بخطى وئيدة، يسعفها العكاز، حث المسير في ذلك الطريق الذي يبدو قصيراً للوهلة الأولى، طويلاً بالنسبة لشيخ قارب السبعين من عمره..
جلس يستريح من عناء السير، على مسطبة عتيقة جانب الطريق.. أنفاسه تتصاعد بسرعة قلبه المُتعَب الذي لا يعينه على بذل أيّ مجهود.. تأمل منظر الطريق أمامه.. سرح بفكره وهو يجول بذاكرته التي عرضت عليه صور أيام شبابه الخوالي.. تذكر زواجه.. وتذكر ولادة ابنه البكر ومراحل تدرجه، ونموه وكيف علمه النطق والسير واللعب، وكيف كان يتألم إن عثر ووقع على الأرض... لاحت دمعة من مآقيه ترقرقت على خده.. تمتم مع نفسه: يا لفعل الزمن.. كان صغيراً بريئاً، سرعان ما كبر وجحد..؟
جحد..!! نعم جحد من الجحود..!! وكأن هذه الكلمة وقعت على أم رأسه وأصابته بالهلع..!! انتفض من مكانه وكأنه فاق بعد غيبوبة، والتفت يميناً ويساراً وهو يتحدث مع نفسه: أين أنا..؟
هل ما حدث لي حقيقي أم انه من نسج خيالي..؟ هل جُننت لدرجة إنني لا أعي أين أنا..؟ يا الهي..!
أطرق هنيهة وجلس بكل يأس على المسطبة من جديد وهو يتمتم: آه لقد تذكرت..؟ وبدأ يضرب الأرض بعكازه وهو يقول: لقد تذكرت ويا ليتني لم أتذكر!! ويا ليتني أفقد ذاكرتي إلى الأبد..!!.
عاد بذاكرته إلى ذلك اليوم المشؤوم الذي قرر فيه ولده الوحيد أن يتخلى عنه بسبب زوجته، وتزاحمت الصور في رأسه.. كانت زوجة ابنه تعامله أسوأ معاملة.. وتتذمر منه بسبب أو بدون سبب، وتذكر أيضاً كيف انه سمع بإذنه ذلك الحديث الذي دار بين ابنه وزوجته واتفاقهما على إيداعه في دار المسنين؛ كونه أصبح عبئاً على الزوجة التي أثقل عليها وجوده، فلم يجد بُدّاً من الخروج من البيت قبل أن يطرداه..!
خاطب نفسه بألم وعتاب: هل قصرتُ في حق تربية ولدي..!! لقد كنت احرص على تطبيق رسالة الحقوق في حق ولدي، إذ يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في رسالة الحقوق : (وإما حق ولدك فتعلم انه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وانك مسؤول عما وليته من حُسن الأدب).
بدأ يعدد على أصابعه ويتمتم: (لقد علمته صغيراً كيف يحترم الكبير ويعطف على الصغير.. كيف يتصرف بمحضر الكبار، وكيف يحافظ على عفته، وان لا يكذب ولا يسرق ولا يظلم ولا يعتدي..) إذن أين الخلل..؟!
عاد بذاكرته إلى الوراء حاول أن يتذكر ما تقصيره مع ابنه..!! بدون جدوى وأكمل: يقول الإمام في تكملة الحديث: (.. والدلالة على ربه والمعونة على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب..) لقد حرصت على تعليمه تكاليفه الشرعية.. وترسيخ العقائد الإسلامية في ذهنه منذ الصغر، وأعنته على طاعتي فلم أكلفه بما لا يطيق من أوامر وتعاليم.. كنت ارقبه لأحميه من غوائل النفس الأمّارة بالسوء بالحُسن واللين..
إذن أين الخلل.. ؟!
- ليس هناك خلل فيك يا أبي..!!
التفت إلى الصوت وإذا به ابنه وهو يبكي.. ركع الابن على ركبتيه وهو يقبّل قدميّ والده الذي بدا مذهولاً لا يعرف ماذا يفعل..؟ وكأنه أصبح في عالم آخر..
- سامحني يا أبي..!! لم أعرف ما الذي دهاني حينما بحثت عنك ولم أجدك؟! كيف فكرت بالابتعاد عني؟! لقد كنت أتكلم مع زوجتي التي اقترحت عليّ ان نودعك في دار المسنين ولم أعلم انك تستمع إلينا... لكنك يا أبي لم تستمع إلى آخر الحوار، فقد كنت أجاريها في الحديث لأعرف نواياها اتجاهك، وحينما علمت ذلك خيرتها بينك وبين وجودها في حياتي التي لا أستطيع عيشها بدونك، وعنّفتها كثيرا وحينما ذهبتُ إلى غرفتك لم أجدك، فجنّ جنوني.. كيف يخيل إليك يا أبي أن أتخلى عنك أو أستطيع فراقك، فأنت سبب للخير في الدنيا بدعواتك تسير حياتي، وأنت سبب نجاتي في الآخرة ببري بك، فهل تريد أن تحرمني من خير الدنيا وخير الآخرة يا أعز من كل ما في الوجود.. لقد كنت تقرأ في رسالة الحقوق حق الابن، وانا كنت اقرأ فيها حق الأب الذي يقول فيه الإمام السجاد (عليه السلام): "وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك، وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلا بالله..".. فهل يخيل إليك إنني لم انتفع بما كنتَ تعلمني إياه؟!.. هيا يا أبي لنذهب إلى بيتنا الذي غرق في الظلام من دونك.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat