صفحة الكاتب : الشيخ محمد رضا الساعدي

مفهوم الإيثار في المنظومة الخلقية: (أبو الفضل العباس نموذجاً)
الشيخ محمد رضا الساعدي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مُقَدمَة:         
من المفاهيم الأخلاقية التي لها الاثر الأكبر في مسار الإنسان الأخلاقي وسيره إلى الله تعالى والتي تنمُّ عن تربية روحية عالية هو التحلي بصفة الإيثار في التعامل العام مع البشرية بل مع المخلوقات ككل.
إنَّ هذه الصفة العظيمة تكشف عن ملكات أخلاقية كامنة في ذات الإنسان أهَّلته أن يكون مقدماً غيره على نفسه, ومتخيراً ما هو أصعب وأحزم كي يأخذ غيره ما هو أسهل وألين, ومتخذاً ذلك وسيلة للتقرب إلى الله تعالى, فهو من نفسه في تعب والناس منه في راحة.
وهذه الصفة الحميدة نابعة من مجموعة فضائل ولاغية لمجموعة رذائل, فهي نابعة من فضيلة الشجاعة والتواضع والعفاف والسخاء والأُلفة والمحبة وغيرها, ولاغية لرذيلة الجبن والتكبر والشهوة والبخل والانفراد والبغض وغيرها.
فلو لم يكن المُؤْثِر شجاعاً لما آثر غيره عليه, ولو لم يكن متواضعاً لما قدَّم غيره على نفسه, ولو لم يكن سخياً لما فضَّل غيره عليه وهكذا باقي الصفات.
وعلماء النفس الاجتماعي يرون أن هذه الصفة من أعظم صفات الإنسان فهي سلوك اجتماعي إيجابي يهدف إلى رعاية الآخرين ورفاهيتهم بلا ملاحظة منفعة شخصية.
وفي هذا البحث نقف إجمالاً على مفهوم الإيثار في النظام الأخلاقي لغة وكتاباً وسنة وما هي آثاره ومعطياته, ونطبق ذلك على ما قام به سيدنا العباسQ من إيثار في واقعة الطف حيث مارسه في أحنك الظروف وأشدها وأضراها , بعد أن سدَّ العدو جميع الطرق على الإمام الحسين وآله وأصحابهK وبلغت القلوب الحناجر, فبرز الموقف الحقيقي والمعدن الأصيل والعنصر الطاهر الذي كان عليه العباس بن عليL, فآثر بنفسه وفداها ــ والجود بالنفس أعظم غاية الجود ــ فاستحق بذلك صفة أبي الفضل, وجاد بالجود ولم يشرب الماء ــ مع شدة عطشه ــ حتى كان رمزاً للجود. 

عرض البحث: 
يقع الكلام في أربعة مباحث:
المبحث الأول: الإيثار في اللغة: 
قبل الدخول في صلب البحث لابدَّ أن نستعرض بعض كلمات اللغويين لنقف على الحقيقية اللغوية لهذا المصطلح ومن ثم نبين معناه الشرعي من خلال القيود التي تبينها الآيات والروايات:
1 ـ الصحاح - تاج اللغة وصحاح العربية للجوهری( ): (وآثَرْت فلاناً على نفسى، من الإيثار).
2 ـ مفردات ألفاظ القرآن( ): (والإيثار للتفضل ومنه:آثرته، وقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ)( ) وقال: (تَاللّٰهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّٰهُ عَلَيْنٰا)( ) ( وبَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا)( ).
3 ـ لسان العرب( ): (وآثَرْتُ فلاناً على نفسي: من الإيثار. الأَصمعي: آثَرْتُك إيثاراً أَي فَضَّلْتُك).
4ـ التحقيق في كلمات القرآن الكريم( ): (...وأمّا حقيقة الإيثار: فهي إثبات الأثر وتقديم ما له الفضل وانتخابه واختياره على غيره).
المستفاد من كلماتهم هو التالي:
أوَّلاً: إنَّ الإيثار يأتي بمعنى التفضيل, أي تفضيل شي على شي أو شخص على شخص.
ثانياً: إنَّه يأتي بمعنى الاختيار بنحو التعيين من بين عدة خيارات وهو يرجع إلى تفضيل المختار على غيره.
ثالثاً: إنَّ هذا الاختيار والتفضيل الحاصل من الإيثار هو أن يقدِّم الشخص شخصاً على آخر على نفسه أي يفضل الآخر على نفسه مراعاة لمصلحة ذلك الشخص أو التسهيل عليه.
رابعاً: إنَّ الإيثار قد يكون من شخص ثالث بأنْ يختار فلاناً على فلان ويقدِّمه ويفضله كما هو ظاهر الآية في اختيار يوسف النبيQ على أخوته وتفضيله من قبل الله تعالى عليهم (لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا) (يوسف: 91).
ويَتَحصَّل من ذلك: 
إنَّ الإيثار: (هو تقديم مصلحة الطرف الآخر وتفضيله على النفس مراعاة له وتقديمه بمادة (مال مثلاً) أو منفعة أو حق من الحقوق, وهذا المعنى هو المراد به هنا).
وقد يقيد ذلك التعریف بالتقديم والتفضيل للآخر على النفس مع الحاجة الماسة والحاجة الملحة وهذا هو ظاهر بعض الروايات الآتية وظاهر بعض آخر أنَّك لا تكون مؤثراً حتى تقاسمه نصف ما تملك وتعطيه من نصفك أيضاً.
كما يأتي بمعنى اختيار أحد الأطراف لأنَّه أصلح وأنفع كما في اختيار الله تعالى لبعض دون آخر وتفضيلهم على الاخرين أو اختيارنا لفلان دون فلان, وليس هذا المعنى محل كلامنا.
*****

المبحث الثاني:
الإيثار في القرآن والسنة: 
أوَّلاً: الآيات الكريمة منها:
إنَّ الآيات أشارت إلى الإيثار مرة بلفظه ومرة بمعناه:
قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ‏ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ‏ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)( ). 
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ‏)( ).
وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)( ). 
وقوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)( ). 
وهذه الآيات تبين أنَّ الإيثار له صورة عديدة فقد يكون بالمال (المادة) أو الدعاء أو النفس, فيكون الإيثار في القرآن أوسع دائرة من الإيثار اللغوي أي بما يشمل الأمور المعنوية كالدعاء للآخرين دون النفس أو تقديم الآخرين بالدعاء لهم قبل الدعاء لنفس الشخص.
وتتضح الآيات أكثر من خلال بعض الروايات الآتية المفسرة لها.
ثانياً:
الإيثار في السُنَّة:
الروايات الواردة في الإيثار كثيرة نذكر بعضها مع تعليق مختصر عليها:
الرواية الأولى: ما رواه مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ( ) بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَمِيلٍ فِي حَدِيثٍ‏ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِQ مَنْ غُرَرُ أَصْحَابِي قَالَ هُمُ الْبَارُّونَ بِالْإِخْوَانِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ثُمَّ قَالَ يَا جَمِيلُ أَمَا إِنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ يَهُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَ الْقَلِيلِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ‏ وَيُؤْثِرُونَ‏ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ‏ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏( ). 
بيان الرواية: 
الرواية الشريفة تبين أنَّ البر بالأخ صورة من صور الإيثار وأنَّ هذا الإيثار يعظم ويكبر إذا كان المُؤْثِر مقلاً وليس بمكثر تطبيقاً للآية الشريفة للإيثار.
الرواية الثانية: عن أَنَسِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِK فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّN لِعَلِيٍّQ قَالَ: (يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ وَإِنْصَافُكَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ الْعِلْمِ لِلْمُتَعَلِّمِ)( ).
بيان الرواية:
هذه الرواية تجعل الانفاق عن حاجة (وهو الإيثار) من الصفات الكاشفة عن حقيقة الايمان والتدين, فالمؤثر غيره على نفسه في الانفاق قد كسب صفة الايمان حقيقة.
الرواية الثالثة: موثقة عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: (سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِQ عَنِ الرَّجُلِ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا قُوتُ يَوْمِهِ أَ يَعْطِفُ مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْ‏ءٌ وَيَعْطِفُ مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ شَهْرٍ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَالسَّنَةُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ أَمْ ذَلِكَ كُلُّهُ الْكَفَافُ الَّذِي لَا يُلَامُ عَلَيْهِ فَقَالَ هُوَ أَمْرَانِ أَفْضَلُكُمْ فِيهِ أَحْرَصُكُمْ عَلَى الرَّغْبَةِ وَ الْأَثَرَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏ وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَة( ) ــ وَالْأَمْرُ الْآخَرُ لَا يُلَامُ عَلَى الْكَفَافِ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)( ).
بيان الرواية:
الرواية تخير بين الإيثار مع الحاجة أو الكفاف ولكن تعطي ميزة وفضل للذي يحرص على الإيثار وتقديم غيره على النفس تطبيقاً للآية الشريفة وتقديما لفضل اليد العليا التي تنفق على اليد السفلى. 
الرواية الرابعة: عن عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ السَّائِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَىQ قَالَ: (قُلْتُ لَهُ أَوْصِنِي فَقَالَ آمُرُكَ بِتَقْوَى اللَّهِ ثُمَّ سَكَتَ فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ قِلَّةَ ذَاتِ يَدِي وَقُلْتُ وَاللَّهِ لَقَدْ عَرِيتُ حَتَّى بَلَغَ مِنْ عُرْيِي أَنَّ أَبَا فُلَانٍ نَزَعَ ثَوْبَيْنِ كَانَا عَلَيْهِ فَكَسَانِيهِمَا فَقَالَ صُمْ وَتَصَدَّقْ فَقُلْتُ أَتَصَدَّقُ مِمَّا وَصَلَنِي بِهِ إِخْوَانِي وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قَالَ تَصَدَّقْ بِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ وَلَوْ آثَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ)( ).
بيان الرواية:
في هذه الوصية أُمر بالإيثار ولو بلغ الأمر بأن تبقى بثوب واحد حتى لو كان ذلك الثوب قد تصدق به عليك غيرك, وهذا التصدق من باب إيثار غيرك على نفسك.
الرواية الخامسة: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَحَدِهِمَاL‏ قَالَ: (قُلْتُ لَهُ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ جُهْدُ الْمُقِلِّ أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏ (وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)( ) ــ تَرَى هَاهُنَا فَضْلًا)( ). 
بيان الرواية:
إنَّ جهد المقل ــ كما في النهاية وغیرها أي قدر ما يحتمله حال القليل المال ــ وهو افضل الصدقة ولعل علة افضليته لأنه انفاق بإيثار بل هو الإيثار المالي بعينه.
الرواية السادسة: عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللهQ، قلت: (أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟ فقال: «يا أبان، دعه لا ترده». قلت: بلى جعلت فداك، فلم أزل اردد عليه، فقال: «يا أبان، تقاسمه شطر مالك» ثم نظر إلي فرأى ما دخلني، فقال: «يا أبان، ألم تعلم أن الله عز و جل قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟» قلت: بلى جعلت فداك فقال: «إذا قاسمته، فلم تؤثره بعد، إنما أنت و هو سواء، إنما إذا أعطيته من النصف الآخر)( ). 

بيان الرواية:
وهذا الرواية تضيف مقياسا للإيثار لم تشر اليه الآيات والروایات ولا اللغة وهو أنَّ الإيثار لا يصدق إلَّا بأن تعطي نصف ما عندك وزيادة, فلو كنت تملك الف دينار واعطيت نصفه فقط فانك منفق وليست مؤثراً حتى تعطي نصفك او بعض نصفك فتکون مؤثراً.
الرواية السابعة: الشيخ في (أماليه) باسناده حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: (جاء رجل إلى النبيN فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللهN إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء. فقال رسول اللهN: «من لهذا الرجل الليلة»؟ فقال علي بن أبي طالبQ: «أنا له يا رسول الله، فأتى فاطمةP فقال لها: «ما عندك يا ابنة رسول الله؟» فقالت: «ما عندنا إلا قوت الصبية، لكنا نؤثر ضيفنا». فقال عليQ: «يا ابنة محمد، نومي الصبية، و أطفئي المصباح» فلما أصبح عليQ غدا على رسول اللهN، فأخبره الخبر، فلم يبرح حتى أنزل الله عزَّ وجلَّ: «وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏»)( ). 
بيان الرواية:
هذه الرواية تبين الحال التی کان یعیشها النبي الاعظمN من الفقر المدقع مواساة للأمة في فقرها وتقديراً لنفسه بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره, وتبين سبب نزول آية الإيثار وانها نزلت في علي وآل عليK بعد أن آثروا غيرهم بكل ما يملكون من طعام وأناموا صبيتهم جياعاً لكي تشبع بطون الفقراء, وهنا نقول لأنفسنا أين نحن من علي وآل عليK؟
الروایة الثامنة: عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفرQ، قال: (أوتي رسول اللهN بمال وحلل، وأصحابه حوله جلوس، فقسمه عليهم حتى لم يبق منه حلة ولا دينار، فلما فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين وكان غائباً، فلما رآه رسول اللهN قال: أيكم يعطي هذا نصيبه ويؤثره على نفسه؟ فسمعه عليQ فقال: نصيبي. فأعطاه إياه، فأخذه رسول اللهN فأعطاه الرجل، ثم قال: يا علي، إن الله جعلك سباقاً للخير( )، سخاء بنفسك عن المال، أنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، والظلمة هم الذين يحسدونك ويبغون عليك ويمنعونك حقك بعدي)( ). 
بيان الرواية:
وهذه الرواية تبين أيضاً ما يتميز به أمير المؤمنين عن كل الباقين من إيثاره غيره على نفسه, وفيها بيان لعظيم منزلته التي خصه الله بها من بين الباقين.
الرواية التاسعة: عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفرQ، قال: (إن رسول اللهN كان جالسا ذات يوم وأصحابه جلوس حوله، فجاء عليQ وعليه سمل ثوب متخرق عن بعض جسده، فجلس قريباً من رسول اللهN، فنظر إليه ساعة ثم قرأ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)‏. ثم قال رسول اللهN لعليQ: أما إنك رأس الذين نزلت فيهم هذه الآية وسيدهم وإمامهم. ثم قال رسول اللهN لعليQ: أين حلتك التي كسوتكها يا علي؟ فقال: يا رسول الله، إن بعض أصحابك أتاني يشتكي عريه وعري أهل بيته، فرحمته وآثرته بها على نفسي، وعرفت أن الله سيكسوني خيراً منها، فقال رسول اللهN: صدقت أما إن جبرئيل قد أتاني يحدثني أن الله اتخذ لك مكانها في الجنة حلة خضراء من إستبرق، وصنفتها من ياقوت وزبرجد، فنعم الجواز جواز ربك بسخاوة نفسك وصبرك على‏ شملتك‏ هذه المنخرقة، فأبشر يا علي. فانصرف عليQ فرحاً مستبشراً بما أخبره به رسول اللهN)( ). 
بيان الرواية:
هذه الرواية تحكي إيثار عليQ في حوادث متكررة فكانت هذه الصفة من الصفات التي امتاز بها ـ وكل صفاته جميلة ـ وتسلط الضوء على ما للمؤثر من فضل عظيم وجزاء أُخروي جزيل جزاء بما اعطى وبذل.
الرواية العاشرة: قَالَتْ عَائِشَةُ: (مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِN ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةً حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا وَلَوْ شَاءَ لَشَبِعَ وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ)( ). 
بيان الرواية:
هذه الرواية تبين إيثار رسول اللهN بماله وطعامه وما يملك للفقراء بحيث أنَّ الإيثار اصبح سمة غالبة لكل حياته من اولها الى آخرها فلم تستهوه الدنيا بالرغم من أنَّه سيِّد الخلق, فكان كما عبَّر الأميرQ: (قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا... وَلَقَدْ كَانَN يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ)( ), وهذا مما جعل الرسول الاعظمN هو أعظم الخلق أجمع فلا يدانية نبي مرسل ولا ملك مقرب وهذا ما نطقت به الرواية الآتية:
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ‏ قَالَ مُوسَىQ: (يَا رَبِّ أَرِنِي دَرَجَاتِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذَلِكَ وَلَكِنْ أُرِيكَ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِهِ جَلِيلَةً عَظِيمَةً فَضَّلْتُهُ بِهَا عَلَيْكَ وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِي قَالَ فَكَشَفَ لَهُ عَنْ مَلَكُوتِ السَّمَاءِ فَنَظَرَ إِلَى مَنْزِلِهِ كَادَتْ تَتْلَفُ نَفْسُهُ مِنْ أَنْوَارِهَا وَقُرْبِهَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ يَا رَبِّ بِمَا ذَا بَلَّغْتَهُ إِلَى هَذِهِ الْكَرَامَةِ قَالَ بِخُلُقٍ اخْتَصَصْتُهُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَهُوَ الإيثار يَا مُوسَى لَا يَأْتِينِي أَحَدٌ مِنْهُمْ قَدْ عَمِلَ بِهِ وَقْتاً مِنْ عُمُرٍ إِلَّا اسْتَحْيَيْتُ مِنْ مُحَاسَبَتِهِ وَبَوَّأْتُهُ مِنْ جَنَّتِي حَيْثُ يَشَاءُ)( ).
لذا كان عليQ سيِّد الإيثار بعد النبيN فما تردد أن يوثر حتى بحياته لأجل الإسلام ونبي السلام, وهذا ما استفاض نقله عن الرواة والمورخين: (وَبَاتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍQ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِN فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِنِّي آخَيْتُ بَيْنَكُمَا وَجَعَلْتُ عُمُرَ الْوَاحِدِ مِنْكُمَا أَطْوَلَ مِنْ عُمُرِ الْآخَرِ فَأَيُّكُمَا يُؤْثِرُ صَاحِبَهُ بِالْحَيَاةِ فَاخْتَارَ كِلَاهُمَا الْحَيَاةَ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمَا أَ فَلَا كُنْتُمَا مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍQ آخَيْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍN فَبَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ يَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ فَيُؤْثِرُهُ بِالْحَيَاةِ اهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ فَاحْفَظَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ فَكَانَ جَبْرَئِيلُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَمِيكَائِيلُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَجَبْرَئِيلُ يُنَادِي بَخْ بَخْ مَنْ مِثْلُكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ يُبَاهِي اللَّهُ بِكَ الْمَلَائِكَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)( ).
فكان الإيثار السمة الأبرز عند آل البيتK وفي حياتهم عشرات بل مئات الحوادث التي آثروا بها الآخرين على أنفسهم, ولم يقتصر الإيثار على الدائرة الأولى (النبي والزهراء والائمة الاثني عشر) بل تعدى إلى أبنائهم وبناتهم, ولعل العباسQ أبرزهم إيثاراً وسنقف على صورة من إيثاره في مبحث لاحق.
*****
المبحث الثالث:
