مع إشراقة كل صبح جميل تهب للعمل، تنتقل من زهرة لأخرى لتصنع العسل، شعارها التعاون ودثارها الأمل، إنها النحلة، مخلوقة مباركة تحدث عنها الكتاب العزيز وضُرِبَ لنا في الروايات بها المثل.
ترى لم لا نكون مثلها في عملها ونشاطها؟ ودقتها وهمتها؟ وجميل صنعها وعظيم أثرها؟!
كوني كالنحلة سلسلة مقالات هادفة، تأخذكم في جولة رائعة في عالم النحل العجيب، و تدعوكم للعمل الدؤوب.
وسنبدأ سلسلتنا هذه بحديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي يقول فيه:"مثل المؤمن كمثل النحلة، لا تأكل إلا طيباً، ولا تضعه إلا طيبا"، وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: "مثل المؤمن كمثل النحلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره".
ياله من تشبيه جميل يبرز فيه نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) رائعة من روائعه، يدعونا من خلالها للتأمل في واحدة من مخلوقات الله تعالى وعجيب بدائعه.
اذ يشبه النبي (صلى الله عليه وآله) المؤمن بالنحلة فيما يأخذ ويعطي، ولا شك أن هذا التشبيه النبوي يدعونا إلى الإطلاع على عالم النحل البهي؛ لنجمع هديا إلى هدي، فتتفاعل المعاني، وتكتمل الصور، ويتعمق الوعي، فنتحرك في الحياة بشكل سوي، ولا بأس أن نتوقف هنا عند ثلاث إشارات مهمة:
1. النحلة تأكل الطيب: فهي تتغذى على رحيق الأزهار وسكر الثمار، و كذلك ينبغي أن يكون المؤمن لا يأكل إلا الطيب الحلال، ولا يدع الحرام يدخل إلى جوفه أبدا مهما كانت الظروف والأحوال.
يتأسى بالكمل من الرجال الذين خلد القرآن الكريم ذكرهم فقال:"كذَٰلِكَ ذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طعاما..."، وهذه رسالة قرآنية مليئة بالالطاف الإلهية توجه الانظار الى الإهتمام بطهارة الطعام من جميع الأرجاس والشبهات حتى في أصعب اللحظات، فكما يؤدي تناول الطعام المسموم إلى تسميم الجسم وموت الإنسان، كذلك يفعل الطعام الحرام إذ يؤدي إلى تلوث الروح ومن ثم الضياع والخسران، ومن يراجع كلمات المعصومين (عليهم السلام) في هذا المجال، يجد تأكيدا كبيرا على الاهتمام بالطعام الحلال، وأثره على صفاء القلب ونقاء الروح واستجابة الدعاء،ورد في الروايات أنه جاء شخص إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) وقال له:
"اُحِبُّ أنْ يُستَجاب دُعائِي"، فقال له رسول الله (صلى الله عليه واله): "طَهِّرْ مَأَكَلَكَ وَلا تُدْخِلْ بَطْنَكَ الحَرامَ".
2. نتاج النحلة نتاج طيب مبارك: فكما أن النحلة لا تأكل إلا الطيب كذلك هي لا تعطي إلا الطيب، إذ تنتج العسل الذي هو غذاء ودواء، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن فلا يأتي منه إلا كل خير وكمال وعطاء، فكما يرجو الناس العسل من النحل ولا يخشون أن تفرز سما قاتلا كما تفعل الأفاعي، كذلك يرجى من المؤمن العمل الصالح والأثر الطيب، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " المؤمنون خيراتهم مأمولة وشرورهم مأمونة".
3. النحلة كائن إيجابي: فالنحلة إن وقعت على عود نخر متآكل لم تكسره؛ لأنها خفيفة الكلفة سهلة المؤونة، لا تثقل على أحد والكون منها في راحة، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن كائنا معطاء مباركا بناء يعمل دوما لخير البشرية، ويسعى إلى ترك بصمة مميزة في الحياة، لا كغيره ممن يفتقد الإيمان والشعور بالمسؤولية، فالمؤمن الحق هو من عرف الغاية من وجوده، والنهاية التي تنتظره، والهدف الذي ينبغي أن يصل إليه؛ لذا تجده حريصا على عمره، ذكيا في صرفه، دقيقا في اختياراته، حكيما في قراراته، مباركا في محضره، مسددا في منطقه، لا يفتر عن العمل لتعمير آخرته، ومد يد العون لغيره، يرفع شعار: "وجعلني مباركا اينما كنت"، ويتخذ من الدنيا سوقا يتبضع منه لدار إقامته، ويعد الساعات للقاء سادته وأئمته، ولا يدخر جهدا في الإعداد لاستقبال إمام زمانه والتمهيد لدولته، هو نحلة تتحرك بين أزاهير الإنتظار على أمل اللقاء، تعبُّ من رحيق الولاء حتى الإرتواء، وفؤادها معلق بألطاف رب السماء، تناديه في كل أحوالها أن قَرِّبْ أيامه، ولا تحرمني لذة النظر إلى محياه (عجل الله فرجه) وتقبيل الثرى الذي تطأه أقدامه، ولا ريب أن الرب سبحانه سيحقق لمن كان هذا حاله مع إمام زمانه أحلامه، ويريه نور إمامه، إن لم يكن في هذه الدنيا ففي الرجعة التي سيسمح فيها لمن أضناه الشوق والحنين لبزوغ فجر الصالحين، وتحقق الوعد الإلهي بالنصر المبين، وظهور الإسلام على كل دين، حينما تبتهج الأرض وتخلع ثوب الألم الذي إرتدته لمئات السنين، في تلك الأيام العظيمة سيأتي النداء لبعض المؤمنين، لقد ظهر إمامكم وبوسعكم الالتحاق به أو البقاء في رحمة رب العالمين،
ولا شك أن من براه الشوق إليه، سيهب من قبره للحاق به، ويكحل عينه بالنظر إلى ضياء وجهه، سيجثو على ركبته عند قدمي إمامه؛ ليبثه كل آلامه، ويشكر الله تبارك وتعالى على عظيم لطفه وجزيل إنعامه، وينهض بعدها ليكون في ركب أحبته وخدامه، حتى آخر أيامه، وإن لم يكن هذا متاحا له فسينتظر الآخرة التي ستتألق بضياء وجه إمامه المنتظر، ويا له من محضر، نسأله تعالى أن يوفقنا وإياكم له يوم الجزاء الأكبر.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat