صفحة الكاتب : مرتضى شرف الدين

عاشوراء : وأولوية الإحياء
مرتضى شرف الدين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ها قد شارفَ العام الهجري الحادي والأربعين من القرن الخامس عشر على الانصِرام، ليطلَّ تاليه بطلائع الحزن الممدود بين السماء والأرض، لذكرى الفاجعة التي جلَّلت مصيبتُها عالمَ الوجود بالحِداد.
أطلَّت هذا العام مع اختبار جديدٍ للموالين، هو فريدٌ بين الأعوام الأخيرة، وإن لم يُعدَم النظير في تاريخ هذا المذهب المتجدد على بحرٍ من التضحيات.
وقف الموالون في أنحاء العالم متحيّرين بين شبح الوباء المخيّم على العالَم، وما يترتّب عليه من وقايةٍ تتنافى مع التَّجَمْهُر والتَّجَمُّع والاختلاط.
وبين جذوة الولاء الحسينيّ المتّقِد الذي ضمِنَ لهذه الأمّة استمرارَ مسارِها على القِيَم النبويّة الصافية جيلاً بعد جيل .
ولم تَطُل الحيرة في معظم الأرجاء، فقد جاءت التوجيهات من القيّمين على الأمور في العالم الإسلامي _ولا سيما المرجعية الرشيدة_ لتوضح أن لا تنافي بين حفظ الصحة البدنيّة باتِّباع تدابير الوقاية الصحية، والصحة الروحية باستمرار الإحياء المتفاعل لهذه الذكرى الخالدة.
فأُعِدَّت العدَّة لإقامة المآتم في العراق وإيران وسائر الدول المتشرِّفة بولاء العترة الطاهرة، مراعيةً للتدابير الصحية من تباعد، واستعمال لسبل الوقاية والتعقيم، وجدَّد الموالون عهدهم لإمامهم مثبتين أن لا حائلَ يَحولُ بينهم وبين شرف هذه الخدمة، وأنَّ هذا الانتماء حاشا أن يَقصُر عن الحاجات اليومية من ارتياد الأسواق، والدوائر الرسمية وغيرها.
وفي وسط هذا المشهد، كانت صورة مؤسفة لوطننا لبنان، هذا البلد الذي لطالما رَفدَته الروح الحسينيّة بأعز وأنبل القِيَم، ورسمت له - على صِغَر مساحته- صورة كبيرة بين دول العالم.
وإذا بالأصوات تتعالى فيه لوقف الإحياء العام والاقتصار على الإحياء المنزلي على الشاشات، لتُتَرجَمَ لاحقاً كقرارٍ رسمي بإغلاق الحسينيات تحت طائلة الملاحقة القانونيّة، دون أن يُترَك لهذه المراسم المقدَّسة حتى حق المساواة بالأعراس التي استثنيت من جميع إعلانات التعبئة الماضية، وسُمِحَ بها ضمن ضوابط الوقاية.
فهل للحسينيات خصوصيّة مانعة عن تطبيق تدابير الوقاية المطبَّقة في غيرها؟!
وقد تزامَنَ هذا القرار الحازم مع قرارٍ لا يَقِلُّ عنه غرابة، حيث فتحت الجامعة اللبنانية الرسمية أبوابها للطلاب لإجراء الامتحانات في فترةٍ مضغوطةٍ على مساحة الأسبوعين الأوَّلَين من شهر محرم الحرام، لتعرِّضَ الطلاب للاجتماع والاختلاط والتناوب على المقاعد - وإن كان مع التدابير الوقائية- وتشغلهم عن أداء حقِّ المراسم الحسينيّة المقدَّسة.
ولم يتم التراجع عن هذا القرار إلا بعد أن صدر قرار حظر التجوُّل مؤخراً، وذلك بعد أسبوع تقريباً من قرار حظر المجالس العامة.
مع العلم أنَّ امتحانات الفصل الماضي سجّلت وجود إصابات في بعض الكليّات ، ما يجعل الامتحانات الجامعيّة مستحقةً للوضع على رأس قائمة قرارات المنع في التعبئة.
فهل للوباء في لبنان ظروف استثنائية تجعل الاحتراز فيه انتقائيّاً خلافاً لسائر الدول؟!
ولكن لكي لا تخلو الأرض من مظاهر استحقاق الرحمة واللطف الإلهي، فقد بقيَت بقيّة في مدننا وقرانا الطيّبة وفيّة للعهد، رافعةً للراية، مستمرة بالإحياء بحرارةٍ لا تمنع التعقّل والأخذَ بسُبُل الوقاية، وعلى رأسها مدينة الحسين (عليه السلام)، وسفيرة كربلاء في جبل عامل، مدينة النبطيّة التي أبت إلا أن تواصل إحياءها للذكرى للعام الخامس عشر بعد المائة، ممتثلةً لفتاوى المراجع العظام، بلزوم إحياء الذكرى مع مراعاة تدابير الوقاية، لترسم معالم الأولويّة الحسينية، التي لا ترضى لعاشوراء إلا بموقع الضرورة التي لا تدانيها ضرورة، والفريضة التي لا تُترَك بحال، والوظيفة التي لا تؤثِّر الظروف عليها إلا بمقدار ما تحتاجه من تدابير، فكانت - كما دأبها- تذكرةً لأصالة التشيّع في هذا الجبل الأشم، وقدوةً يلحق بها من رامَ أن يبلُغَ الفتح.
إنَّ عاشوراء في حرارة إحيائها الجماعي صلاةُ أرواحٍ ، والصلاة لا تسقط بحال، بل غاية ما تفرضه عليها الظروف تيمُّمٌ في موضع وضوء، أو قعودٌ في موضع قيام.
وكفى بإلغاء المواكب وتباعُدِ الحضور، وسبلِ الوقاية والتعقيم احترازاً.
أمّا أن تُسجَّل سابقة الإحياء عبر الشاشات، رغم فتح الأسواق والجامعات والصالات، فهذا إشعارٌ خطيرٌ بترتيب مختلِفٍ لأولويات المجتمع الإيماني، يضع عاشوراء في خانة النافلة التي تَسقُطُ في السفر والخوف، وينزل بمرتبتها في سلَّم الحياة إلى موقعٍ هو دون الاستحقاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في رمزيّةٍ تُسقِطُ الهوية الإيمانية للمجتمع، وتُحوِّل ثوابته إلى متحوِّلات.
هي صرخة تستمدّ حرارتها من حرارة الذكرى، لعلّها تلاقي القلوب في ساعة يقظة، فتحفظ لنا موقعنا الميمون بين المجتمعات الحسينية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مرتضى شرف الدين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/08/20



كتابة تعليق لموضوع : عاشوراء : وأولوية الإحياء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net