أثر الإيثار في منظومة الأخلاق:
إنَّ تكوين منظومة الأخلاق عند الفرد المؤمن تعد من أهم ما يقع على عاتقه, فالأخلاق مع العقيدة والفقه تشكل البنى الأساسية للفرد والتي بدونها لا يكون مومناً حقيقياً, فلابد من عقيدة حقة وسلوك مستقيم طبقا لمنظومة الفقه والأخلاق.
والإيثار يعد من أهم الفضائل التي تشكل منظومة الاخلاق والسلوكيات وتحفز للعلو بالدرجات ونيل المكرمات, وهذا ما بينته الروايات ,منها ما مر وما سيأتي.
ولعل أبرزها ما يلي:
الأوَّل: ان الإيثار من أعظم ما يرفع درجه الإنسان عند ربه وان أكثرنا إيثاراً أكثرنا درجة عند الله, لذا كان النبي الأعظمN وعليQ هم أعظم الخلق أجمعين لأنَّهم أشد الخلق إيثاراً كما اتضح من روايات سابقة, لذا ورد في الرواية عن أمير المومنينQ (الإيثار أَعْلَى الْمَكَارِمِ)( ) و(الإيثار أَشْرَفُ الْكَرَمِ)( )
الثاني: إنَّ الإيثار من أعلى درجات التعبُّد لله تعالى , لذا ورد في الرواية (الإيثار أَفْضَلُ عِبَادَةٍ وَ أَجَلُّ سِيَادَةٍ)( )
الثالث: إنَّ الإيثار كاشف عن درجة الايمان وأنَّ الإنسان الأشد إيثاراً أشد إيماناً, وهذا واضح في الروايات, منها: (الإيثار أَعْلَى الْإِيمَانِ‏)( ).
الرابع: إنَّ الإيثار من أهم أسباب المغفرة التي يطلبها الجميع, لذا ورد في الرواية: (أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غُفِرَ لَهُ‏).
الخامس: إنَّ المكارم لا تتم إلَّا بأسباب ومن أسبابها هو الإيثار, لذا ورد: (لَا يَكْمُلُ الْمَكَارِمُ إِلَّا بِالْعَفَافِ وَالإيثار)( ).
السادس: إنَّ الإيثار عمل تُنال به الجنة كما ورد في الروايات منها: ما في تفسير الصافي( ) قال: (وفي المجمع اشترى عليٌQ ثوباً فأعجبه‏ فتصدق به وقال سمعت رسول اللَّهN يقول من آثر على نفسه آثره اللَّه يوم القيامة بالجنة ومن أحب شيئاً فجعله للَّه قال اللَّه يوم القيامة قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافيك اليوم بالجنة)( ).
وفي الكافي( ) عن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍQ قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جَنَّةً لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ وَرَجُلٌ زَارَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي اللَّهِ وَرَجُلٌ آثَرَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي اللَّهِ).
السابع: لا یکون المؤمن متوکلاً بحق إلَّا بالایثار:
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَQ: (أَنَّهُ رَأَى يَوْماً جَمَاعَةً فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا نَحْنُ قَوْمٌ مُتَوَكِّلُونَ فَقَالَ مَا بَلَغَ بِكُمْ تَوَكُّلُكُمْ قَالُوا إِذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا وَإِذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا فَقَالَQ هَكَذَا يَفْعَلُ الْكِلَابُ عِنْدَنَا فَقَالُوا كَيْفَ نَفْعَلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ كَمَا نَفْعَلُهُ إِذَا فَقَدْنَا شَكَرْنَا وَإِذَا وَجَدْنَا آثَرْنَا)( ).
الثامن: من كان مؤثراً كان مودياً لحقوق المؤمنين:
في مستدرك الوسائل عن سِبْطُ الشَّيْخِ الطَّبْرِسِيِّ فِي مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ، عَنِ الصَّادِقِQ: (أَنَّهُ سُئِلَ مَا أَدْنَى حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ قَالَ أَنْ لَا يَسْتَأْثِرَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْهُ)( ). 
التاسع: إنَّ الإيثار من صفات الأبرار.
فی مستدرك الوسائل عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَQ أَنَّهُ قَالَ: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ التَّحَمُّلَ عَلَى الْأَبْرَارِ فِي كِتَابِ اللَّهِ قِيلَ وَمَا التَّحَمُّلُ قَالَ إِذَا كَانَ وَجْهُكَ آثَرَ مِنْ وَجْهِهِ الْتَمَسْتَ لَهُ وَقَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَقَالَ لَا تَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْكَ)( ). 
هذه بعض آثار الإيثار ولعل المتتبع يجد آثاراً أُخرى من خلال استقراء تام للنصوص.
*****
المبحث الرابع:
العباسQ مدرسة الإيثار في واقعة الطف:
من أبرز شخصيات واقعة الطف بعد الإمام الحسينQ هي شخصية أبي الفضل العباسQ بالرغم من وجود شخصيات فذة وكبيرة, فكان بحق وزير الحسين في مشروع كربلاء, وهذا التميز لم يكن نابعاً من كون العباس أخاً للحسين فقط بل لتميُّز العباس بصفات قل نظيرها جعلته بهذا التميز وهذه الصفات كما عبر بعض اساتذتنا: (اصطفائية وليس عصبة عشائرية بشرية عرقية عنصرية)( ).
فكان شجاعاً قوياً صلب الإرادة نافذ البصيرة, كما وصفه الإمام الصادقQ فقد روى أبو عمر البخاري عن المفضل بن عمر، أنَّه قال: قال الصادقQ: (كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب‏ الايمان‏ جاهد مع أبي عبد اللّه وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً)( ).
 ولكن يبقى هناك شيء كان له الأَثر الأوضح في هذا التميُّز, إلَّا وهي صفة الإيثار حيث آثر بنفسه وبشبابه وبأخوته وبعطشه, ففدى بنفسه نفس الحسينQ وبعطشه عطش الحسينQ... فكان مدرسة للإيثار تتعلم منه الأجيال دروساً وعبراً.
فإنَّ الإيثار له أصناف ودرجات فقد يؤثر الانسان بالدعاء والعبادة بأنْ يُقدِّم الدعاء للناس على الدعاء للنفس كما كان دَأبُ الزهراءP, أو يُؤثِر الآخرين بالمال كما ذكرنا ذلك في الروايات المتقدمة, ومنها الإيثار بالنفس كما فعل أبو الفضل العباسQ.
والإيثار بالنفس يعد من أعلى درجات الإيثار والجود كما عبر الشاعر:
يجود بالنفس إذ ظنَّ الجواد بها        والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ
فالعباسQ جاد عِدَّة مرات, جادَ على نفسه إذ لم يشرب الماء لأنَّه تذكَّر عطش الحسين كما سنذكر, وجادَ بنفسه عندما نزل للمعركة فداء للحسين.
وبالرغم من وجود من آثر بنفسه في كربلاء كما دلَّت كلماتهم وهذه جملة من كلماتهم:
أوَّلاً: كلمة أهل بيته والتي يقولون فيها: لِم نفعل لنبقى بعدَك لا أرانا الله ذلك أبداً.
ثانياً: كلمة بني عقيل والتي يقولون فيها: لا والله لا نفعل تفديك أنفُسُنا وأموالُنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك.
ثالثاً: كلمة مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها: أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربُهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولا اُفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتُهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.
رابعاً: كلمة سعد بن عبد الله الحنفي والتي يقول فيها: والله لو علمتُ أني اُقتلُ ثم أحيا ثم اُحرقُ حيَّاً ثم اُذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً ما فارقتُك حتى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلةٌ واحدةٌ ثم هيَ الكرامة لا انقضاء لها أبداً.
خامساً: كلمة زهير بن القين والتي يقول فيها: والله لوددت أني قُتلتُ ثم نُشرت ثم قُتلتُ حتى أُقتل كذا ألف قتلةٍ وأن الله يدفعُ بذلك القتل عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفتية من أهل بيتك .
سادساً: كلمة جماعة من أصحابه والتي يقولون فيها: والله لا نُفارقُك، ولكن أنفُسَنا لك الفداء تقيك نحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كُنا وفينا وقضينا ما علينا.
