للجملة قولا منسوبا لأبي لؤلؤة جاء فيه قوله: "أحرق عمر كبدي، أحرق الله كبده"[49] لأقول: أليس في هذا القول تهديدا مباشرا للخليفة وتطاولا عليه؟ ألا يعتبر مثل هذا التفكير معاديا للإسلام برمته ويمثل تهديدا للعقيدة؟ فلماذا يسكت المسلمون وتسكت الحكومة الإسلامية عن هذا التطاول ولاسيما وأن الخليفة  كان قد أخرج من قبل من المدينة كل الجاليات الأجنبية وأعادهم إلى بلدانهم الأصلية أو وضعهم خارج أرض الجزيرة؟[50] بمعنى أن عملية إخراج أبي لؤلؤة لن تكون سابقة ممكن أن يلام عليها الخليفة بعد أن تبين فساده، وحقده الظاهر، وتآمره علنا.
نعود إلى موضوع المنع لنجد في طبقات ابن سعد قول عمر: "لا تجلبوا علينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي"[51] 
وفي تاريخ السيوطي: "قال الزهري: كان عمر رضي الله عنه لا يأذن لسبي قد أحتلم في دخول المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة"[52] 
كما وأشار المسعودي في مروجه إلى موضوع منع عمر دخول الأعاجم إلى المدينة بقوله: "وكان عمر لا يترك أحدا من العجم يدخل المدينة، فكتب إليه المغيرة بن شعبة: إن عندي غلاما نقاشا نجارا حدادا فيه منافع لأهل المدينة، فإن رأيت أن تأذن لي في الإرسال به فعلت، فأذن له"[53] 
وأنا أرى أن هذا المنع لا يعني أن هؤلاء الأعاجم كانوا يضمرون الشر للإسلام  فمنع عمر دخولهم إلى المدينة المنورة لهذا السبب. ولا لأنهم يحرفون أخلاق العرب باختلاطهم معهم، بل إن حصافة عمر وبعد نظره وإحساسه بوجود مؤامرة تدبر بليل ينفذ مشاريعها القذرة بعض الأعاجم المغرر بهم من العبيد والموالي بتخطيط من الداخل هو ما دفعه لاتخاذ هذا القرار القاسي تحديدا لكي لا يتخذ لأغنياء والطامعون بالإمرة هؤلاء الأعاجم مطايا لتنفيذ مآربهم، وهو ما حدث فعلا عند أول بادرة تهاون بدرت من عمر، وكان عمر أول ضحاياها! 
إن إصرار المغيرة بهذا الشكل على إدخال هذا الرجل الأعجمي إلى المدينة رغم المنع والتشديد، وترغيب الخليفة للموافقة على دخوله، يبدو منضويا على كثير من الأسرار، ومثيرا لكثير من الشكوك! وألا لماذا هذا الرجل بالذات؟ وهل كانت المدينة خالية من الحدادين والنجارين لتحتاج إلى إدخال هذا الشخص بالذات دون سواه من الصناع المهرة على كثرتهم وتنوع أصولهم؟ 
هل كان هذا العلج فريدا في براعته لهذه الدرجة التي تستوجب الإصرار على استحصال موافقة الخليفة لإدخاله إلى المدينة لو لم تكن هناك أسرار دفينة تستوجب إدخاله إليها في ذلك الوقت بالذات؟
ولكن للأسف لم ينتبه الخليفة عمر إلى مخاطر استثناء أبي لؤلؤة من أمر المنع والأسباب الكامنة وراء طلب المغيرة بإدخاله إلى المدينة إلا بعد فوات ، ولذا نراه بعد أن طعنه أبو لؤلؤة  يأسف على تهاونه بهذا الشأن ويقول مقولته المشهورة: "الم أقل لكم لا تجلبوا علينا من العلوج احدا، فغلبتموني"[54] أي عتاب كبير هذا؟ وأي مرارة تلك التي كان يشعر بها خليفة المسلمين والتي طغت على ألمه ووجعه ليذكر بها المسلمين معاتبا؟ ومن هم الذين غلبوا الخليفة الراشد عمر رغم تشدده مع كل رؤوس المجتمع وعدم تهاونه مع الجميع، ورغم قوته واعتداده برأيه ، فأجبروه على قبول دخول المجرم إلى المدينة؟ أليس في قول عمر دلالة كبيرة على أن جهودا مضنية بذلت لإقناعه بالموافقة على دخول أبي لؤلؤة إلى المدينة؟
 
كما وهناك حقيقة أخرى لها علاقة بقصة القتل وهي انه لم يرد في أي نقل قديم ما يشير إلى أن الفرس كانوا قد أعدوا عدتهم لغزوا بلاد المسلمين بعد قتل الخليفة، أو الانقضاض على الحكم من الداخل بواسطة خلاياهم النائمة. 
إذ لو كان قتل الخليفة قد تم بدافع سياسي خارجي هدفه تقويض الإسلام وإعادة أمجاد دولة الفرس المجوسية ما كان من المعقول جلوسهم بلا حراك منتظرين عودة تيجانهم وإساور ملوكهم إليهم بلا حراك فعلي ومستعجل لمجرد قتلهم لخليفة المسلمين وكأن الدولة ستنهار بمقتل زعيمها، ولا أفضل من  هكذا وقت لهذا الحراك مع انشغال المسلمين بمقتل خليفتهم، وانشغال المجتمع بشورى الستة الذي يعني أن الدولة الإسلامية كانت حينها بدون حاكم! 
وعليه أرى أن ما يقف خلف عملية قتل الخليفة يجب أن يكون أهم وأكبر كثيرا من كل ما قيل حولها، وله علاقة كبيرة بالصراع الداخلي في المجتمع الإسلامي، وهذا ما سنحاول اكتشافه لاحقا ولاسيما أن هناك الكثير من الكتاب والباحثين يرون أن قضية مقتل خليفة المسلمين في عاصمة الإسلام لا يمكن أن يكون بهذه السذاجة والتفاهة التي يتكلم عنها التاريخ، ولابد أن هناك خلفها أكثر من سبب وجيه ليس من بينها الدافع الشخصي، أو الدافع الخارجي، ومنهم الدكتور إبراهيم بيضون الذي يرى عدم وجود دوافع شخصية أو عوامل خارجية تقف وراء جريمة القتل ويقول: "إن إقدام مولى كأبي لؤلؤة من تلقاء نفسه على اغتيال الخليفة وأقوى شخصيات الدولة في حينه ربما كان خارجا على القواعد المألوفة، وفي هذه الحالة لا تكون ثمة دوافع وجيهة وراء المتهم لاقتحام هذه المؤامرة الجريئة، في وقت لا يستطيع أحد ربط هذه القضية بعوامل خارجية"[55] أي أن الباحث ينفي أن تكون هنالك دوافع خارجية أو دوافع شخصية تقف خلف أبي لؤلؤة وتدفعه لقتل خليفة المسلمين.
ومنهم أيضا حسن عبد الله الذي أتهم الفرس بتدبير المؤامرة ضد الخليفة عمر ثم عاد ليقول: "ويفيق الناس من هول الصدمة فإذا هم يتساءلون: من قتل عمر؟ أيقتله أبو لؤلؤة، لأنه لم يرفع عنه بعض ما فرضه عليه صاحبه المغيرة بن شعبة من ضريبة؟ 
أيصلح هذا سببا؟"[56]  
ويبدو أن الكاتب أراد عن طريق هذه المقدمة التطرق والدخول إلى موضوع المؤامرة والإشارة إلى وجودها، ولذا تراه يقول في مكان آخر: "وتدل القرائن كلها على أن عملية اغتيال عمر كانت مؤامرة من حركة سرية يقودها الهرمزان ملك الخوزستان"[57] وكان من الممكن لهذا الرأي أن يلقى القبول لولا أن الكاتب أخطأ في تشخيص المتآمرين ليتهم الهرمزان الأسير الذي أعلن إسلامه وأقام في العاصمة تحت أنظار موظفي الحكومة وباقي الصحابة وغيرهم من المسلمين، ويتهم كعب الأحبار الذي بادر إلى تحذير الخليفة وكشف له  سر المؤامرة  بأنه احد المتآمرين، أو كما في قول الكاتب عن كعب: "والواضح أن كعب الأحبار كان على علم تام بأبعاد المؤامرة بل هو من الضالعين في التخطيط لها"[58] قال هذا بعد أن قدم له بمقدمة قال فيها عن كعب: "وهو يهودي هبط على المسلمين فجأة معلنا إسلامه"[59] أما كيف يكون كعب الأحبار واحدا من المتآمرين ويبادر إلى تحذير الخليفة من وجود مؤامرة تستهدف حياته فذلك ما لم يوضحه الكاتب، وما يعجز عن توضيحه مهما حاول.
ومما تقدم يتبين أننا بحاجة إلى إعادة قراءة تاريخنا لنتبين الصحيح من الخلط والدس والحشو، لأن كل الخلاف الفاشي بين المسلمين اليوم سببه روايات تاريخية.
