صفحة الكاتب : علي بدوان

في كلية المشاة العسكرية
علي بدوان

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قبل نحو ثمانية وعشرين عاماً ونيف، التحقت بخدمة العلم (خدمة الجيش) كفلسطيني سوري. رحلتي إلى العسكرية انطلقت من موقع (النبك) أو مركز التدريب العسكري الأول في منطقة القلمون لإجراء الفحوص الطبية، والفرز بعد ذلك إلى الكلية أو المدرسة العسكرية التي سيتوجه نصيبي إليها.

 
فالفلسطينيون في سوريا أو ما يعرفون بفلسطينيي سوريا، وتحديداً من حملة الشهادات الجامعية عليهم الإلتحاق بمراكز التجنيد التابعة للجيش العربي السوري وليس إلى مركز التدريب العام لجيش التحرير الفلسطيني في منطقة مصياف بالقرب من مدينة حماة وسط سوريا ـ وذلك بغرض الخضوع لدورة عسكرية كطلاب ضباط باختصاصات مختلفة ومن ثم الفرز إما لجيش التحرير الفلسطيني وفق حاجته من الضباط المجندين أو البقاء في إطار القطعات العسكرية السورية لتأدية كامل الخدمة العسكرية.
 
نصيبي كان ومعي عدة عشرات من الشباب الفلسطينيين الجامعيين إلى كلية المشاة العسكرية في ريف حلب، فيما كان نصيب الآخرين من الشبان الجامعيين الفلسطينيين الفرز إلى كليات عسكرية مختلفة، منها كليات مدفعية الميدان والمدرعات والهندسة العسكرية والتسليح والدفاع الجوي والحرب الكيميائية والحرب الإلكترونية والإشارة وغيرها...
 
في كلية المشاة العسكرية، عِشت فيها طوال مدة الدورة العسكرية كطالب ضابط مجند، سنوات لذيذة من عمر الشباب الوطني العربي السوري والفلسطيني. فنحن في الكلية لم نكن سوى بضع عشرات من الشبان الفلسطينيين وسط بحر من شباب سوريا من كل مناطقها وطوائفها وعائلاتها وأبنائها، من ريفها ومدنها وحواضرها وبواديها، منهم من أتى من عائلة برجوازية عالية المستوى الطبقي، ومنهم من أثرياء القوم، ومنهم كحالنا من أبناء عموم الناس، ومنهم من قاع المجتمع.
 
في كلية المشاة العسكرية، لم أشعر، أنا وكل الشباب الفلسطينيين، على الإطلاق، أنني أو أننا كنّا كشبان فلسطينيين بين شبان ليسوا منّا أو نحن لسنا منهم، بل كنّا نشعر بأننا طينة واحدة، ونسيج واحد، ومشروع واحد، وهموم واحدة، وبلاد واحدة، ووطن واحد، ونعتز بإحساس وطني وقومي عروبي طاغ، تماهى الجميع تحت رايته بما فيهم إخواننا الأكراد المجندون مثلنا من أبناء الشعب السوري.
 
في كلية المشاة العسكرية، وكان تخصصنا قيادة فصائل مشاة ميكانيكية (مشاة بي إم بي)، مع تدريب قوات خاصة، تمرمغنا في تدريب قاسٍ، من فجر كل يوم وحتى الغياب الكامل للشمس وأحياناً ما بعد غياب الشمس في تدريبات القتال الليلي، لمدة تنوف على تسعة شهور متتالية، كانت ثقيلة علينا بالجهد المبذول، وبالدروس الصعبة في ظروف تم تَخليقها لتكون صعبة وقاسية جداً، كان نهارها يبدأ بتناول الفطور يليه درس الرياضة الصباحي في قاعات الرياضة أو في الساحات المخصصة مصحوباً بهدير قوي ومرعب وعلى موزونة موسيقية تبدأ بعبارة : زمجر زمجر بغضب وانتقم من أعداء بلادي ...
 
انتهت تلك الدورة، الباصمة والدامغة في عمري وحياتي، باحتفال رسمي وقد وضعنا على أكتافنا رتبة ملازم مجند، وبتنا نَحمل شهادة بكالوريوس في العلوم عسكرية ممهورة بخاتم وتوقيع الفريق القائد العام للقوات المسلحة، وقد باتت أجسادنا كالفولاذ من وطأة التدريب، ومن الدروس المختلفة في التكتيك الواسع، وتكتيك المشاة الميكانيكية المحمولة على عربات الـ (بي إم بي) الأحدث والأكثر تطوراً في عالم العتاد والسلاح، والانزال والرمي، والتمارين العملية على كل فنون القتال من الإغارة والكمائن وحرب الشوارع وحروب الجبال والاشتباك بالأيدي والسلاح الأبيض، والرياضة العسكرية والسباقات العسكرية بلباس الميدان وووو...إضافة لتدريبات الرمي شبه اليومي على عشرات الأنواع من الأسلحة بما فيها القنابل اليدوية المختلفة والقواذف الصاروخية وغيرها.
 
في كلية المشاة العسكرية، مدربنا الأول في دروس تكتيك المشاة من قرى مدينة جبلة في ريف اللاذقية، وقائد سرية التدريب من منطقة الحفة، وقائد مجموعتنا من حلب وهكذا في باقي المواد الدراسية لمختلف أقسام العلوم العسكرية. أما قائد الكلية فكان العسكري المحترف العميد الركن يونس كامل محسن، من منطقة مصياف، صاحب الطلة الصباحية كل يوم الممزوجة بالهيبة. فيما كان نائبه العسكري المحترف جداً جداً من مدينة القصير غربي مدينة حمص العميد الركن عبد الكريم الشروف ذا شأن كبير في مسار العمل والتدريب ومتابعة وقائع العملية التدريبية وتفاصيلها على الأرض.
 
أما نحن المتدربين من الطلاب الضباط، فكّنا من كل ألوان سوريا وحتى فلسطين. فنحن الفلسطينيين توزعنا من مدن حيفا وعكا ويافا وصفد وغور الحولة وطبريا، وإن كان أكثرنا من مدينة صفد وقضائها. وكنّا من عموم المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا وبأكثرية من مخيم اليرموك. كنت الوحيد فيهم ممن ينتمي إلى إحدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فيما كان الآخرون قد مروا بتجارب تنظيمية وسياسية لسنوات قليلة وكان قد غادروا تنظيماتهم السياسية والفصائلية الفلسطينية.
 
عشنا أياماً جميلة، كانت فيها سوريا التي نُحبها ونعشقها كوطن لنا كما هي فلسطين وطننا الأم، تتجسد كل لحظة، بالمحبة والتأخي بين الجميع، حيث الحياة اليومية بكل تفاصيلها من الطعام إلى العلاقات الاجتماعية إلى النوم في مهجع واحد يتسع لأعداد جيدة منّا، فهذا مهندس من حمص، وذاك مدرس من السويداء، والآخر من حلب، ومن دمشق ومن اللاذقية... فلم يكن مكان من سوريا إلا وهناك واحد فينا ينتمي إليه. منهم من أصبح وزيراً بعد حين ومنهم أصبح دبلوماسياً، منهم البعثي وهم الغالبية، ومنهم من أحزاب الجبهة الوطنية كالشيوعيين والناصريين والقوميين السوريين، ومنهم المعارض كحال العديد من الأصدقاء، كصديقنا (علي رحمون) العضو في حزب العمال الشيوعي السوري، وعضو هيئة التنسيق الوطني المعارضة، ومن موقعي وثيقة روما الشهر الماضي وهي الوثيقة الأنضج على كل المستويات والمقاييس من بين وثائق المعارضة االسورية.
 
في كلية المشاة العسكرية في حلب الشهباء، وجدت نفسي، ووجدت فلسطين في عيون هؤلاء الشبان الجامعيين من أبناء سوريا وفلسطين، ففلسطين لم تكن لتغيب عن واحد منهم، بل كانت على الدوام حاضرة في الحوار والحديث وفي دروس التوجيه السياسي الأسبوعية التي كانت تُقدم لنا والمُتضمَنة في البرنامج التدريبي، وهي دروس ومحاضرات اصطبغت بطابعها السياسي والفكري ذي اللون الواحد، لذلك ترافقت في آحايين كثيرة مع جدالات تحت سقوف معينة.
 
أما البرنامج التعبوي فقد انقسم لجزءين، منه حضور سينما الكلية التي كانت تعرض أسبوعياً أفلاماً وطنية كان منها على سبيل المثال سلسلة من الأفلام الوطنية التي أنتجها التليفزيون العربي السوري ومؤسسة السينما الفلسطينية. ومنه حضور فعاليات فرقة المسرح العسكري التي كانت تأتي مرة واحدة كل شهر وفي جعبتها أعمال وطنية، تبدأها بأغنيات وطنية كانت منها على سبيل: يا سوريا عزك دام .. يا أحلى صورة رسام. ونشيد موطني، وأغنية عبد الحليم حافظ خلي السلاح صاحي صاحي، وأنشودة أم كلثوم الوطنية الرائعة التي كتب كلماتها شاعر مدينة الياسمين نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية).
 
تجربتي في كلية المشاة العسكرية في حلب، تجربة ناصعة، فهي الى جانب تجربتي في العمل الطلابي أيام الدراسة في كلية العلوم بجامعة دمشق، تجربة احتكاك يومي معاش ومباشر مع موزاييك الشباب السوري والمجتمع السوري ككل، فقد ساعدت في صقل وتطوير خبرتي وكفاءتي السياسية، وتركت بصماتها الصارخة في الروح والوجدان والقلب، وأنعشت شعوراً وطنياً ووحدوياً عارماً، عنوانه أن بلادنا واحدة في نهاية المطاف، ومصير سوريا يهمنا كفلسطينيين، من أجل رأب هذا الصدع الموجود الآن في سياق أزمتها الداخلية، وتحقيق أماني ومطالب شعبها، وقبل كل شيء في المحافظة عليها كوطن وكشعب واحد موحد، والحفاظ على مؤسساتها وقدراتها وثرواتها والحفاظ على استقرار شعبها.
 
إن سوريا، تهمنا، كوطننا فلسطين، فالحفاظ عليها، واجب أكيد كالحفاظ على بؤبؤ العين. ووقف نزيف الدم على أرضها، مهمة لاتعلو فوقها مهمة في هذه الظروف الحرجة من عمر المنطقة ككل ومن عمر سوريا خاصة.
 
لندعو ولنعمل من أجل خلاص سوريا، وخروجها من المحنة، ولنرفع الصوت من أجل الحفاظ عليها، وعلى قدراتها وإمكانياتها، ومنع تدميرها، وتلبية المطالب المحقة للناس. إنها سوريا التاريخ والسيرة والمسيرة.
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي بدوان
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/09/30



كتابة تعليق لموضوع : في كلية المشاة العسكرية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net