سابعاً: كلمة بشر الحضرمي والتي يقول فيها: أكلتني السباعُ حيّاً إن فارقتُك.
ثامناً: كلمة نافع بن هلال والتي يقول فيها: ثكلتني أمي، إن سيفي بألفٍ وفرسي مثلهُ، فو الله الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلا من فري وجري.
تاسعاً: كلمة القاسم بن الحسنQ لمَّا قال له الحسينQ يا بني كيف الموت عندك؟ قال: يا عم فيك أحلى من العسل.
وغيرها من كلماتهم.
ولكن يبقى العباس هو الاكثر إيثاراً من بينهم.
وإليك جُملة من الروايات الدّالة على عظيم إيثاره وتضحيته:
وقد نقلت الروايات هذا المعنى بألسن عديدة، نذكر منها: 
اللسان الأوَّل: ما ورد فيها كلمة إيثار ومواساة نصاً:
الرواية الأولى في الخصال: عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ( ) قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِQ‏: (رَحِمَ اللَّهُ الْعَبَّاسَ ــ يَعْنِي ابْنَ عَلِيٍّ ــ فَلَقَدْ آثَرَ وَأَبْلَى وَفَدَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى قُطِعَتْ‏ يَدَاهُ‏ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا جَعَلَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَإِنَّ لِلْعَبَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِهَا جَمِيعُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
هذه الرواية واضحة في عظيم إيثار العباسQ وهي صادرة من شاهد حاضر في واقعة الطف تحكي لنا قصة إيثار وفداء قام العباس بتسطير حروفها على رمضاء كربلاء كتب فيها فداءه للحسينQ بنفسه, فحصل بذلك على مرتبة يغبطه عليها كل الشهداء, وهذا النص يعطي منزلة للعباسQ لم تعط لكل الشهداء, وهذا واضح لأنَّ الإيثار الذي قدمه لم يقدمه غيره, وقد بيَّنا سابقاً أنَّ الإيثار كلما كان أكبر كانت المنزلة أعظم والمقام أعلى.
فقد وقى نفس الحسين بنفسه كما نقل عنه مرتجزاً:
نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا      
الرواية الثانية:
قال السيد ابن طاووس في الإقبال بالأعمال الحسنة: (فصل (14) فيما نذكره من زيارة الشهداء في يوم عاشوراء, رويناها بإسنادنا إلى جدّي أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسيG قال:حدثنا الشيخ أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن عياش، قال: حدثني الشيخ الصالح أبو منصور بن عبد المنعم بن النعمان البغداديG، قال: خرج من الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين على يد الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني حين وفاة أبيG، وكنت حديث السنّ، وكتبت استأذن في زيارة مولاي أبي عبد اللَّهQ وزيارة الشهداء (رضوان اللَّه عليهم)، فخرج اليّ منه( ): (...السَّلامُ عَلى‏ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُواسِي‏ أَخاهُ‏ بِنَفْسِهِ، الآخِذُ لِغَدِهِ مِنْ أَمْسِهِ، الْفادِي لَهُ، الْواقِي السّاعِي إِلَيْهِ بِمائِهِ، الْمَقْطُوعَةِ يَداهُ، لَعَنَ اللَّهُ قاتِلِيهِ(‏ ) يَزِيدَ بْنَ الرُّقادِ الْحَيْتِي(‏ ) وَحَكِيمَ بْنَ الطُّفَيْلِ الطَّائِي...)( ).
فالزيارة المهدوية لعمه العباس تبين مقدار ما آثر به في واقعة الطف حيث قدم نفسه فداء للحسينQ ولم يشرب الماء مع مكنته منه سعياً لأنْ يشرب الحسين وآل الحسينK قبله رغم عظيم عطشه.
وقد نُسبَ لأبي الفضل العباسQ شعراً بذلك.
 ففي شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهارK( ): (فهزم القوم ودخل المشرعة وأراد أن يشرب الماء، فذكر عطش الحسينQ فصبّ الماء من يده، ولم يشرب، وملأ القربة وخرج منها قائلاً:
يا نفس‏ من‏ بعد الحسين هوني‏
        من بعده لا كنت أن تكوني‏