 
 
 
هوامش البحث
[1] طبقات ابن سعد - ج 3 - ص 16 -17
[2] المصدر  نفسه، ص 17
[3] الكامل ،ابن الأثير، مجلد3،ص 61
[4] تاريخ اليعقوبي، جزء 2 ص 174
[5] المصدر نفسه، ص 164
[6] التاريخ السياسي، د. السيد عبد العزيز، مصدر سابق، ص 298
[7] بلوغ المرام في أدلة الأحكام، ابن حجر العسقلاني، ص 356
[8] بلوغ المرام في أدلة الأحكام، ص 357
[9] تاريخ اليعقوبي، جزء2، ص 223
[10]  الكامل لابن الأثير – ج 3 – ص 40  حوادث السنة الثانية والعشرين للهجرة
[11] المستدرك، الحاكم الحسكاني، المجلد  الثالث، الحديث 4512/110 ص 97
[12] تاريخ الطبري، 2 / 735
[13] الإسلام، هنري ماسيه، ص  62
[14] سورة الحج، الآية 17  
[15] الفصل في الملل والأهواء، ابن حزم الظاهري، جزء1، ص 135-136
[16] الاغتيالات في الإسلام، حسن عبد الله، ص 46
[17] قال عنه ابن قتيبة الدينوري (في المعارف الصفحة 109):  ابو شحمه عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ضربه عمر الحد في الشراب وفي أمر  آخر فمات ولا عقب له.
[18] ينظر: الكامل لأبن الأثير، مجلد 3 ص 62
[19]  المعارف ابن قتيبة الدينوري – ص 108 
[201] تاريخ اليعقوبي، ج 2 ،ص 160
[21] الاغتيالات في الإسلام، ص46
[22]  الكامل في التاريخ، مجلد3 ص 60-61
[23]  ينظر: التاريخ السياسي والحضاري للدولة العربية، د. السيد عبد العزيز سالم، ص33
[24] ينظر: الحضارة العربية الإسلامية، د. علي حسني الخربوطلي،ص 91
[25] فجر الإسلام، أحمد، ص 111
[26] فجر الإسلام، ص 95-96
[27] الحضارة العربية، الخربوطلي، ص 94
[28] المصدر نفسه، ص 96-97
[29] ينظر: الحضارة العربية، الخربوطلي،ص 91
[30] التاريخ السياسي والحضاري للدولة العربية، د. السيد عبد العزيز سالم، ص184
[31] أصول التشيع، عرض ودراسة، هاشم معروف الحسني، ص 19
[32] ينظر: الحضارة العربية، الخربوطلي،ص 82
[33]  الحضارة العربية الإسلامية، الخربوطلي، ص 85
[34] فجر الإسلام، أحمد أمين، الجزء 1، ص 10
[35] فجر الإسلام، ص 111
[36]ينظر: المصدر نفسه، ص 98
[37]المصدر نفسه
[38] ينظر: التاريخ السياسي والحضاري للدولة العربية، د. السيد عبد العزيز، ً 10
[39] ينظر:الحضارة العربية الإسلامية، الخربوطلي، ص 86-87
[40] ينظر: المصدر نفسه، ص 90، عن الطبري 4/218
[41] تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان، جزء1، ص 146
[42] ينظر: المصدر نفسه،ص 114 عن الأغاني 14/138
[43] ينظر: الطبقات الكبرى لابن سعد – ج3 – ص 345 والمستدرك للحاكم – ج 3 – ص 97 و ص 277 وتاريخ الإسلام – ج3 – ص 277 وتاريخ الخلفاء للسيوطي – ص 133-134 ومروج الذهب للمسعودي – ج2 – ص 320 وتاريخ الخميس – ج2 – ص 248
[44] تاريخ الطبري،خبر وفاة عمر بن الخطاب، 2 / 735  والكامل في التاريخ، ابن الأثير ، ج3 ، ص40 حوادث السنة الثانية والعشرين للهجرة
[45]من دولة عمر إلى دولة عبد الملك، د. إبراهيم بيضون، ص 50، عن فتوح الشام للبلاذري ص 68
[46] تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 133
[47] مروج الذهب، المسعودي ، 2 / 338
[48] المسكوت عنه في سيرة عمر بن الخطاب في الفكر السني،احمد صبحي منصور، ص5
[49] الاغتيالات في الإسلام، ص 36
[50] الاغتيالات في الإسلام، ص 34
[51] الطبقات الكبرى، ابن سعد 2/ 253 
[52] تاريخ الخلفاء ، جلال الدين السيوطي، ص 133
[53]مروج الذهب، المسعودي، 2 / 337
[54] طبقات ابن سعد، 2 / 253
[55] إبراهيم بيضون، مصدر سابق، ص 98 
[56]الاغتيالات في الإسلام، ص 45
[57]المصدر نفسه، ص 40
[58]المصدر نفسه، ص 41
[59] الاغتيالات في الإسلام، ص 39
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/06/05



كتابة تعليق لموضوع : جريمة قتل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net