صفحة الكاتب : د . علي عبد المحسن البغدادي

صناعة الأفكار – إعادة بناء الماضي "1"
د . علي عبد المحسن البغدادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

منذ وصل الإنسان إلى مرحلة الوعي والتي حولته من البدائية إلى المدنية,واصبح بشرا عاقلا مؤهلا لقيادة الحياة على الأرض,بدأت عملية صناعة الأفكار كجزء من متطلبات الحياة اليومية,لبناء الحضارة والمدنية بفرعيها التقني والفكري,ومن سنة الحياة على هذه الأرض,ان لكل بداية نهاية,وبالتالي فكل ما يصنعه الإنسان له بداية كصيرورة وله نهاية وأفول,كتعاقب الليل والنهار عليها وعلينا,فبداية الحضارات تتسم عادة بالعنفوان والزهو والانتصارات,بينما يكون أفولها مصحوبا بالهزائم والانهيارات,وعلى أي حال لا يعيب الحضارة أن تأفل ولا يضرها ذلك,فسوف يبقى ما صنعته وقدمته تراثا تستفيد من البشرية في سيرورتها بل وصيرورتها أيضا وهذه من سنن الحياة على هذا الكوكب,وهذا كله أمر طبيعي ومضطرد في حركة البشرية,لكن الملفت للنظر هو إعادة صناعة الأفكار التراثية وفق صيغة جديدة,كإعادة لبناء الماضي وتطويره,ربما يعترض بعض الباحثين عن هذه المقدمة وما سوف أقوله لاحقا,باعتبار أن الافكار لا يعاد تصنيعها وإنما تنتج بصورة مستمرة,وفق حركة السيرورة والصيرورة للبشرية,ولكني أرى غير ذلك تماما,فالشيوعية الماركسية هي تطوير لشيوعية أفلاطون الحكيم,والديمقراطية المعاصرة هي إعادة أنتاج لديمقراطية اليونان,وحتى الوجودية والبرغماتية وغيرها من الأفكار والنظريات,هي نتاج حقبة زمنية معينة مضت وأصبحت من التراث المعرفي للبشرية,وربما باطلاع بسيط على جذور هذه المصطلحات والفلسفات سوف تقودك إلى أصولها اليونانية أو اللاتينية,فأغلب العلوم والفنون الموجودة الآن والتي هي من نتاج عصر النهضة الغربية ومابعدها,أخذت أسمائها وسماتها من المصطلحات اليونانية واللاتينية الموغلة في القدم,كالسيكولوجي والانطولوجي والابستمولوجي والاكسيولوجي والجيلوجي والانثروبولوجي.ألخ..فهي كلها عناوين لمصطلحات وعلوم تأسست في الحضارة الأغريقية الغربية القديمة,وهنا نثير السؤال المهم,هل الحضارة الغربية بنسختها الحديثة والمعاصرة هي صورة عن تلك الحضارة الأغريقية القديمة؟,من الممكن أن أقدم جوابا وأنا مطمئن لصحته,نعم هي صورة مطورة عن تلك الحضارة القديمة,ولكنها اعيدت وفق منهجية إعادة بناء الماضي وتطويره,والذي يستند في أدواته ومحدداته إلى تطوير الأفكار بما يتناسب مع متطلبات العصر,فهي ليست مبتكرة بل التطوير هو المبتكر,وهذا أمر خطير سوف نشير له لاحقا,وبهذا فهو موضوع ملفت للنظر,فالحضارة الغربية المعاصرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية,أصبحت تعتقد بأن هذه الحضارة هي من صناعتها!؟ بينما التحقق التاريخي يشير إلى العكس تماما,وربما قدمت بعض نماذجه سلفا,بل أصبحت تقدس هذه الحضارة وتؤمن إيمانا راسخا بحقانيتها وفردانيتها,وأنها سوف تصنع نهاية التاريخ البشري,والذي تفترض أنها وصلت لنهايته بوصولها إلى نموذج الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية,وأنها بهذا اعادت انتاج الإنسان الأخير,وهو الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي,بحسب وصف فيلسوفها الأشهر فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ,وربما لا أستغرب هنا عبارة سيغموند فرويد عندما تحدث عن إعادة بناء الماضي,بوصفه( يخلق بنا هنا ان نلفت النظر إلى كل عنصر منبثق من الماضي يفرض نفسه بقوة فائقة, ويمارس على الجموع تاثيرا هائلا,ويصبح بلا منازع وعلى نحو لا يقاوم موضوع ايمان, ايمان لا يستطيع حياله اي اعتراض منطقي شيئا على طريقة ,أنني اؤمن بذلك لانه غير معقول).سيغموند فرويد,موسى والتوحيد,ص118,هذا الإيمان ينبع من الذوات التي أعتقدت أن صناعة الأفكار البكر وإعادة صناعتها وفق نموذج إعادة بناء الماضي هي واحدة لا تمايز بينها,بمحددات عديدة كلها زمكانية,فالزمان يعود وفق نظرية التاريخ يعيد نفسه(وهي جدلية في الواقع فأنا أميل إلى أن التاريخ لا يعيد نفسه فإعادة المعدوم محال) والمكان واحد هو الغرب,وربما يؤمنون بان الفرق الوحيد هو تطور الادوات التقنية بحسب الاشياء التي يحتاجها  البشر ضمن رحلتهم الطويلة,والأعجب من كل هذا هو ليس الأفكار!,بل إعادة بناء الماضي ليتناسب مع واقع يدعي بُناته أنه تطور كبير لا يمكن الرجوع به إلى الماضي السحيق؟!,وربما يعترض الإسلاميون هنا ولا سيما اولئك الذين لبسوا ثوب التجديد,بأن الحديث هنا لا يشملهم,كونهم ينطلقون من ثوابت غير قابلة للتغير,ولكن الحقيقة أن الفكر والافكار واحدة,فكلها مصدرها بشري معرض للخطأ والصواب,وهنا هم أيضا ابتلوا بما أبتلى به غيرهم,من عدم التمييز بين الافكار البكر وبين إعادة بناء الأفكار بعدما اصبحت من الماضي,فهم (أي الإسلاميون) يعتقدون ببكرية افكارهم وأنها متجددة,وربما يكمن الفارق بينهم وبين الآخرين,انهم ينطلقون من نصوص يعتقدون بثباتها,بينما الآخرون ينطلقون من بُنات أفكارهم,ولكن هذا وهم واضح,فالإسلاميون يقراءون النص ويجتهدون فيه وفق أدوات هم طوروها أيضا عن الحضارات السابقة,فالمنطق والفلسفة والرياضيات والكيمياء,ألخ,هي نتاج الأخرين ونحن طورناه,وهم بهذا يستخدمون نفس الأدوات التي يستخدمها غيرهم,نعم هم ابتكروا علوما جديدة كاصول الفقه والفقه وعلم الكلام,وأن كانت أدواتها من خارج المنظومة المعرفية للإسلام بوصفه دينا,وربما الفارق الوحيد هو ماذكرناه فقط,وبما أن الحديث جرنا إلى هنا,فافترض أن إعادة بناء الأفكار بطريقة بناء الماضي,أصبح السمة الشاملة والعامة للفكر البشري الحالي,وهو أمر ينذر بخطر كبير جدا,إذا عقم العقل عن الانتاج يؤدي إلى الموت المبكر للمجتمعات,ويسرع في عملية أنقراضها وزوالها,وفي احسن الأحوال تتحول البشرية إلى حيوانات غير ذات إدارك وترجع إلى أصلها الأول قبل العقل والإدراك.ولنا تكملة وعودة......


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي عبد المحسن البغدادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/02/21



كتابة تعليق لموضوع : صناعة الأفكار – إعادة بناء الماضي "1"
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net