هذا حسين شارب المنون‏
        و تشربين بارد المعين‏

هيهات ما هذا فعال ديني‏
        و لا فعال صادق اليقين‏

اللسان الثاني: ما ورد من تعابير دالة على الإيثار في الزيارة الواردة في حقه:
فقد وردت مجموعة عبائر في زيارته تشير أو تشعر بالفداء العظيم والإيثار الواضح لأخيه الحسينQ, منها:
العبارة الاولى: إيثار طاعة الله ورسوله وآله وخصوص الحسين على طاعة نفسه وهواها:
ففي كتاب المزار ــ (للمفيد)( ): (وَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ).
العبارة الثانية: إيثار الجهاد على الراحة، والمناصحة على الخيانه, من خلال ابراز عنصر الولاء لآل الله والبراءة من أعداء الله.
ففي كتاب المزار: (أُشْهِدُ اللَّهَ أَنَّكَ مَضَيْتَ عَلَى مَا مَضَى بِهِ الْبَدْرِيُّونَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمُنَاصِحُونَ لَهُ فِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ الْمُبَالِغُونَ فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ الذَّابُّونَ عَنْ أَحِبَّائِهِ)( ).
العبارة الثالث: المبالغة في النصيحة واعطاء غاية المجهود وترك الراحة والدعة إيثاراً منه لأخيه الحسين ونصيحة لله عزَّ وجلَّ ورسولهN, وهذه النصرة والمبالغة في النصيحة لم تكن في امر يسير بل في اعظم مشروع ديني يحفظ الاسلام حتى ظهور القائم¨, فهوQ لم يبذل المجهود بل أعطى غاية المجهود.
ففي كتاب المزار: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَالَغْتَ‏ فِي النَّصِيحَةِ وَأَعْطَيْتَ غَايَةَ الْمَجْهُود.. أَشْهَدُ لَقَدْ نَصَحْتَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَخِيكَ فَنِعْمَ الْأَخُ الْمُوَاسِي‏)( ). 
العبارة الرابعة: إيثار الدفاع عن الأخ والتضحية بالنفس لأجل بقائه وإيثار نصرته والدفاع عنه في أحنك الظروف ولو كلف ذلك الحياة.
ففي كتاب المزار: (فَنِعْمَ الصَّابِرُ الْمُجَاهِدُ الْمُحَامِي النَّاصِرُ وَالْأَخُ الدَّافِعُ عَنْ أَخِيه)( ).
تتمة: 
إيثار العباس في بعض الأشعار:
قد كتبت في سيدنا العباسQ آلاف الأبيات من الأشعار قديماً وحديثاً وثَقَت بطولاته وتضحياته ومن هذه الأشعار ما وثقت إيثاره الذي هو محل كلامنا, نذكر منها نماذج:
النموذج الأوَّل:
ما جاء في شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهارK( ):
إني لأذكر العباس موقفه   بكربلاء وهام القوم تختلف
يحمي الحسين ويسقيه على ظما   ولا يولي ولا يثني ولا يقف
        
        
النموذج الثاني:
وقال شاعر آخر( ):
بذلت يا عباس نفسا نفيسة
        بنصر حسين عزّ بالنصر من قبل‏

أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه‏
        فحسن فعال المرء فرع من الاصل

فأنت أخو السبطين في يوم مفخر
        و في يوم بذل الماء أنت أبو الفضل

النموذج الثالث:
وقال شاعر ثالث( ): 
أحق الناس أن يبكى عليه‏
        إذا ابكى الحسين بكربلاء

أخوه و ابن والده علي‏
        أبو الفضل المضرّج بالدماء

و من واساه لا يثنيه شي‏ء
        و جاء له على عطش بماء

النموذج الرابع:
حتّى حوى بحرها الطامي فراتهم
فكفّ كفّاً من الورد المباح وفي
وهل ترى صادقاً دعوى إخوته
حتّى ملا مطمئنّ الجاش قربته
        والجاري ببحر من الهنديّ ملتطم
أحشائه ضرم ناهيك من ضرم
روى حشاً وأخوه في الهجير ظمي
ثم أنثنى مستهلاً قاصد الحرم

إلى غيرها من مئات القصائد وآلاف الأبيات.
****

والنتيجة:
إنَّ الإيثار صفة سامية وخصلة حميدة تدلُّ على علوِّ مقام صاحبها وارتفاع منزلته وتكشف عن وجود ملكات أخلاقية أهَّلته أنْ يحصل على هذه الصفة فلا يرى لماله أو منافعه أو نفسه قيمة إذا ما جازَ له أن يؤثِر الآخرين بها ويقدمهم على مصالحه ونفسه.
وقد مثَّل ذلك كله سيدنا العباسQ ــ في واقعة الطف ــ عندما جادَ بكل ما يملك دفاعاً عن أخيه الحسينQ عن عقل وبصيرة ودين وكان بحق الشخصية الثانية بعد إمامه الحسينQ في واقعة الطف, فكان حامل اللواء والمواسي للعيال والنساء والمفدي روحه لسيِّد الشهداءQ, فسلامٌ عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.


 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد رضا الساعدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/09/17



كتابة تعليق لموضوع : مفهوم الإيثار في المنظومة الخلقية: (أبو الفضل العباس نموذجاً)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net